الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(الديانة المانوية (1))
من هو " مانو
"؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فها أنا ذا أحدثك هذه المرة إن شاء الله تعالى عن المانوية؛ من هو مانو، حياته مبادئه، ومعتقدات المانوية، والأخلاق المانوية أيضًا. فأقول -وبالله التوفيق-:
ظهرت عقيدة المانوية على يد ماني بن فاتك الحكيم، وذلك بعد اضمحلال المسيحية؛ أي: بعد ظهور دين سماوي صحيح تعرض للتحريف وداخلته الأهواء البشرية، وتنازعته الأغراض الدنيوية فكان ماني أو مانو يقول بنبوة المسيح عليه السلام، ولكنه أدخل مع هذا القول تلك النزعة التي كثيرًا ما تُصيب عُبَّاد القديم، فعاد إلى مجوسية الفرس القديمة، واقتبس منها القول بأن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم.
ثم اختلفت المانوية في مرجع الخير والشر ومدى ارتباطهما بالنور والظلام فقال أكثرهم: إن سبب الامتزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور، فبعثت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليه ملك من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة، فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية، فخالط الدخان النسيم، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار والنور الظلمة، والسموم الريح، والضباب الماء، فما في العالم من منفعة وخير وبركة.
فمن أجناس النور وما فيه من مضرة وشر وفساد، فمن أجناس الظلمة فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكًا من ملائكته، فخلق العالم على هذه الهيئة؛ لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة، وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب؛
لاستصفاء أجناس النور من أجزاء الظلمة، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر يستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد، والنسيم الذي في الأرض لا يزال يرتفع؛ لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها، وكذلك جميع أجزاء النور أبدًا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدًا في النزول والتسفل حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، ويبطل الامتزاج، وتنحل التراكيب، ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والميعاد.
ومما يعين في التخليص والتمييز ورفع أجزاء النور التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر، فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح إلى فلك القمر، ولا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه فيمتلئ فيسير بدرًا، ثم يؤدي إلى الشمس إلى آخر الشهر، وتدفع الشمس إلى نور فوقها، فيسري ذلك في العالم إلى أن يصل إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا العالم إلا قدر يسير منعقد، لا تقدر الشمس والقمر على استصفائة؛ فعند ذلك يرتفع الملك الذي يحمل الأرض ويدع الملك الذي يجذب السموات، فيسقط الأعلى على الأسفل، ثم توقد نار حتى يضرم الأعلى والأسفل، ولا تزال تطرم حتى يتحلل ما فيها من النور، وتكون مدة الاضطرام ألفًا وأربعمائة مائة وثمانيًا وستين سنة، إلى آخر هذه التدخلات العقلية البشرية التي تُنزل العقيدة الصحيحة من عليائها إلى فلسفة لا تصلح إلا لزمانها، وقد لا تصلح معه إلا زمنًا يسيرًا، ومع بعض العقول السازجة الضعيفة مما يدل على صحة اتجاهنا الذي يؤكد رجعية هذه المعتقدات، وتخلفها بعد نقاء الوحي وسموه.
بعد هذه المقدمة التمهيدية والفكرة السريعة حول الديانة المانوية نشرع في ترجمة ماني وحياته وذكر مبادئه إن شاء الله تعالى.
حياة ماني في شبابه والعمل الدعوي الأول: عاش في حوالي عام مائتين بعد الميلاد أمير فرسي اسمه فتقن، كان من أصل أشكانك عاش في مدينة همزان عاصمة إقليم مديا، وكان متزوجًا من سيدة حملت اسم مريم وهي تسمية يهودية مسيحية، وكانت مريم تنتمي إلى أسرة كمسريكان، وهي أسرة إمارة من أسر الدولة الفرثية، كما أنها كانت فرعًا فروع الأسرة الأشكانية الحاكمة للإمبراطورية الفرثية، وهي الأسرة التي قُدر لها أن تشغل دورًا بارزًا في تاريخ أرمينيا، وعليه فإن الدم الملكي الأشكاني الذي أسهم به الأبوان قد سرى في عروق الابن الذي كتب لمريم أن تلده، وغادر فتق همزان واتخذ مقرًّا له في طيسيفونسلوقية، وهي العاصمة الإمبراطورية الفخمة، وغالبًا ما تنقل الإقطاعيون الكبار وتناوبوا السكنى بين مقراتهم الريفية والقصور الفخمة في العاصمة.
هذا؛ ويبدو أن انتقال فتق من موطنه إقليم مديا كان بصورة دائمة، ومن الواضح أن اهتماماته قد تركزت على الدين بشكل مطلق، فقد كان مثل العديد من أترابه باحثًا عن الله، ويخبرنا أحد المصادر العربية أنه عندما كان في بيت الأصنام، وكان فتق يحضر كما يحضر سائر الناس، فلما كان في يوم من الأيام هتف به من هيكل بيت الأصنام هاتف: يا فتق لا تأكل لحمًا ولا تشرب خمرًا ولا تنكح بشرًا، تكرر ذلك دفعات في ثلاثة أيام، فلما رأى فتق ذلك لحق بقوم كانوا في نواحي دسميسان معروفين بالمغتسبة، كما ذكره صاحب (الفهرس النبيل).
هذا ولا نعرف نوع الهيكل الذي يصفه النص العربي، ويسميه بيت الأصنام، فمن المحتمل أن هذه التسمية تتطابق مع بيت بتركي، وهي عبارة سريانية وردت في حكاية جيريانوس، وأطلقت على المعابد الوثنية في سوريا، أو لعلها تتطابق مع عبارة بوتخانا، وهي عبارة تطلق في الفارسية الجديدة على المعبد البوذي بيت بوذا، هذا وليس من المستبعد أيضًا أن المقصود هو المعبد البوذي؛ لأنه من المحتمل كثيرًا أنه كان هناك مقر إرسالية إرشادية بوذية في بلاد الرافدين، منذ أيام الامبراطور أزوكا، ومهما يكن الأمر؛ فقد حملت مريم بعد فترة وجيزة من حادثة بيت الأصنام بولد سمته ماني.
هذا؛ ويمكن تحديد تاريخ ميلاد ماني على أنه حدث في الرابع عشر من نيسان لعام ستة عشر ومائتين للميلاد، وبالطبع نجد أن الاسطورة المانوية قد زخرفت هذا الحدث بكل أنواع البشائر الإعجازية الرائعة، فمن المفترض مثلًا أن أم ماني قد علمت عن طريق الرؤى والإلهامات لما قدر لابنها من مواهب وعظمة مقبلة، زد على هذا أنها رأته يُصعد به إلى السماء ثم يهبط منها، هذه المسألة الأخيرة هي الناحية التي تستبق قيام التقاليد الغريبة المتعلقة بصعود ماني إلى السماء.
ونظرًا لتنوع الروايات حول تحديد مكان ولاية ماني، بات من المحال الوصول إلى نتيجة حاسمة، وتبعًا لروايته هو كما حفظها لنا الإمام البينوني في كتابه (الآثار الباقية)، فإنه ولد في قرية تدعى مردونوس من نهر قوسا الأعلى، من بلاد بابل الشمالية، وأكد ماني هذه الرواية وقال: بأن مولده حدث بالفعل في بلاد بابل، وذلك في قصيدة الشهيرة وصفبها ذاته فقال: إنني أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل.
أما الفهرس وهو مصدر عربي، فيروي: ثم إن أباه أنفذ فحمله إلى الموضع الذي كان فيه، فربي معه، وعلى ملته، وبمعنى آخر أبقى فتق ولده إلى جانبه وعلمه دينه، ماذا كان هذا الدين استنادًا إلى الظروف لا بد أنه دين المختسلة لا غير، وتتوافق عبارة المختسلة العربية مع تسميتين وردتا لدى الكاتب السورياني فيودورباكونيه، وهما منقضى وحلي، وهواري، وتعنياني على التوالي الذين يُطهرون أنفسهم بحلل بيضاء، وفي حين يتطابق التعبير الأول مع عبارة المختسلة العربية، فإن التعبير الثاني ينسجم تمامًا مع عبارة سيفيد جامغان، وهو لقب أطلق على طائفة فارسية ظهرت فيما بعد، ومهما يكن الحال يلاحظ أن العديد من طوائف الكهنوت قد استخدمت الأرضية البيضاء مثل: البرهميين، والمندعيين، والمجوس، والكهنة السوريان في دورا وربوس، وعليه يصعب أن تلفت هذه التسمية انتباهنا أكثر، ومع ذلك ومن الأوضح تطابق المعنى والجوهر بين الذين يمارسون الغسل، والذين يطهرون أنفسهم. وهذا يستلزم ضمنيًّا وجود طائفة معمدانية، وتروى الكتابات القبطية المانوية كيف أن أحد الحواريين سأل ماني عن الكائنات السماوية التي بقدسها أهل الفطرة، فأجابه ماني مشيرًا إلى حياته الأولى والحياة الثانية، وبلا شك إلى الحياة الثالثة أيضًا.
ومن المؤكد أن هذه التعاريف موجودة بدقة في الأدب المندعي القديم، والمعني بها الكائنات البدائية السلمية الثلاثة، وعليه يقودنا تصريح ماني مباشرة إلى المندعية، وبفضل التوائم الذي يميز كل من المثيولوجيا المندعية، والمانوية، ومظهرهما الغنطوسي العام، وطقوسهما الدينية، والعديد من تعابيريهما المتخصصة، ويمكننا أن نفترض بكل ثقة أن فتق قد انضم إلى طائفة المندعيين في بلاد بابل الجنوبية، وأن ماني نشأ وترعرع في وسط هذه الطائفة المعمدانية، وتواجهنا هنا بعض العقبات.
لقد فرض على فتق الإلتزام ببعض مظاهر الزهد والتقشف، وهي الامتناع عن تناول اللحوم، وعن شرب الخمر، وعن مباشرة النساء، والمندعية كما هو معلوم ليست من حيث المبدأ عقيدة تقشف، ولكن يلاحظ ان الكتابات المندعية تُردد في أماكن مختلفة مواعظ ضد الجشع والسكر والشبق، وهناك تحذير خاص ضد استهلاك الخمر الذي يؤدي إلى الفسوق؛ لذلك من الواضح أنه كان لدى المندعية نزعة شديدة نحو الأخذ بمنهج حياتي متقشف وعفيف، وفي هذا الوسط وضمن هذه الظروف ترعرع ماني، ولذلك فإن استنتاجنا هو الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه البحث الحديث، والذي يقول: نشأ ماني في جنوبي بلاد بابل في وسط طائفة غنطوسية معمدانية، هي بلا شك الطائفة المندعية، وهناك تلقى بوضوح مؤثرات كانت حاسمة بالنسبة لمستقبله.
ولما تم لماني اثنتي عشرة سنة أتاه الوحي للمرة الأولى، يذكرنا هذا بيسوع البالغ من العمر اثني عشر عامًا في الهيكل، وكان هذا سنة مائتين وثمانية وعشرين، ومائتين وتسع وعشرين ويروي الفارس بأن الوحي أتاه من ملك جنان النور، والمقصود بملك جنان النور في المصطلح العربي المانوي هو الله رب الأرباب، وقام كائن سماوي بنقل الوحي إلى ماني، وهو ملاك يسميه النص العربي التم، وهي عبارة مأخوذة من الكلمة السريانية توما أي: التوأم وتتوافق هذه العبارة مع كلمة سايسا، سايس القبطية الواردة في المدونات المانوية المصرية، وكان محتوى رسالة الرسول السماوي لماني: اعتزل هذه الملة فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات، ولم يأن لك أن تظهر لحداثة سنك، وبناء على ذلك هجر ماني الطائفة المعمدانية، التي كان قد التحق بها ولازمها حتى تيك الساعة، تمشيًا مع إرادة والده.
هذا؛ ويروي سيودوربا كونية بأن تلك الطائفة المذكورة آنفًا لم تكن قادرة على التساؤل معه، لذلك تخلصت منه، وأطلقت عبارة توأم على القرين السماوي للنبي، فمن خلال نزوله من السماء جرى تكليفه بتبليغ رسالة النبوة، ولقد كان نهج التفكير هذا إيراني المنشأ، ومعروفًا في الأنطوسية بشكل عام، وهو سيشغل فيما بعد دورًا هامًّا في الأفكار الإسلامية، وتذكر نصوص القبطية أنه تم منح ماني المعرفة الكاملة عند تبليغه بنبوته، وتروي عنه قوله في هذه السنة نفسها عندما كان الملك أردشير على وشك التتويج، نزل الفارقليط الحي، وكلمني للمرة الأولى، وأباح لي معرفة السر المحجوب عن عصور وأجيال بني البشر.
السر العميق والعالي سر النور والظلام سر الصراع والحرب الماحقة كل هذا أباحه لي، وتبع هذا على نفس المنوال ذكر جميع النقاط الأساسية للعقيدة المانوية التي يُفترض أن ماني تلقاها في فترة الوحي بسببها. وينهي ماني روايته بقوله:"وهكذا أباح الفارقليط لي وعلمني كل ما كان وما سيكون"، وبناءً على ما سبق جاء اسم الرسول السماوي هنا الفاراقليط الحي، وتذكر المصادر العربية أن ماني قد وصف نفسه بالفاراقليط الذي بشر به عيسى في الإنجيل.
هذا، ولا يمكن الطعن بهذا الادعاء بناءً على ما تقدم، بيد أنه كيف يمكن القول عندئذ أن ما يسمى بالتوأم الذي يأتي ماني، هو ذات ماني العليا تمامًا؛ لأن الفاراقليط الحي الذي هو روح القدس هو كالتوأم نفسه، فيقول يوديوس في الفصل الرابع والعشرين: ادعى ماني أنه شيء واحد مع توأمه روح القدس، وفي جميع الأحوال حتى وإن كان ماني قد خاض غمار تجربة طبيعته المشتركة مع حامل الإلهام السماوي، عندما كان في الثانية عشر من عمره، فإن الوقت لم يكن حان بعدُ بالنسبة له؛ ليظهر بوضوح بين الناس، وبقي ماني يعيش في عزلة تامة، وذلك تنفيذًا لأوامر
الرسول السماوي، واستنادًا إلى التطورات اللاحقة يمكن الحكم أنه أمضى فترة الإعداد هذه في دراسة الآداب المقدسة، التي كانت آنذاك متداولة في حضارة بلاد الرافدين، وفي التأمل في جميع ما درسه.
ولا بد أن هذا التأمل وهذه القراءة قد أنضجت قناعته، ومهما يكن الحال تم الآن إكمال المرحلة إعداده وتطوره الديني، وهي المرحلة التي يُمكن أن نسميها المرحلة المندعية، وأخيرًا وصل التفويض المنتظر لبثِّ الرسالة إلى العالم، وصل إلى ماني في سنة مائتين وأربعين ومائتين وواحد وأربعين من الميلاد، فيومها قال الملك له:"عليك السلام ماني مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو بحقك، وتبشر ببشرى الحق من قبله، وتحتمل في ذلك كل جهد"، وهكذا فإن رسالة الملاك هي التي عينت ماني رسولًا، وتتناوب عبارة المبعوث في الإغريقية، أبو تولوس مع اصطلاح رسول؛ لتشير إلى عبارة نبي، والنبي هو الإنسان الذي يكلف بالنبوة من قبل الله إما في السماء أو على شكل وحي رباني، دائمًا بشكل مكتوب في الشرق الأوسط، وبعد تكليفه يبشر برسالته للناس على شكل عقيدة، وتمشيًا مع نصيحة الملاك أعلن ماني عن نبوته إلى والده، وإلى أعضاء آخرين بارزين في أسرته، وضمن إيمانهم به، وتحولهم إلى عقيدته.
ونستخلص من هذا الخبر أن والد ماني قد احتفظ بالصلة مع أنسبائه وأقربائه، وكان هذا ضروريًّا لأن ماني كان قادرًا منذ البداية اعتمادًا على تلك الوسيلة على نيل الدعم الفعال، ومع ذلك فإن نشاط ماني الاجتماعي العام لم تكن بدايته في بلاد الرافدين كما هو متوقع، بل في الهند، ويخبرنا هو عن ذلك بقوله في نص جاء باللغة القبطية: "بدأت التبشير في
السني الأخيرة بحكم الملك أردشير، فقد أبحرت إلى بلد الهنود، وبشرت بينهم بأمل الحياة، واخترت هناك نخبة جيده.
لقد ذهب ماني إلى الهند بسفينته كما ذهب الرسول توماس من قبل، وهو حين فعل ذلك كان كما هو مرجح مطلع على حكاية هذا الرسول، ولربما هي أوحت له القيام برحلته، ومن المحتمل أن رحلته لم تذهب به أبعد من إقليمي مكران وطوران الفارسيين، إضافة إلى المناطق الشمالية الغربية من الهند، وقندهار أي: إلى المناطق المتألفة منها باكستان، فقد كانت الأقاليم الشمالية الغربية واقعة منذ ذلك الحين أي: في حوالي سنة مائة وثلاثين قبل الميلاد تحت النفوذ الفارسي الشديد، بشكل أدق من النفوذ الفرثي، ففي هذه المناطق ربما كان ماني قادرًا على الأقل من الأوساط العليا على جعل نفسه مفهومًا بالتعبير عما كان يريده بلغته الفرثية الأم.
ومع أن هذه المناطق لانتشار المسيحية إلى حكم الأسرة المعروفة باسم الأسرة السيزية، فإن عددًا من الأمراء الفرثيين كانوا يحكمون هناك منذ أمد بعيد، وكان من بينهم الملك هندوفار الوارد ذكره في أعمال القديس توماس ويعتبر أنشياكا الرجل الأوسع شهرة بين أفراد الأسرة السيزية الهندية، فهو معروف في التاريخ على أنه كان المحامي الأعظم عن البوذية. ومن المحقق أن البوذية كانت قوية في الأجزاء الشمالية الغربية من الهند، مع أقاليم فارس الشرقية، وذلك منذ أزمان سحيقة، ونتيجة لهذا لا بد أن لماني قد احتكَّ عن قرب بعالم هذا الدين الذي كان ما يزال آنذاك مليئًا بالنشاط والحيوية التبشيرية، ولقد كان للبوذية أعمق الآثار عليه، ويمكن رؤية ذلك بوضوح، وبشكل خاص في تنظيمه لكنيسته، وفي الأساليب التي اعتمدها للتبشير لعقيدته بين العامة من
الناس، ويبدو أن نائب الملك المسمى كوشان شاه لم يكن في ذلك التاريخ سوى أخ لشابور ولي العهد؛ نظرًا لأن اسمه كان فيروز.
ولم يقدر لنشاط ماني في الهند أن يدوم طويلًا، ولم يكن عليه أن يمكث هناك فترة تزيد عن السنة، فقد جاء في روايته قوله في "السنة التي توفي فيها الملك أردشير وأصبح ابنه شابور ملكًا وخليفة له أبحرت من بلاد الهنود إلى بلاد الفرس، وسافرت من بلاد فارس إلى بلاد بابل، إلى ميسان وخوز ستان"، وهكذا عاد ماني إلى بلاد فارس بسفينة أيضًا؛ ليعبر كما يبدو إلى إقليم ميسان، هذا ولربما أمكن تثبيت تاريخ الحادثة الغريبة التالية التي وقعت لماني، كما ورد ذكرها في أسطورة المانوية أثناء هذه الرحلة، فقد جاء "وفضلًا عن ذلك كان لشابور ملك الملوك أخ يسمى مهرشاه كان أميرًا على إقليم مايسان، وكان عدوًّا شديدًا لرسول النور الرائع، وكان قد غرس بستان جميلًا جدًّا وكبيرًا للغاية، إلى حد أنه لم يكن له شبيه، وعرف رسول النور آنئذ أن وقت الخلاص قد دنى، وعليهم بعث فقام أمام مهرشاة الذي كان جالسًا وهو شديد الغبطه وسط وليمة قد أقامها في بستانه، ثم إن الرسول نطق ثم تكلم مهرشاه مخاطبًا الرسول بقوله هل يمكن أن يكون في الفردوس الذي يتغنى به بستانًا كبستاني هذا؟ فسمع الرسول كلام الكفر هذا، فأراه بقوته الخارقة جنان النور مع جميع الأرباب والآلهة، ونسيم الحياة الأبدية، وبستان فيه جميع أنواع الغراس وأشياء أخرى تستحق أن تذكر، كان يمكن رؤيتها هناك، ثم سقط مهرشاة على الأرض مغشيًّا عليه لمدة ساعات ثلاث، وبقي في صميم فؤاده ما كان قد رآه، ثم وضع الرسول يده على رأسه، فثاب إلى نفسه واسترد وعيه من جديد، ولذلك خر عندما أفاق على قدمي الرسول، وأمسك بيده اليمنى، وتكلم الرسول كما يلي.