المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج - الأديان الوضعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا

- ‌معنى الأديان الوضعية

- ‌فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيًّا

- ‌الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر

- ‌تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود

- ‌فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس

- ‌الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1)

- ‌الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند

- ‌مسألة التقمص أو نظرية التناسخ

- ‌الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2)

- ‌التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها

- ‌أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية

- ‌الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية

- ‌الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3)

- ‌بقية العقائد الهندوسية

- ‌الأخلاق عند الهندوسيين

- ‌نماذج من الفقه الهندوسي

- ‌الكتب المقدسة لدى الهندوس

- ‌الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4)

- ‌لويزا" كتاب الهندوس المقدس

- ‌من تقاليد الهندوس

- ‌اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح

- ‌العبادات الهندوسية والطقوس الدينية

- ‌الدرس: 7 الديانة البوذية (1)

- ‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

- ‌من أخلاق بوذا وأقواله

- ‌الدرس: 8 الديانة البوذية (2)

- ‌التعريف بالديانة البوذية

- ‌الأسس الفكرية للعقيدة البوذية

- ‌الدرس: 9 الديانة البوذية (3)

- ‌عقيدة البوذية وفلسفتها

- ‌من تعاليم البوذية

- ‌لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم

- ‌الدرس: 10 الديانة البوذية (4)

- ‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

- ‌الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية

- ‌موقف الإسلام من الرهبنة

- ‌الدرس: 11 الديانة البوذية (5)

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته

- ‌الدرس: 12 الديانة الجينية

- ‌تمهيد للديانة الجينية

- ‌تأسيس ونشأة الديانة الجينية

- ‌أهم عقائد الجينية

- ‌الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية

- ‌من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم

- ‌البوذية الصينية

- ‌أديان الهند في الميزان

- ‌الدرس: 14 الديانة المانوية (1)

- ‌من هو " مانو

- ‌النشاط التبشيري لماني

- ‌الدرس: 15 الديانة المانوية (2)

- ‌إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته

- ‌استرداد ذرات النور

- ‌أسطورة إغواء الأراكنة

- ‌المقاييس المضادة للمادة

- ‌الدرس: 16 الديانة المانوية (3)

- ‌الروح بمثابة مركز للفداء

- ‌الإيمان بالآخرة

- ‌علم التنجيم

- ‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

- ‌الدرس: 17 الديانة المانوية (4)

- ‌شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد

- ‌الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ

- ‌حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم

- ‌الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1)

- ‌أديان الفرس

- ‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

- ‌الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2)

- ‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

- ‌فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين

- ‌الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في النفس

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في المصير

الفصل: ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الحادي عشر

(الديانة البوذية (5))

‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فحدَّثتُك عن نشأة الرهبنة في البوذية وأصولها، وانتقالها إلى المسيحية، وآدابها ونظمها ونحو هذا، ثم أردفت الكلام عن وجهة نظر الإسلام في الرهبنة والرد عليها، وأن الإسلام حرمها ومنعها، وعدَّها بدعة من البدع التي اخترعها النصارى ومن سبقهم {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: 27).

ولما كان قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8) من الآيات التي يمكن أن تُفهم خطأ بمعنى الرهبنة، فقد بينا الفرق بين التبتُّل الصحيح بمعنى الانقطاع إلى الله عز وجل في العبادة وإخلاص العبادة له، وبين الرهبنة المرفوضة أو التبتل المذموم بالعزوف عن الزواج، الذي جعله الله عز وجل آية وجعله نعمة، وجعله سبب عمران الكون، وسنة الأنبياء والمرسلين، ودأب الصالحين.

وأرى لزامًا علي أن أبين حكم الإسلام ووجهة نظره في معالم الرهبنة، من حيث العزوف عن الزواج، والدعوة إلى الفقر، والتسول، وما إلى ذلك من مظاهر، نبين فيها حكم العقل، وحكم الشرع في هذه المسألة التي قد يظنها الناس أنها من حسنات البوذية، ومن حسنات النصرانية، ومن سلك ملكهما وصار على ضربهما.

حدثتك أن الزواج نعمة من نعم الله عز وجل وأن اتصال الرجل بزوجته هو من أماثل الأعمال وأفضلها في الإسلام؛ لما يترتب عليها من كسر حدة الشهوة في الحلال، ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام:((إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأتِ أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه))، أخرجه مسلم، وهكذا يعترف الإسلام بأمر الفترة عن طريق الوضع السوي لكل من الرجل والمرأة في إطار يرتضيه رب العالمين دون أن يعتبر إفضاء كل منهما للآخر داخل هذا الإطار، نافيًا من التدرج حتى في شخص الأنبياء دون أن يمنعهم ذلك من أهلية التلقي عن الله، والوحي إليهم، واصطفائهم، والإسلام يرفع هذا الحرج فيقول الله في القرآن:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223)، كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:((وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فقال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر)) قالوا: نعم. فقال: ((كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر))، وقال عليه الصلاة والسلام:((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).

ويؤكد الرسول عليه الصلاة والسلام على أن الزواج من سنن المرسلين فيقول عليه الصلاة والسلام: ((أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر، والسواك، والنكاح))، فالنكاح وآثاره من إنجاب الذُّرية من سنن الأنبياء، وهم المصطفون الأخيار، الذين لم تشغلهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله، ومن هنا جاء التحذير من

ص: 261

الانشغال بالأولاد عن الله عز وجل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون: 9)، فالخسران حصل لهم بسبب الانشغال لا بسبب آخر، فالواقع يشهد أن وجود الأولاد قد يُحصل به الإنسان درجات من الرقي الأخلاقي في حالتي الحياة والموت، فإذا عاشت الذرية فلعل منهم من يُجاهد في سبيل الله ويحصل الشهادة، وإذا مات كان فرطًا لأبويه ينتفع به أبواه أو ينتفع هو بأبويه، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، وقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام لخادمه أنس رضي الله عنه استجابة لطلب أمه فدعا له قائلًا:((اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيت)).

ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما دعا له بخير، وحتى يوم القيامة ينعم الله على عباده فيقول:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 23، 24)، وقوله جل وعلا:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: 21).

ولم يكتفِ الإسلام وهو يقدم الدواء لهذا الداء ببيان مفهوم التبتل الصحيح ووسائله وجوهره، وكون الزواج من سنن المرسلين، وتمني الذرية شيء مغروس في الفطرة، ولم يكتفِ بذلك، بل عمد إلى النهي عن التبتل صراحة، وعدَّه غلوًّا في الدين يتنافى مع وسطية الإسلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها -أي: عدوها قليلة- فقالوا: أين نحن من النبي عليه الصلاة والسلام-

ص: 262

وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أما أنا أصوم ولا أفطر، قال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).

فالإسلام راعى الفطرة في بناء التكاليف عليها، حيث لا تكون مصطدمة معها، أو مهملة لمقتضياتها المادية والروحية، ومن ثم لم يقبل النبي عليه الصلاة والسلام أي سلوك شاذٍّ عنها، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا.

بينما يرى الفكر الكنسي أن الذين خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله هم أعلى مرتبة، حيث يقول متَّى: لأنه يوجد خصيان وُلِدوا كذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات، من استطاع أن يقبل فليقبل.

أرأيت إلى انتكاسة الفطرة كيف تكون، بينما الإسلام يُعلن رفضه للرهبانية صراحة، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضًا قال: لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان من ترك النساء، بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:((يا عثمان إني لم أُمر بالرهبانية، أرغبت عن سنتي؟))، قال: لا يا رسول الله. قال: ((إن من سنتي أن أصلي وأ نام، وأ صوم وأطعم، وأنكح، وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني، يا عثمان إن لأهلك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا))، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء، وذكرك في

ص: 263

الأرض))، الحديث. كما قال عليه الصلاة والسلام أيضًا:((تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى)).

وهكذا يرفض الإسلام الرهبانية رفضًا قاطعًا بطرق عدة منها: الأمر المباشر بالزواج، ومنها النهي الصريح عن التبتل والرهبانية، ومنها تصحيح مفهومها، وأنها تعني في الإسلام الجهاد والضرب في نحور الأعداء، ومنها اعتبار من أرادوا أن يسلكوها مُغالين في الدين كحديث الرهط، وحديث عثمان بن مظعون سالفَي الذكر، فهذه مواقف فردية معدودة من بعض الصحابة تشير إلى الاتجاه إلى سبيل الغلو والتشدد في الدين، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان لهم بالمرصاد، فردهم عن هذا السبيل، قوَّم هذا العوج، وصحح نظرتهم فاستجابوا للفطرة التي جاء بها الإسلام لأنها الأصل {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30)، أي: ما ينبغي أن تُبدل تلك الفطرة أو تغير؛ لأنها بمعنى الإسلام عند عامة أهل العلم والسلف وأهل التأويل، فمصادمة ذلك إنما هو انحراف عن الصراط المستقيم؛ حيث انعقد الإجماع في كل الشرائع السماوية والأخلاقية السوية على أن الزواج هو الوضع السوي لكلٍّ من الرجل والمرأة.

فالزواج في الهندوسية رباط مقدس، وهو إلتزامي للجميع، حتى إن الرجل عندما يصبح أرملًا يتخلى عن رئاسة الأسرة لتنتقل إلى ابنه المتزوج، والسبب في ذلك يرجع للاعتقاد بأن الأعزب لا يستطيع أن يقوم بتقديم القرابين للأسلاف، كما يعتقد الهندوس أن سعادة الفرد في الآخرة سوف تتوقف على تسلسل أعقابه من الذكور، وعلى ما يقدمه هؤلاء للأرواح من صلوات وأدعية وأضحية، وقرابين في مختلف المناسبات والأعياد.

ص: 264

فالعزوبة تعرض روح الأعزب وأروح سلفه للشقاء، ومن ثَمَّ فهو جرم كبير يقترفه الأعزب في حق نفسه وآبائه؛ ولذا فإن الزواج يُعدُّ عندهم أحد الفروض العينية الواجبة على الفرد، ولم يكن محارمًا على الرجل أن يقترن بأي امرأة من ذوي قرباه ما عدا المحرمات، وكان على الأرملة أن تقترن بعد وفاة زوجها بأخيه أو أحد أقاربه.

والبرهمية تلتقي مع اليهودية من حيث محاربة الفردية ووجوب الزواج، وهما يعتبران الأعزب القادر على الزواج ولا يتزوج مخربًا في بناء الله يعمل على إطفاء نوره، وعليه فالأعزب فاسد ضار.

وإذا كان الأمر كذلك فإن القائلين بالرهبانية خالفوا العقل والنقل؛ حيث خالفوا التوراة التي جاء فيها قول الرب لأدم وحواء: وقال لهم: "أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض" سفر التكوين، الإصحاح الأول الفقرة التاسعة والعشرون، وجاء فيها أيضًا:"ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي"، سفر التكوين الإصحاح الثالث الفقرة الحادية والعشرون. وأيضًا:"من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا" سفر التكوين الإصحاح الثاني الفقرة الخامسة والعشرون. وأيضًا: "وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين" سفر التكوين، الإصحاح الرابع الفقرة الأولى.

وقد خالفوا الإنجيل أيضًا، حيث ورد فيه ما يفيد أن الزواج مبارك من حيث ثبت المسيح رباط الزيجة وباركه بحضور العرس في قانا الجليل، وقانا الجليل: اسم عبري معناه مكان القصب، وهو في الجليل بمكان عالٍ بالنسبة إلى كفر ناحوم، ويقال بأنها تقع بالقرب من صيدى ويقول بعضهم: إنها تقع شمال شرقي الناصرة بأربعة أميال، كذا في قاموس الكتاب المقدس.

ص: 265

والنص يقول: "وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك، ودُعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس" يوحنا الإصحاح الأول الفقرة الأولى والثانية.

أما مخالفة الرهبانية للعقل والواقع، فلنترك الواقع الاجتماعي لمن شددوا على أنفسهم بتحريم ما أحل الله له، يتكلم حيث أدت إلى مفاسد وانحرافات في سلوك الرهبان أنفسهم، داخل جدران الأديرة التي عجَّت بألوان الرذيلة التي مارسوها في الأماكن المقدسة وخارجها. راجع كتاب (الجنس في الكنيسة)، وكتاب (فضائح الكنائس)، فلا تقع عينك إلا على ما يشين، ويلطخ الحياة الرهبانية من الفضائح الشنيعة، والدعارة التي لا تضارعها دعارة مواخير الفساد. كتاب العلمانية سفر الحوالي.

حيث انتشر اللواط بين رهبان المعبد في قصة الحضارة لوول ديورانت، وكذلك انتشر الاغتصاب على يد الرهبان، وراح النصارى يدافعون عن هذه الجرائم ويتحدثون عنها باسم الإيمان والرجاء والمحبة، أي إيمان؟! لقد حرم الرهبان والراهبات على أنفسهم الزواج لأن لا ينشغلوا عن الله فانحرفوا عنه بالكلية، وأدَّى غلوهم في دينهم إلى العكس تمامًا، فبدلًا من أن تصبح هذه الأديرة أماكن طاهرة إذا بها تصبح مواخير الفسق والدعارة للمترهبنين والمترهبنات، وأما الفرد العادي فقد ضعفت ثقته بالدين وتزعزعت في نفسه القيم والأخلاق الدينية، كيف لا؟ وهو يرى خصيان الملكوت ومثال الطهر يغرقون في الفجور، فأيهما يتفق مع العقل والواقع، أمصادمة الغريزة والفطرة والعقل والنقل؟ أم السير في الإطار الصحيح بالزواج؟ فالمسيح لم ينه عنه! ولم تتح له فرصة الزواج، بل إنه حضر وبارك العرس كما ذكر يوحنا، كما أن وضع

ص: 266

المسيح وكونه آية للناس فعدم زواجه خصوصية من خصوصياته ولم يأمر بالاقتضاء به فيها، وكذلك الحال بالنسبة لسيدنا يحيى حيث كان حصورًا حسب بشارة الملائكة به {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 39)، والحصور: الذي لا يأتي النساء، إما من العِنَّة والاجتهاد في إزالة الشهوة، والثاني أظهر في الآية؛ لأنه بذلك يستحق الرجل الحمد.

ومن ثمََّ التبتل ليس من فطرة الإنسان ولم يأمر به أي نبي من الأنبياء، ومنهم أنبياء بني إسرائيل موسى وعيسى وسليمان وغيرهم، ومن قبلهم سيدنا إبراهيم، وسيدنا يعقوب فهو من سنن المرسلين، من آدم إلى مسك الختام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالتبتل لم يشهد له الواقع الديني والتاريخي والاجتماعي، فهو شذوذ عن القانون العام للأديان، وخروج عن القصد الحسن والسير المعتدل عن الصراط المستقيم، ومن ثَمَّ فشل التبتل في تحقيق المقصود به، وهو الانقطاع إلى الله؛ فأدَّى إلى الانقطاع عن الله؛ هذا لمخالفتهم السنة الإلهية القائلة {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49).

وإذا كان مستند القائلين بالرهبنة والتبتل هو الهرب من المرأة؛ لأنها أصل الشر والخطيئة، فلماذا أوجبوا الرهبنة عليها هي الأخرى، وممن ستهرب هي الأخرى، إن هذا التناقض ليدل على الضلال الفكري والسلوك؛ لأنه ماذا بعد الحق إلا الضلال، بينما يرى الإسلام أن المرأة مخلوق مكرم كالرجل، وأن الوسوسة والأكل من الشجرة منسوب إلى آدم وحواء معًا، وعتاب الله توجَّه لهما معًا، حيث يقول سبحانه في القرآن الكريم المعصوم من التحريف، والمهيمن على ما سبقه

ص: 267

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 21 - 23).

فليست المرأة في الإسلام أصل الشر، بل هي كالرجل في التدرج في مدارج الكمال الأخلاقي أو العكس {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8)، كما قال الله جل وعلا:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35)، فمدار الأمر أمام الله على أساس عمل الخير أو الشر، لا على أساس ذكر أو أنثى؛ بل قد عاب القرآن على من إذا بُشِّر بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم، فقال تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58، 59).

بل إن الإسلام يباهي بنماذج من النساء صرن مضرب المثل في الطاعة، وضرب بهن المثل للمؤمنين حيث قال رب العالمين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ

ص: 268

الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم: 11 - 12).

ويؤكد تلك الحقيقة المرتكزة على العمل لا غير قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97). ومن ثم لم تكن المرأة أصل الشر والخطيئة لذاتها، بل إذا انحرفت كانت سببًا في الخطيئة لانحرافها لا لشيء آخر {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التحريم: 10)، لكن عند عدم الانحراف يتنافس كل من الرجل والمرأة في مرضات رب العالمين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

الأمر الذي يؤكَِّد أن زعم القائلين بأن المرأة هي أصل الشر والخطيئة، وبالتالي لزم الأمر منها بالتبتل، فيكشفه لنا وول ديورانت الذي يفسر عداوة الرهبان للمرأة بأنه يرجع إلى ضعفهم أمام مفاتن المرأة؛ حيث يقول:"وكانت الفضيلة تبدو لبعض الرهبان بأنها صراع نفساني بين المرأة والمسيح، ولم يكن تشهيرهم بالنساء إلا جهودًا يبذلونها لإماتة شعورهم بمفاتنهن، كما كانت أحلامهم الصالحة التقية في بعض الأحيان يرطبها ضباب الشهوة" ثم يستطرد قائلًا "ولقد استخف الرهبان وهم يقسمون بأن يبقوا عذابًا بقوة الغريزة الجنسية التي يستثيرها مرارًا وتكرارًا ما يشاهدونه من مناظر، وأمثلة من غير رجال الدين".

ومن هنا أصبح الرهبان تحت تأثير وحكم الغريزة التي تحاول الظهور كلما أمكنها ذلك، فغدت غرائزهم أقوى من إيمانهم، حتى إن رئيس الدير إفشام لم يكن أحد بمنجاة من فجوره. وكانت قصائد الحب متداولة بين الرهبان، وكانت

ص: 269

التماثيل المقامة في بعض الكنائس الكبرى والنقوش المحفورة في أثاثها، بل الرسوم المصورة في بعض الكتب المقدسة نفسها تُمثل عبث الرهبان والراهبات، تمثل خنازير في ثياب الرهبان، وأثواب الدير بارزة فوق أعضاء التذكير المنتصبة، والراهبات يعشن مع الشياطين.

ولكن رجال الدين في هذه الأيام رأوا من الخير إزالة الكثرة الغالبة من هذه الرسوم، ثم يعتذر ول ديورانت عن هذا الفجور قائلًا "وقامت طائفة متتابعة من المصلحين الدينيين ببذل ما في وسعها من الجهد، لكي تعيد الرهبان ورؤساء الأديرة إلى المُثل العليا التي جاء بها المسيح". قصة الحضارة، المجلد الثامن، الجزء السادس عشر، الصفحة مائة وواحد وثمانين.

وأنَّى لهم ذلك، وهم يسيرون ضد فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، وهم يبغونها عوجًا بتبديلها، والله غالب على أمره، فإذا أراد الفكر الرهباني أن يرد جماح غلو الرهبان والراهبات إلى المثل العليا حقًّا فليصغوا إلى ما جاء به الإسلام الذي يعترف بالإنسان، وكونه كلًّا ولا يتجزأ، فيأخذه بمنهج الوسط فلا إفراط ولا تفريط، فلا يحرم الرغبة ولكنه ينظمها، ويسعى دائمًا إلى التوازن بين أهداف الحياة، وضرورات ونوازع الفرد، فهو يوازن بين مطالب جسده وروحه؛ لأنهما جزآن من كيان واحد، وعليه فإن التدين الحق في الإسلام ليس هو التخلص من الرغبات والشهوات، وليس هو التقشف بالكف عن اللذات، وليس هو في تحريم ما أحل الله، فالتبتل بهذا المعنى في الفكرين البوذي والنصراني، يصطدم مع منهج الله في الحياة.

ص: 270