الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روايات أخرى، وتستحق الاهتمام كل من مواهبها المبينة مع جائزة الانتصار والتاج والإكليل، وتاج النور. وتعني جائزة الانتصار: أن تخليص الروح من الجسد يعتبر انتصارًا للمخلوق الجديد على المخلوق القديم، كما يمكن فهم الصراع ضد القديم إما في إطار معنى الصراع المادي، أو في إطار معنى المحاكمة، ويترك القرار في الحالة الثانية للقاضي وهي دعوى مسوغة دخلت أمام هيئة المحكمة؛ دفاعًا عن الروح الميتة. وهذه مصطلحات رمزية تم اشتقاقها من إجراء قانوني سائد في الشرق الأوسط.
ومن ناحية أخرى إن رداء النور والرموز الباقية تشير تمامًا إلى أصل ثقافي هندي إيراني، وتصف المزامير المانوية المكتوبة في الإيرانية المتوسطة كيف تقوم القاعة والعرش والإكليل والتاج والرداء بالاستعداد لروح الإنسان الصالح بعد موته، ويوضح هذا مفاهيم آلية قديمة تؤمن بالآخرة، كما أن الأفكار ذاتها المتعلقة بالقاعة السماوية والرداء والتاج، وقد تحقق البحث الحديث من وجود وصف مطابق تمامًا في الأدب الإيراني القديم.
الإيمان بالآخرة
وننتقل إلى الكلام عن الإيمان بالآخرة:
إن الإيمان الهندي بالآخرة ما كان له أن يكون إيمانًا هنديًّا حقيقيًّا لو لم تخصص نصيبًا للمخلوقات المؤنثة الجميلة التي يلتقي الصالحون بها في السماء، كما أن جرسة التراتيل المانوية ترينا أنها لم تهمل عزاري الجنة، ويجب أن نعيد إلى الذاكرة أيضًا أنه التقى في المانوية الإنسان الصالح مع ذاته السامية على شكل عذراء إلهية رائعة، رافقته في طريقه إلى الجنة.
ونقرأ هذا في قطعة صدغية مكتوبة، وتواصل هذه القطعة شرحها قائلةً: إنه سيقترب من الإنسان الصالح إثر موته ما لا يقل عن ثمانين ملكًا من الجنس الآخر، مزينين بالورود، ويحضونه على التقدم نحو جنة النور ليتذوق السعادة هناك.
إن أشد اللحظات تأثيرًا في جميع المعتقدات الإيرانية المتعلقة بالآخرة هي تلك التي يصادف فيها الإنسان الصالح المتوفى ذاته السامية على شكل فتاة جميلة في الربيع الخامس عشر من عمرها تخبره أنها هي روحه، ويتضح هنا تمامًا أن المفهوم والرمز المانويين هنا مقتبسان من الإيمان الإيراني القديم المتعلق بالآخرة.
ودعيت الفتاة السماوية التي تجسد أعمال الإنسان على الأرض، والتي تأثرت صفاتها ومظهرها بهذه الأعمال في النصوص الزرادشتية، باسم "كيونوسين" أي: سلوك الميت، كما تم تقديم الذات السامية في بقايا النصوص بما يعني سلوكها الخاص، هذا وإن التفاصيل فيها دلالات أيضًا.
ويشغل الرداء الممنوح للروح الصاعدة حسب الرأي المانوي دورًا هامًّا في النصوص الزرادشتية المكتوبة بالإيرانية المتوسطة، وفي النصوص الغمطوسية ذات المنشأ الإيراني، وهذا صحيح بشكل خاص بخصوص نشيد اللؤلؤة، وبناء عليه يوجد هنا رمز آخر اقتبسته المانوية من الغمطوسية الإيرانية، ودُعيت أعمال الإنسان الصالحة في اللاهوت الإيراني الهندي باسم "كنز في السماء". ويفسح هذا بدوره المجال للذات العليا؛ ليتم تسميتها باسم "خازن" وبرؤية أن الرداء الفخم هو مجرد رمز آخر لتلك الأعمال، وتُستخدم أغنية اللؤلؤة أحيانًا وصف الخزنة عند التحدث عن حراسها، وتعرف المانوية بعض الصديقين باسم "كنوز الأم المجيدة"؛ لأن أعمالهم هي الإشراف على الأعمال الصالحة، وخدمت أعمال تقويم بعض الآراء الشائعة العائدة للمصطلحات الغمطوسية والمانوية في تقديم المظاهر الرئيسة للإيمان المانوي بالآخرة بقدر ما يتعلق الأمر بأرواح الصالحين، وأما فيما يتعلق بأرواح الآخرين فقد كانت عقيدة ماني عقيدة تقمص.
ولربما جاء هذا كمسألة استيعاب للبوذية، مع أنه يجب عدم استثناء تأثير الفيفا غروسية المحدثة، ومن الغريب أن التقمص قد دُعِي في النصوص القطبية بعبارة هي في الإغريقية تعني "إعادة الصياغة أو التشكيل" ومن المحتمل أن هنالك وراء هذا الاستخدام للكلمة أفكارًا إيرانيةً هندية قديمة حول كون الإنسان نَتاجًا لصانع الحداد سماوي، يوجب على كل روح أن تملأ بالعزيمة، تصبح فولاذية خلال النار، حتى تكون مهيأة لاجتياز عملية الانبعاث الروحي داخل الأوتون المشتعل، وتعالج الحكايات الإيرانية القديمة حول إله البرق الموضوع نفسه.
ولم يكن الإيمان المانوي بالآخرة حسبما تعلق بالفرد وأثَّر به متطابقًا مع المستقبل المعد للعالم بصورة عامة، والتفسير الذي يجب تتبعه حول هذه المسألة، هو أن ذرات النور الخالد لم يتم وقفها على الأرواح البشرية، بل كما تم الذكر من أنه كمية الضوء التي ضلت والتي لم تعد قد تم توزيعها في كل مكان من الطبيعة في النباتات والأشجار والفواكه، وفي المخلوقات الحيوانية والإنسانية أيضًا، وربطت المانوية هذه الروح الحية على الدوام مع معاناة وآلام يسوع، وهو يسوع عنصره أدنى من يسوع المتألق الذي سُلِب في عالم المادة، والممتزج مع العالم المادي.
كما اعتبرت الأشجار التي احتوت وفق النظرة المانوية على جزء كبير من النور صليبًا للمسيح، ويقول "فاوست": إن يسوع الذي هو حياة الإنسان ومخلصه معلق على كل شجرة، وإن آلام المسيح وصلبه ليس سوى قضية خاصة، أي: لحظة فردية في المسرحية الكونية للمعاناة والفداء، صداها والمعبر عنها هو يسوعُ الأدنى، وجرى التعبير عن هذا بالطريقة التالية: إننا نلاحظ في كل مكان سر يسوع المربوط إلى صليبه، حيث تظهر جروح المعاناة التي تتألم أرواحنا منها.
وهكذا جرى تفسير منحى العالم على أنه منسجم مع المراحل المختلفة لمعاناة إله كان هو في الوقت نفسه مخلصه، كما كانت قصة إنقاذه للجنس البشري حكاية لفداء هذا الإله؛ لأن الإله واحد مع جميع أرواح البشر.
إن عملية التحرير بطيئة، ولم تصل إلى تحقيق هدفها تمامًا، هذا الهدف الذي سيكون إعادة الجمع المتناسق لجميع ذرات النور، وإعادة اتحادها في عالم النور، لكن قبل أن يتحقق هذا ستكون نهاية العالم قد حلت، وستقوم مجموعة من الآلام الشديدة بنشر ذلك الحدث، وهي من نوع مشابه تمامًا لتلك الآلام المميزة للتأملات الرؤوية للديانتين اليهودية المتأخرة والمسيحة، ولإيران والشرق الأوسط، وإن مثل هذه المادة الوفيرة قد أخذها "ماني" مباشرةً مما يسمى باسم صفر الرؤيا لوقا 21، متى 24، مرقص 13.
ويمكن بوضوح استخلاص جزء من المواد من الأسفار الإيرانية، مثلًا: تتحدث قطعة تركية مانوية عن أيام الآخرة، عندما سيظهر مصر المزيف الذي يكون الثورُ مطيتَه، والحرب علامته، وتؤكد مختلف التقاليد الموروثة أن مِصر كان له بالفعل ثور يركبه، ويشير هذا المقطع إلى أن الإله مصر المزيف كان له مصر مزيف، وهو بمثابة نظيره الأخروي. ومن المحتمل أن الحدث المتعلق بمصر المزيف قد كان جزءًا مما يسمى بـ"اسم الحرب العظيمة" وهي الدرامة الرؤوية الأخيرة التي ظهرت إلى حيز الوجود بشكل خاص في المواعظ القبطية، وكانت عبارة "الحرب العظيمة" اسمًا قد اقتبسه ماني من المصطلحات الإيرانية، وهي العبارة نفسها التي استخدمت في الأوصاف الرؤوية الزروانية، وتم التنبئ بنتيجة هذه المواجهة الحاسمة على أنها انتصار لمعبد الصلاح، أي: جميع الصالحين، كما ستجتمع جماعة المصلحين المتبعثرة من جديد، وسيتم تجديد المعبد، وإنقاذ الكتب المقدسة
المعرضة للخطر، وإتمام انتصار المانوية، وسيأتي الجيل الجديد، ويحوز بقوة على ممتلكاته، وسيحضر الملك العظيم، ويتولى السلطة، وسيقدم الجيل الجديد له الطاعة، وستقوم القيامة إثر ذلك، وذلك عندما ستجتمع الأرواح أمام العرش، وسيتم فصل الخير عن الشر، والغنم عن الماعز، إذ تستخدم النصوص المانوية بعض الأوصاف الاستعارية بالعهد الجديد، والمحافظ عليها.
ويعكس كل من الجزئين المتبقيين من "الشابورقان" والمواعظ القبطية وجهة نظر "ماني" حول هذا الموضوع، وتظهران أن "ماني" كان منسجمًا إلى درجة كبيرة مع مفاهيم مسيحية حقيقية.
هذا من ناحية.
أما من ناحية أخرى فإن لقب الملك العظيم مأخوذ من الهامات "هيستات": "الرؤيا الإيرانية". وهي سلسلة من النبوءات كان منتشرةً في الشرق الأوسط في القرون التي انصرمت قبل ميلاد المسيح.
واستطردت العقيدة تقول: إن يسوع سيحكم في الأرض فترةً قصيرةً من الزمن، ثم إن المسيح سيُترك مع النخبة والألهة الكونية الحارسة للعالم، وسيعود معهم إلى مملكة النور، حيث تحصل في النهاية عملية التطهير، وسيتم جمع ذرات النور تلك التي ما يزال إنقاذها ممكنًا؛ لتشكل نصبًا نهائيًّا. إن كلمة "أندنس" هي العبارة المستخدمَة في النصوص القبطية حيث سيتم رفع هذا النصب إلى السماء مثل عامود ضوء كوني، وسيتم بعد هذا مباشرةً إلغاء القبة السماوية ذاتها، وسيُقذف الملعونون والشياطون وعالم الظلام بعضهم مع بعض على شكل كتلة بشعة "بلوث"، وسيتم إغراق هذه الكتلة في أعماق أخدود ذي امتداد كوني سيتم عندئذٍ بصخرة عظيمة.
أنهى "ماني" وصفه لسير العالم بهذه الرؤى الكونية الفخمة، ووصل بالتالي إلى نهاية الطور الثالث، فقد اشتمل الطور الأول على وضع الكون قبل مزج الظلام والنور، واهتم الطور الثاني بفترة ذلك الاختلاط، ودل الطور الثالث على فصل العناصر المختلطة. وتعتبر هذه العقيدة ذات الشعب الثلاثة مع المبدأين الاثنين عقيدة المانوية الرئيسة.
ويظهر التقسيم الثلاثي للزمن في النصوص الزرادشتية البهلوية، حيث تحتوي على صيغ ما هو كائن وما كان وما سيكون، لكن هذا النمط أقدم من ذلك بكثير، وموجود في السجلات الهندية، وهو من أصل هندي إيراني.
وبتتبع نهاية الكون كما تم تخيلها يمكن الافتراض أن سَيْر العالم سيكون بعودة الأشياء إلى الحالة التي كانت قائمةً قبل خلق النور والظلام، وكأنما كان هذا إرجاعًا حقيقيًّا بالفعل، إنما على الرغم من التكلم بهذا الخصوص عن إرجاع الطبيعتين، يبقى هنالك اختلاف؛ لأن قوة المادة والظلام لن تكون قادرة بعدئذٍ على تجديد الهجوم على عالم النور، وسيواصل كل من مبدئه النور والظلام وجودًا منفصلًا، ومع ذلك فإن الآراء تتباين حول كمالية عالم النور، فقد صرحت المدرسة الأولى: أن إله النور كان قادرًا على استعادة جميع ذرات النور المفقودة، بينما ردت الثانية، وقد كانت أكثر تشاؤمًا بقولها: إنه قد تم فقدان جزء من النور إلى الأبد، وكان لذلك الجزء جزءًا لاحقًا ليوم الحساب؛ ليشارك الاحتجاز الأبدي للظلام مع المادة، ويقينًا أن عقيدة النهاية المزدوجة التي أعلنت المدرسة الثانية عنها تقترب من التشابية والرموز التي استخدمها "ماني".
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى من المحتمل أنه لم يتكمل بوضوع كافٍ حول هذه النقطة الخاصة.