الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأين الانقطاع بالعزلة إلى الله والرهبان والراهبات لم ينعزلوا لله، بل للكيد للإسلام والمسلمين، والطعن في دينه، وتلك الحركة الاستشراقية والتنصيرية خير شاهد على ذلك، فالرهبان هم طلائع المستشرقين والمنصرين، فالعزلة عند السابقين تخريب للبيوت والأسر وتشتيتها، لقد اتهم جمهور الرومان الدين المسيحي بالعمل على تشتيت الأسر وخراب البيوت؛ حيث كان الواحد منهم يهجر عائلته وأرضه، ومن ثم كان سخط الجموع الوثنية الرومانية أشدّ من سخط الأباطرة أنفسهم.
والعزلة عند المعاصرين تلبيس على الغير؛ لإدارة رحى الحرب على الإسلام والمسلمين بحجة التمكين لدين المسيح، فأخذوا في العمل وشيدوا المصانع في الأديرة، وأقاموا مزارع، وأسسوا مشروعات، واشترطوا على من يريد الانخراط في سلك الرهبنة، أن يكون حاصلًا على مؤهل متوسط على الأقل حتى يكون عارف بدوره المنوط به أداؤه.
ورأينا الآن من الرهبان ممن هم أطباء ومهندسون ومدرسون وغيرهم، ألا يدل ذلك على مدى التناقض شأن الباطل دائمًا، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته
خامسًا: الطاعة المطلقة لجل الدين، واعتقاد عصمته، وعبادة الرهبان في الميزان.
لقد قرر الإسلام حقيقة جوهرية وهي أن العصمة واجبة للأنبياء والرسل، فلهم حق الطاعة؛ لأنهم يوحى إليهم من عند الله، لكن زعم السلطان الرسولي المعطى للإنسان التابع للنبي أيُّ نبي في أيَّة أمة لا حظ له في الواقع الديني، وبالتالي فإن صكوك الغفران أبطلها الإسلام بقوله:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 135)، وبقوله:{فَأُلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70)، فالله وحده لا غير هو الغفار؛ وبالتالي فالأساس الذي اعتقده
الناس في الرهبان، وأنهم معصومون أو أعطوا سلطانًا رسولي زعم باطل، فالكل سواء أمام الله، فالإسلام لم يعترف بما يسمى رجل دين بمعناه اللاهوتي، أو بوجود سلطة كهنوتية ذات طقوس خاصة ولا بوساطة كهنوتية على النحو الذي يُعرف في الفكر البوذي والنصراني، بل العبد يلجأ إلى الله مباشرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186).
وقد أبطل القرآن اتخاذ الغير ربًّا فقال تعالى عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31)، وهكذا أخرجتهم الرهبنة عن عبادة الله إلى عبادة غيره، فأوقعتهم في الوثنية التي جاءت الرسالات الإلهية لمحاربتها، مما يدل دلالة واضحة على أن الرهبانية لم تكن أصلًا من أصول أي دين حق بمفهومها البوذي والنصراني، وإنما هم المبتدعون لها، دون أن يراعوها حق رعايتها، ففسق أكثرهم عن الحق، ولذا نختم بقول الله عز وجل:{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 27).
يقول الإمام القرطبي في (تفسيره): {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} (الحديد: 27)، أي من قبل أنفسهم، وفيها قراءتان إحداهما بفتح الراء وهي الخوف، والثانية بضمها وهي منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح، والتعلق بالكهوف والصوامع، ذلك أن
ملوكهم غيروا وبدلوا، وبقي نفر قليل، فترهبنوا وتبتلوا، فإن الضحاك قال:"إن ملوكًا بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم ما كان بقي على منهاج عيسى فقتلوه، فقال قوم بقوا بعده: نحن إذا نهيناهم قتلونا، فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع".
وقوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: 27) أي: ما فرضناها عليهم، معناه: لم نكتب عليهم شيئًا البتة، ويكون {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (الحديد: 27) بدلًا من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وقيل: إلا ابتغاء الاستثناء منقطع، والتقدير: ما كتبناها عليهم، لكن ابتدعوها هم ابتغاء رضوان الله.
فقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: 27) أي: فما قاموا بها حق القيام، وهذا خصوص؛ لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهيب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34).
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ، قال: "كانت ملوك بعد عيسى بدَّلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل، ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا، فطائفة قالت: ابنوا لنا اسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا، وطائفة قالت: ابنوا لنا دورًا في الفيافي ونحتفر الآبار، ونحترث
البقول، فلا تروننا، وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منه، ففعلوا فمضوا ألئك على منهاج عيسى، وخالف قوم من بعدهم ممن قد غيَّر الكتاب فقالوا: نسيح، ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} ي قول: ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها المتأخرون {حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُم ْ} يعني: الذين ابتدعوها أولًا، ورعوها، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، يعني المتأخرين فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبق منهم إلا قليل جاءوا من الكهوف والصوامع، والغيران، فآمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم".
وبمثل هذا قال الإمام ابن كثير في الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ، قال: أي ابتدعها أمة النصارى، {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ، أي: ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، وقوله:{إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك، وإنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، وقوله:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهو ذم لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله، ما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه بما زعموا أنه قربة، يقربهم إلى الله عز وجل. إلى آخر ما قال.
وكذا قال الألوسي والفخر الرازي، وآخرون.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.