المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور - الأديان الوضعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا

- ‌معنى الأديان الوضعية

- ‌فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيًّا

- ‌الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر

- ‌تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود

- ‌فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس

- ‌الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1)

- ‌الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند

- ‌مسألة التقمص أو نظرية التناسخ

- ‌الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2)

- ‌التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها

- ‌أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية

- ‌الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية

- ‌الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3)

- ‌بقية العقائد الهندوسية

- ‌الأخلاق عند الهندوسيين

- ‌نماذج من الفقه الهندوسي

- ‌الكتب المقدسة لدى الهندوس

- ‌الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4)

- ‌لويزا" كتاب الهندوس المقدس

- ‌من تقاليد الهندوس

- ‌اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح

- ‌العبادات الهندوسية والطقوس الدينية

- ‌الدرس: 7 الديانة البوذية (1)

- ‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

- ‌من أخلاق بوذا وأقواله

- ‌الدرس: 8 الديانة البوذية (2)

- ‌التعريف بالديانة البوذية

- ‌الأسس الفكرية للعقيدة البوذية

- ‌الدرس: 9 الديانة البوذية (3)

- ‌عقيدة البوذية وفلسفتها

- ‌من تعاليم البوذية

- ‌لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم

- ‌الدرس: 10 الديانة البوذية (4)

- ‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

- ‌الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية

- ‌موقف الإسلام من الرهبنة

- ‌الدرس: 11 الديانة البوذية (5)

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته

- ‌الدرس: 12 الديانة الجينية

- ‌تمهيد للديانة الجينية

- ‌تأسيس ونشأة الديانة الجينية

- ‌أهم عقائد الجينية

- ‌الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية

- ‌من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم

- ‌البوذية الصينية

- ‌أديان الهند في الميزان

- ‌الدرس: 14 الديانة المانوية (1)

- ‌من هو " مانو

- ‌النشاط التبشيري لماني

- ‌الدرس: 15 الديانة المانوية (2)

- ‌إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته

- ‌استرداد ذرات النور

- ‌أسطورة إغواء الأراكنة

- ‌المقاييس المضادة للمادة

- ‌الدرس: 16 الديانة المانوية (3)

- ‌الروح بمثابة مركز للفداء

- ‌الإيمان بالآخرة

- ‌علم التنجيم

- ‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

- ‌الدرس: 17 الديانة المانوية (4)

- ‌شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد

- ‌الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ

- ‌حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم

- ‌الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1)

- ‌أديان الفرس

- ‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

- ‌الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2)

- ‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

- ‌فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين

- ‌الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في النفس

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في المصير

الفصل: ‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

والذي يجعلنا نلحق هذه المعلومات بالأساطير شبه الإجماع عند علماء الأديان على أن الفستا لم تدون طيلة عدة قرون، كما أن التسليم بهذه الروايات يؤدي إلى عدم ضياعها وتحريفها، بينما المعروف أن أكثر من ثلاثة أرباعها قد فقد. إن أي كتاب ينال هذا الاهتمام حفظا وتدوينا كفيل باستمراره مع الزمن، وبخاصة أنه وجد بين دولة تقدسه وأمة تدين به لكن الثابت عدم استمراره، مما يؤكد أن الروايات المذكورة مبالغ فيها وبعيدة عن الواقع.

وقد اهتم علماء الدين الفارسي بشرح الفستا وإحاطته بالحواشي التي تشرحه وتفصله وتبين شرح شرحه، وذلك واضح من (الزند) وهو كتاب يشرح الفستا وقد ألف بعد الفستا بمدة طويلة و (البازند) وهو شرح لـ (الزند) و (الإياردة) وهو شرح لـ (البازند) وهذه الشروح كتبت باللغة الفهلوية لغة الفرس القديمة وترجمها العلماء في العصر الحديث إلى عدد من اللغات الحية مع ترجمة الفستا، والعلماء المحدثون يرون أن أهم ما يوضح العقيدة الدينية للفرس هو كتاب التراتيل المعروف باسم الياسنا وهو القسم الثالث من الفستا، ويرون أنه يتضمن العناصر القديمة للزرادشتية ويحتوي على أقوال زرادشت، لهذا نجد العلماء يهتمون بدراسة هذا القسم وتحليله أكثر من غيره.

‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

من هو زرادشت؟

اختلف علماء الدين في حقيقة شخصية زرادشت فمنهم من يرى أنها شخصية أسطورية لا وجود لها في الحقيقة، وقد صنعها الكهنة ورجال الدين الفارسي في خيال الناس وثنايا الكتب؛ من أجل تدعيم عملهم وتحقيق مكاسب لهم

ص: 430

ولذويهم، وعلى هذا الرأي فكل ما روي على لسان زرادشت اختلاق وتأليف سواء أكان منبعه دينا قديما أم وضعا بشريا محددا، والقائلون بهذا لا يجدون دليلا حقيقيا على ما ذهبوا إليه وكل ما يستدلون به ما يروى عن نشأة زرادشت وحياته، حيث يرون تشابها بين ذلك وبين أحداث تعرض لها رسل الله من أمثال إبراهيم وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- مما يدل على محاولة إلباس زرادشت ثوب الرسل.

وهذا الرأي لا يصح التسليم به لقيامه على الفرض المجرد من الدليل بينما الموضوع له أهميته، التي لابد لها من البراهين القوية والأدلة الساطعة، وأيضا فإن المكتشفات العلمية الحديثة تؤكد بطلان هذا الرأي، ومن العلماء من يرى أن زرادشت شخصية حقيقية وأنه كان رسولا مبعوثا، ويزعمون أنه هو إبراهيم عليه السلام الذي ورد ذكره في الكتب السماوية التوراة والقرآن الكريم، ويستدل هذا البعض بما ورد في سيرة زرادشت من أحداث تشبه بعض معجزات إبراهيم عليه السلام وبعض الأحداث التي حدثت معه مثل نجاة إبراهيم عليه السلام من النار بعد أن ألقي فيها، ومثل تأمله عليه السلام في الكواكب والنجوم ومثل دعوته إلى الإيمان بالواحد الخالق لكل هذه الظواهر ولجميع المخلوقات.

وهذه الأدلة لا تثبت مدعاها؛ لأن التشابه بين شخصين أو أكثر في بعض الأحداث أمر ممكن، كما أن من أحداث سيرة زرادشت ما يشبه بعض ما حدث مع موسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- مثل البشريات والإرهاصات العديدة التي جاءت لأمه أثناء مولده، ومثل نجاته بصورة معجزة من محاولات قتله المتكررة ومثل انتصاره على السحرة وإعجازه، ومثل هذا

ص: 431

التشابه جائز من غير أن يكون الشخصان شخصا واحدا، كما أن في إثبات هذه المعلومات شكا يجعل المرء يقف أمامها كأخبار لا دليل عليها.

ومن الحقائق الدينية أن الرسالة الإلهية تحتاج إلى برهان إلهي يؤكدها، وقد حدد القرآن الكريم أسماء خمسة وعشرين رسولا ليس منهم زرادشت، وأيضا فإن الأدلة الثابتة تؤكد أن زرادشت ليس هو إبراهيم عليه السلام لأن إبراهيم عليه السلام نشأ في بلدة أور ببلاد الكردان بينما زرادشت ولد بأذربيجان، ولأن إبراهيم عليه السلام رحل إلى مكة بينما زرادشت لم يرحل إلى بلاد الحجاز ولم تكن له بها صلة، ولأن إبراهيم تزوج من سارة وهاجر بينما زرادشت تزوج من امرأة واحدة هي هافوين، ولأن إبراهيم عليه السلام ظهر في القرن السابع عشر قبل الميلاد بينما ظهر زرادشت في القرن السابع قبل الميلاد، وكل هذا يؤكد أن زرادشت شخصية حقيقية وليس هو سيدنا إبراهيم عليه السلام وليس هو من الرسل الآخرين، فلقد عرفوا جميعا بأسمائهم وحقيقتهم وإذا ثبت هذا فمن يكون زرادشت.

نقول: ولد زرادشت في مدينة أذربيجان الواقعة غربي بحر قزوين في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، ويروى أن أباه كان يرعى ماشيته ذات يوم إذ تراءى له شبحان نورانيان اقتربا منه وقدما له غصنا مقدسا، وأمراه أن يحمل الغصن ويقدمه لزوجته لأنه يحمل في كيانه الطفل الروحاني فصدع أبوه بالأمر فحملت زوجته ليلتها به، وبعد خمسة شهور من الحمل أتت لأمه البشارات المتتالية، وعندما ولد لم يبك كسائر الأطفال وإنما قهقه بصوت عال اهتزت له أركان

ص: 432

البيت وهربت الأرواح الشريرة، وارتعد كبير السحرة فرقا لأنه يعلم أن هذا الوليد سيقضي على السحرة والكهان ويخرجهم من البلاد.

وقد تعرض زرادشت لمحاولات متعددة من السحرة لقتله بأن ألقي في طريق قطيع كبير من الماشية لتدوسه، لكن بقرة أسرعت نحو الطفل ووقفت فوقه تحرسه حتى مر القطيع، وألقي في وكر الذئاب لتأكله أو ليموت جوعا لكن الذئاب تسمرت وأقبلت عنزتان ودخلتا الوكر معه لترضعاه، ولما بلغ زرادشت السابعة من عمره أرسله أبوه إلى حكماء الفرس يتعلم منهم ويتلقى الحكمة، واستمرت هذه الفترة ثمانية أعوام تزوج خلالها وعشق مهنة خدمة المرضى وعلاجهم.

ولم تكن مصاحبة آلام الناس وأحزانهم النهاية في نشاط زرادشت، بل إنها كانت البداية حيث أخذ يتساءل ويبحث عن مصدر الشرور والمتاعب، ويعجب من عدم سيطرة الخير على كل شيء وقرر هجر زوجته والانقطاع للتأمل والبحث فوق جبل سابلان، وذات يوم أدرك من تأمله في الليل والنهار أن العالم يضم الخير والشر كما يضم الليل والنهار، وهكذا في صورة مستمرة من غير طغيان أحدهما على الآخر، ومع اكتشافه لهذه الحقيقة سأل نفسه لماذا خلق الخير والشر معا ولم يدم به التساؤل طويلا، فلقد أتاه كبير الملائكة وقاده إلى الله تعالى أهورامزدا إله النور الأعظم الذي يحيط به ضياء عظيم، حيث تلقى كلمات الحق والحقيقة وتعلم أسرار الوحي المقدسة واستمع إلى أمر النبوة، ونزل زرادشت من الجبل حاملا رسالة الله للإيرانيين ومعه كتاب الوحي، لكنه قوبل بالإعراض والصدود من قومه ومن عشيرته الأقربين.

وقضى في دعوته عشر سنوات متحملا الأهوال صابرا على الأذى محتسبا ذلك عند أهورامزدا، الذي ظل يؤيده ويقوي عزيمته ويثبت عقيدته بالوحي المتوالي

ص: 433

ويقال: إن الله كلمه شفاهة وظهر له كبار الملائكة، وبعد أن جاوز عمره الأربعين آمن أخوه بدعوته وأخبره بأنه يدعو بأفكار صعبة لا يفهمها إلا المتعلمون والخاصة، فبدأ زرادشت لساعته يدعو المتعلمين والخاصة مبتدئا بالملك قشتاسب والملكة والأمراء المقيمين في بلخ، وعقد الملك مناظرة بين حاشيته وبين زرادشت حتى تبين له صدق الدعوة فآمن به واتبعه.

لكن الكهنة دبروا مؤامرة كاذبة لزرادشت أدت بالملك أن يسجنه بتهمة السحر والشعوذة، وحدث أن جواد الملك أصيب بمرض غريب أدى إلى تقلص قوائمه الأربعة ودخوله في بطنه ولم يعد يظهر منها سوى الأطراف، وجمع الملك أشهر الأطباء لعلاج الجواد لكنهم عجزوا وأصيبوا بالحيرة أمام هذا المرض العجيب، وبلغ الخبر زرادشت وهو في السجن فأرسل إلى الملك وأخبره أنه يمكنه علاج الجواد فجيء به على الفور، فلما حضر طلب من الملك شروطا تتحقق إذا أبرأ الجواد فقبل الملك ونفذ الشروط بالفعل، فآمن به حينما برأت ساقه الأمامية اليمنى وآمن ابنه حينما برأت ساقه الأمامية اليسرى، وآمنت الملكة مع شفاء الساق الثالثة، وحاكم الملك المتآمرين على زرادشت بعد شفاء الساق الرابعة.

ومضت الأيام والخوارق تظهر لزرادشت حتى تم له النصر وانتشرت دعوته في إيران بمساعدة الدولة، وعلى رأسها الملك والأمراء، وبعدها اتجه زرادشت بدعوته إلى مملكة توران التي رفضت الدعوة واشتبكوا في حرب مع الإيرانيين، وحاصروا مدينة بلخ واستولوا عليها وأقبلوا على زرادشت وهو يصلي في المعبد وطعنوه في ظهره فسقط صريعا ومعه عدد كبير من الكهنة، وكان ذلك في سنة ثمانمائة وثلاث وخمسين قبل الميلاد تقريبا وعمره سبعة وسبعون عاما.

ص: 434

ولكن هل يعتبر زرادشت رسولا من الله تعالى لقومه على نحو ما سمعنا في قصته؟ هنا يختلف علماء الأديان حيث يذهب البعض إلى التسليم بسائر ما رويناه في نشأته، ويروي ما فيها من إرهاصات ومعجزات، وقيام زرادشت بدعوة قومه إلى توحيد الإله المسمى أهورا مزدا دليلا على رسالته ونبوته، ويمثل هذا الاتجاه الأستاذ حامد عبد القادر في كتابه (زرادشت الحكيم بين قدامى الإيرانيين) حيث يقول:"إن هذا الرجل إذا قيس بمقياس التاريخ وجب أن يعد في صف كبار الأنبياء الذين ظهروا في شتى البيئات والعصور، وأرشدوا الناس إلى طريق الحق والخير لما عرف عنه من دقة استقامة وشدة إخلاصه لربه وتفرغه لتقديسه، وقوة إيمانه برسالته وشدة تحمسه في نشر دعوته".

والكاتب يبين أهم الأسباب الدافعة إلى القول بنبوة زرادشت، ويوجزها في المعجزة ونزول الوحي والدعوة إلى الإيمان بإله واحد هو أهورمزدا أي أنا خالق الكون، يقول الشهرستاني:"ودين زرادشت عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث. ومن أقوال زرادشت: النور والظلمة أصلان متضادان وهما مبدأ موجودات العالم وحصلت التراكيب من امتزاجهما، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة، لكن الخير والشر إنما حصلت لامتزاج النور والظلمة والباري هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة".

ص: 435

ويشير الشهرستاني إلى ما ينسب إلى زرادشت من معجزات ومنها دخول قوائم فرس كشتاسب في بطن الفرس، وإطلاق زرادشت لها بعد أن عجز الأطباء، ومنها أنه مر على أعمى فوصف لقومه حشيشة عصروا ماءها في عين الأعمى فبرئ لتوه، وعلى هذا الاتجاه صار الأستاذ عباس العقاد في كتابه (الله) وقد سلم به ابن حزم بدون قطع وهو يعتبر أهل فارس أهل كتاب بصورة عامة، ويستدل على هذا بأخذ الجزية منهم وهم المجوس.

هذا؛ وهناك فريق آخر يرى أن زرادشت لم يكن رسولا مبعوثا من الله، وأن دعوته عبارة عن محاولة تطوير المجوسية القديمة، وتنقيتها من بعض تعاليمها التي بان فسادها بسبب الرقي العقلي، أو بسبب الاتصال بأصحاب الديانات الأخرى. يستدل أصحاب هذا الاتجاه بأن ما روي عن حياة زرادشت من معجزات وخوارق هي فعل الكهنة ومن الأساطير التي روجها العامة، كما أن دعوة زرادشت يشوبها الشرك وتعدد الآلهة لأنها تقدس الناس وتدعو لعبادتهم، كما أنها تنظر إلى أهورا مزدا أو أميرمن على اعتبار أنهما إلهان اثنان.

وبالنظر في هذين الاتجاهين نلمح ضعف الرأي الثاني، حيث لا دليل معه حول ما يزعمه من أسطورية نشأة زرادشت، كما أن الشرك وتعدد الآلهة وعبادة النار وجدت في المجوسية وهي ليست دعوة زرادشت. إن المجوسية لون من ألوان الشرك ظهر منذ فجر التاريخ وقد انتشرت في ممالك فارس القديمة، وتمكنت من أن تحرف دعوة زرادشت بعد وفاته، والذي ننبه عليه هنا هو أن المجوسية ليست هي الزرادشتية هذا من جهة، ومن جهة ثالثة لا نؤيد الرأي الأول على إطلاقه لضياع أغلب كتب الزرادشتية، كما أن البعض الباقي

ص: 436

يداخله شك كبير في إثبات صحة نسبته لصاحبه كما لا ننكره على إطلاقه أيضا؛ لأن إرسال الرسل في سائر الأمم أمر مقرر شرعا عند أصحاب الرسالات، ومن الجائز أن يكون زرادشت واحدا من هؤلاء الرسل.

إن الدعوة الإلهية تتضمن بشكل رئيسي الدعوة إلى الله الواحد الأحد المتصف بكل كمال يليق به الخالق لكل شيء، وتتضمن القيام بعبادات ونسك لهذا الإله، كما تشتمل على الأخلاق الفاضلة والتعريف باليوم الآخر بما فيه من حساب. إن أي دعوة تتضمن هذا هي دعوة رسول مرسل، فإن كان الرسول قد ذكر في الكتب السماوية نؤمن برسالته ونصدق بدعوته، وإن لم يرد ذكره في الكتب السماوية فإننا نتوقف مكتفين بالتسليم المجمل في قضية الإيمان بالمرسلين، وقد قال تعالى عن أنبيائه ورسله:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) فلعل زرادشت هذا ممن لم يقصصه الله عز وجل علينا، وعلى الجملة فإن الأولى هو التوقف في القطع برسالة زرادشت مع الاكتفاء بدراسة تعاليمه، كما وردت عند العلماء والإحاطة بما ذكر في هذا المجال.

كان هذا عن زرادشت واختلاف الناس حوله؛ فماذا عن الزرادشتية؟

نقول: عرف الفارسيون منذ القديم وقبل زرادشت بزمن سحيق الدين، ولكنه كان دينا قائما على تقديس الطبيعة واتخاذ مظاهرها آلهة يعبدونها، وكانت تصوراتهم الدينية لا تزيد عن الأمل في نماء الزرع ووفرة الخير والبركة، وقد ألهوا من بين ما ألهوا التماثيل والأصنام ووظفوا لخدمتهم الرهبان والكهنة، الذين أصبحوا طبقة مميزة عن سائر الإيرانيين جعلتهم يزعمون للناس وساطتهم الحتمية لمن يتقرب للآلهة.

ص: 437

وهكذا كانت فكرة قدامى الإيرانيين عن الدين وهم قدامى المجوس الذين اتبعوا المجوسية، وجعلوها دينا لهم وهم الذين كانوا قبل زرادشت، والمعلومات عن هذه الفترة تعتمد على الظن في أغلبها لعدم تدوينها وحفظها بطريقة ما، وجاء زرادشت وظهرت الكتب المقدسة مفصلة جوانب دين عرف بدين الفرس أو بالزرادشتية، نسبة لهذا الحكيم الذي له الفضل الأكبر في نشره بين الإيرانيين، يقول "جيمس هنري برستد":"الزرادشتية من أنبل الديانات التي ظهرت في العالم القديم حيث دعت كل إنسان، وأهابت به أن يختار أحد الطريقين إما أن يملأ قلبه بالخير والنور أو ينغمس في الشر والظلمة؛ ليلاقي جزاءه ويحاسب على ما آتاه". فما أركان هذه الديانة إذا؟ تتحدث الفستا وشروحها عن جوانب الدين الفارسي كما دعا إليه زرادشت بالتفصيل، وتحدد أهم معالمه وهي كما يلي:

1 -

الإيمان بالإله الواحد:

تدعو الزرادشتية إلى الإيمان بإله واحد قديم أزلي مجرد من الشهوات لم يولد ولن يموت، وأقوى الناس يشعرون بضعفهم أمامه ولا يقدر على إدراك حقيقته عقل بشري، ومن أجل أن يتمكن الناس من تصور هذه القوة الغيبية فقد رمز لهذا الإله برمزين ماديين مشاهدين هما الشمس والنار، فالشمس في السماء تمثل روح الإله في صورة يستطيع الإنسان إدراكها لما امتازت به من صفات؛ كالإشراق وبعث الدفء والسمو عن نزعات الشر ومجاله، والنار في الأرض

ص: 438

هي العنصر الذي يمثل للناس قوة الله العليا فهي قوة مطهرة نقية نافعة. ويسمى هذا الإله أهورا مزدا ومعنى هذا الاسم أنا الله الخالق.

ومما يدل على هذه العقيدة من نصوصهم قول زرادشت: "إلى أي أرض أفر إلى أي اتجاه يكون المهرب إلى النبلاء والسادة وهم يقاطعونني، أم إلى الناس وهم غير راضين عني أم إلى حكام الأرض الخونة، كيف أبلغ رضاك يا أهورا مزدا أجأر إليك لتكون لي عونا يعطيه صديق لصديقه، وعلمني بالحق كيف أحظى بالفكر الخير". وهذا النص يشير فيه زرادشت إلى ربه القادر حيث يتوجه إليه بالشكوى ويطلب منه العون، وقد أورد الشهرستاني مساءلات جرت بين زرادشت وبين الإله أهورا مزدا، تبين أن دين الفرس قائم على أن الله واحد. قال زرادشت:"ما الشيء الذي كان ويكون وهو الآن موجود؟ قال الإله: أنا والدين والكلام أما الدين فعامل أهورا مزاد، وأما الكلام فكلام". وصارت بقية الأسئلة والأجوبة حول حكمة خلق الكون وعن أصل الخلق وعن الرسالات السابقة وعن ملائكة الوحي.

ويبدو أن المراد بالفكر الخير في كلام زرادشت يعني أحد هؤلاء الملائكة العظام، وتبدو وحدانية الله عند الزرادشتيين من العهد الذي يجب أن يأخذه الزرادشتي على نفسه وفيه يقول:"لن أقدم على سلب أو نهب أو تخريب أو تدمير ولن آخذ بالثأر وأقر أني أعبد الإله الواحد أهورا مزدا، وأني أعتنق دين زرادشت وأقر أني سألتزم التفكير في الخير والكلام الطيب والعمل الصالح، ومن المسلم أن الله الواحد الخالق قد أوجد عديدا من القوى المخلوقة وفق حكمة معينة، ومنها قوة الخير وقوة الشر". وإليهما ترمز الزرادشتية بالنور والظلمة النور رمز الخير ويطلقون عليه اسم شترا والظلمة رمز الشر ويطلقون عليه اسم أهرمان.

ص: 439

وتؤكد النصوص أن هاتين القوتين عنصران أساسيان في قوام الحياة، أوجدهما الإله الخالق لينشط كل منهما من مجال خاص به، كما جاء في الياسنا الثلاثين ما يلي:"في البداية الروحان اللذان هما توأمان أحدهما الخير والآخر الشر في التفكير وفي الكلمة وفي الفعل، وبين هذين العاقل يحسن الاختيار وليس كذلك الأحمق، وعندما يرتد أحد الروحين على الآخر يعلمان أساس الحياة لا الحياة، وفي النهاية تكون أسوأ الأحوال للأنذال ولكن للأخيار الفكر الخير من هذين الروحين يختار الشر لعمل السيئات، ولكن الروح القدس يكون بجانب العدالة ويعمل آنئذ كل ما من شأنه أن يرضي الله الحكيم بالأعمال الخيرة".

وهذا النص صريح في أن قوة الخير وقوة الشر ليست محددة في شيء مادي معين، لكن يرمز لهما بشيء معين وأنهما من خلق الله وأمجاده، وبعد وفاة زرادشت دخل التغيير والتحريف في هذه العقيدة الموحدة، فظهر من قال بأن هناك إلهين هما إله النور وإله الظلمة، ثم قدست النار وعبدت وأقيمت لها المعابد والبيوت، وأصبحت الديانة الفارسية بعد هذا التحريف تعرف بالمجوسية، ذاك الاسم القديم الذي عرفت به أديان الفرس قديما، وأشهر المحرفين في الزرادشتية ماني ومزدك وديسطاي ومرقيون، وقد عرف الشهرستاني معتقداتهم بالتفصيل وسوف نجملها بعد الانتهاء من الزرادشتية إن شاء الله تعالى.

2 -

الإيمان باليوم الآخر:

تدعو الديانة الزرادشتية إلى الإيمان بالآخرة حيث يحاسب الإنسان على ما عمل قبل الموت؛ لينال جزاءه العادل في الجنة أو في النار، وتبين الزرادشتية منزلة النبي فيها في الآخرة فتذكر أن بيده تقرير المصير لأخطاء الناس،

ص: 440

ومن الياسنا الفقرة الرابعة والأربعين نقرأ: "حقا إنه هو النبي المرسل الذي توضع لروحه الساحرة كل خطايا البشر، ومع ذلك فدأبه كصديق تحيا به عوالم الحياة من جديد". ويلاحظ أن النص وهو يثبت هذه المنزلة لزرادشت لم يوضح سببها وهل تكون في منزلة الشفاعة أو في صورة أخرى، المهم أن عقيدة الفرس تدعو إلى الإيمان باليوم الآخر.

ويلاحظ كذلك أن للمتزوجين منزلة أعلى من العزاب وأن من له بيت وأسرة أفضل في الآخرة ممن لا أسرة له، وتعتبر أكبر الكوارث التي تحل بالرجل أن لا تكون له ذرية، ويذكرون أن أول سؤال يحاسب عليه الميت يدور في هذه المسألة، ولا يفترق تصور العقيدة الزرادشتية لما يحدث في اليوم الآخر عن التصور الإسلامي إلا في مسائل قليلة، فعقيدة الفرس أن الميت يحاسب عقب موته وعندهم أن الموتى يبعثون من رقادهم حينما تقوم الساعة، ويحشرون في مكان للحساب، وعندهم أن الجنة والنار منازل عديدة، ويختلفون عن التصور الإسلامي في أن الشقاء والسعادة في الآخرة تلحق الروح فقط، وفي أن الجنة تقع في أقصى شرقي جبال البرزخ حيث يتخيلون الجبل عاليا إلى مستوى النجوم، وعلى الجملة فإن العقيدة الزرادشتية تؤمن بالآخرة وما فيها.

الأمر الثالث: يتعلق بالعبادات، يقوم الزرادشتي بعبادات معينة يؤديها للإله أهورا مزدا، وأهم العبادات مجموعة من الأدعية يتلوها وهو يناجي الإله أو الملائكة أو الأرواح الهائمة، ودور العبادة تعرف بالهيكل حيث تقام الصلوات فيها خمس مرات في اليوم،

ص: 441

والهيكل على صورة دائرة في وسطه تقاد النار التي يتجه إليها الناس في صلواتهم التي يؤدونها في أوقات مرتبطة بحركة الشمس، كالشروق والزوال والغروب، والصلاة عبارة عن أقوال معينة يرددها المصلي وهو متجه إلى النار في ثبات.

والأقوال هي: "أرجو منك أيها الرب الخالق المطلق القدير أن تغفر لي ما ارتكبت من سيئات وما دار بخلدي من تفكير سيئ، وما صدر عني من قول أو عمل غير صالح. إلهي أرجو منك أن تباعد بيني وبين خطاياي حتى أحشد يوم الدين مع الأطهار الأخيار". وفي مجوسية الفرس المتأخرة نلحظ تقديسا وتعظيما للنار، فلا ينبغي للنار أن تطفأ ولا يوقع عليها ماء ولا تصلها أشعة الشمس والبيت الطيب هو الذي توقد فيه نار ولا يخلو معبد منها، وكانت المعابد تسمى بها وتعرف باسم هيكل النار، ورجال الدين الفارسي يسمون بالموابذة وعملهم الوعظ والتدريس والتعليم، ولهم منزلة كبيرة في المجتمع ولهم معاونون يعرفون بالموابذة، وهو معينون لإقامة الشعائر في المعابد وحراسة النار والمحافظة عليها.

وهذا نص ننقل ترجمته الحرفية من الياسنا الفقرة الرابعة والأربعين، يوضح جوانب العقيدة الزرادشتية وهو على صورة حوار بين زرادشت وأهورا مزدا: "عن هذا أسألك يا أهورا مزدا فأين لي الجواب من كان عند الخلق أول أب للحق؟ من رسم للشمس والنجوم طريقها إذا لم تكن أنت فمن قرر نماء وشحوب القمر؟ أريد أن أعرف هذا أيها الواحد الحكيم عن هذا أسألك فأين لي الجواب؟ من أقر الأرض تحت والسماء من فوق بسحابها لا تتحرك ومن أسرج للريح جيادها عن هذا أسألك فأين الجواب؟ أي صناع خلق الضياء والظلام أي صناع خلق النوم واليقظة؟ من خلق الصبح والضحى والأمسية عن هذا أسألك

ص: 442

فأين لي الجواب؟ من شرع العبادة مقدسة مع الملكوت. ويتحتم على المرء أن يسترشد بالدين وبالعبادة وهي جميعا تجعل العابد في هناء عن هذا أسألك فأين الجواب؟ هل سأصل بعونك إلى هدفي هل سأحظى ثوابا من الحق الآلهة الزائفة؟ هل هي آلهة حقا؟ ". وهذا النص يبين عقيدة الزرادشتيين في الإله والعبادة والثواب بصورة مجملة.

رابعا: الشريعة والأخلاق:

تهتم الديانة الزرادشتية بالشرائع والأخلاق وبخاصة في الشروح التي تعلقت بالفستا، ومن أهم هذه النظم العمل والإنتاج والإنتاج الزراعي وتربية الماشية، كما تحث على النظام والنظافة وصيانة النفس والوطن، كما تدعو إلى مجموعة من فضائل أخلاقية التي أساسها الفكر الطيب والكلم الطيب والعمل الطيب، وفي نصوص الفستا دلالات واضحة على الأخلاق الكريمة التي يجب أن يتحلى بها من يدخل في دين زرادشت. هذه أهم أركان الدين الفارسي كما جاءت في مصادره المقدسة.

ومما تشعب عن ديانة زرادشت الديانه المانوية والمزداكية مأخوذة عن ماني ومزدك، حيث ظهر ماني ومزدك في بلاد فارس وقد نادى كل منهما بدعوة خاصة دينية في إطار الزرادشتية إيجابا أو سلبا، وتعد هاتان الدعوتان أكبر الحركات التحريفية في الدين الفارسي إذ أبعدتاه عن كل مضمون صحيح، أو عن أي التقاء مع بعض المبادئ المسلمة في الأديان الصادقة، وكان لهذين الرجلين آثار واضحة نظرا لصلتهما بالسلطة ورجال الحكم، الأمر الذي ساعدهما على فرض آرائهما بالقوة والعنف، ويلاحظ أن هذين الرجلين ظهرا بعد ظهور

ص: 443

عيسى عليه السلام ولذلك كان اختراعهما للدين عبارة عن مزج للفكر البشري، وإدخاله في ثنايا فكر ديني صحيح.

يقول الشهرستاني: "إن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا قويين حساسين دراكين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان وفي الخير متحاذيان تحاذي الظل للشخص أو تحاذي الشخص والظل، وفي رأي ماني أن ما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور وما فيه من مضرة وشر وفساد فمن أجناس الظلمة، وهذان القديمان النور والظلمة يمتزجان ويفترقان وفق فلسفة معينة عند ماني".

ويرجع سبب الامتزاج إلى أن الظلمة قد تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور قد بدا فمازجته فرأى ملك النور ذلك فبعث خمسة أجناس نورانية امتزجت بخمسة ظلامية، وبذلك خالط الدخان الهواء والحريق النار والنور والظلام والسموم الريح والضباب الماء، ولما ظهر هذا الامتزاج لملك النور خلق العالم كله على هيئة الامتزاج مستعدا لتخلص كل عنصر من غيره، وبذلك يحدث الخلاص التام في يوم القيامة والميعاد.

وحديث ماني عن ملك النور وملك الظلمة يعتبرهما إلهين؛ لأن كلا منهما محيط بعالمه ظاهر وباطن قديم لا أول له ولا آخر له ولا نهاية له، وقد تضمنت دعوة ماني تكاليف معينة كتأدية أربع صلوات في اليوم وإخراج العشر من الأموال، وترك القتل والعدوان والبعد عن السرقة والزنا وهجر عبادة الأوثان والكذب والسحر، كما تتضمن الدعوة إلى الحق والتمسك بالأخلاق الفاضلة، ويعترف ماني برسالة عدد من الرسل منهم عيسى عليه السلام وينكر رسالة موسى عليه السلام.

ص: 444

ولماني تصور معين لقيام الآخرة التي يحاسب فيها الناس على أعمالهم، حيث ترتفع الأعمال النورانية إلى فلك القمر فيكبر شيئا فشيئا وتتغير صوره تبعا لذلك، فإذا بلغ منتهاه يصل للشمس التي توصله بدورها إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال الأمر كذلك حتى لا يبقى نور في الأرض فيسيطر الملك الذي يجذب السموات فيسقط الأعلى على الأدنى، وتأتي النار على كل شيء هذا عن أفكار ماني.

أما مزدك فلقد ظهر زمن الملك قباث قبيل ظهور الإسلام، وكان يقول بالنور والظلمة كأصلين قديمين كما قال ماني، إلا أنه يفترق عنه في أن النور يفعل بالقصد والظلمة تفعل بالصدفة والنور عالم حساس والظلام جاهل أعمى، وأن المزج بالاتفاق والخلاص بالصدفة. ويدعو مزدك إلى الطاعة وترك الكراهية والقتال، كما دعا مزدك إلى شيوعية عامة في المال والنساء حتى لا توجد كراهية بين الناس، ولذلك اعتبر مزدك من أقدم الشيوعيين في العالم، وقد كلف مزدك أتباعه بعبادات معينة وصور الآلهة المعبودة بصورة جسمية، حيث جعله قاعدا على كرسيه العلوي يعاونه أربع قوى من ورائهم سبعة آخرون وهكذا.

آراء العلماء في دين الفرس:

اتخذ العلماء مواقف متعددة في تفسير نشأة الزرادشتية وتطورها؛ فمن قائل بالتطور الديني على أساس أن عقائد الفرس بدأت بالخرافات والأساطير وتأليه الظواهر المحسوسة، مع تعدد الآلهة، وأنها استمرت في التطور حتى عرفت التوحيد الخالص في المراحل الراقية، ومن قائل بأن الرسالات الإلهية ظهرت في بلاد الفرس، وأنها هي التي علمت الناس هناك وحدانية الله تعالى وهكذا.

ص: 445

إن الحقائق العلمية تؤيد القول بوجود رسالات صحيحة في الفرس على الأساس الذي بيناه من قبل؛ وهو إرسال الرسل إلى جميع الأمم، ولأن العقول البشرية لا تصل وحدها إلى التوحيد الخالص بحقائقه التي يأتي بها الرسل.

وأيضا فإن التطور يقتضي الترقي المستمر نحو الأفضل، بينما في أديان الفرس تذهب إلى الأسفل والأدنى، إذ نرى أن دعوة من جاءوا بعد زرادشت كانت انحدارا وانتكاسا، حيث دعا ماني ومزدك وغيرهما إلى تعدد الآلهة بعدما دعا زرادشت إلى التوحيد، ومع ترجيحنا هذا فإن القول بأن زرادشت هو الرسول المبعوث لا نعلق عليه نفيا أو إثباتا؛ حيث لا تنهض الأدلة مثبتة أو نافية، وكل ما يمكن القول به أن النبوة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست ممنوعة، لكن الإيمان برسول معين يتوقف على ورود ذكره في القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي قص أخبار بعض الرسل وأشار إلى وجود رسل لم يرد لهم ذكر، ولذلك لزم التسليم بإمكانية إرسال رسول لكل أمة من غير تعيين شخصه ما لم يرد له ذكر في القرآن الكريم.

وفاة زرادشت:

بعد حياة حافلة بالعطاء كما يعتقد الزرادشتيون وكما ذكر كثير من الباحثين حانت منية زرادشت، وأتاه الموت بعد عمر يقرب من سبع وسبعين سنة مات زرادشت. يقول صاحب كتاب (الأسفار المقدسة): "وقد قضى زرادشت نحبه حوالي سنة خمسمائة وثلاث وثمانين قبل الميلاد على أرجح الأقوال، وهو في نحو السابعة والسبعين من عمره في أحد الهياكل المقدسة في بلخ، ومات قتيلا وهو يقوم على خدمة النار في أثناء غارة التورانيين على بلاد إيران، فقد وصلوا إلى بلخ بينما كان زرادشت وثمانون من كبار الكهنة يقدمون الوقود للنار في هيكل هذه المدينة،

ص: 446

فهجم عليهم الأعداء وطعنوهم بسيوفهم فخر الجميع صرعى وسالت دماؤهم، فلطخت جدران وموقد النار وامتدت للنار المقدسة نفسها فأخمدتها".

وعلى هذا فقد مات زرادشت بعد عمر بلغ سبعة وسبعين عامًا، وهو أمام الموقد أو أمام موقد النار التي قدسها وعبدها الزرادشتيون فيما بعد، ولكنه إذا كان زرادشت قد مات فإن شرعته ما زالت حية وقائمة ولها مصادرها المقدسة، ولئن كنت قد تحدثت عن أهم تلك المصادر في ديانة الزرادشتية -ألا وهي الفستا- فينبغي أن نذكر بقية المصادر المقدسة للزرادشتية والتي منها: أسفار الأبستان والجانات والسنا والعسبرد والفنديراد والستات والخرداستا وشروح الأبستان وأسفار أخرى.

وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 447