الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النشاط التبشيري لماني
انتقل ماني بعد هذه الحادثة إلى إقليم آشور سيتان أي: بلاد بابل الحقيقية، وانتقل من هناك إلى إقليم ميديا وفيرثيا، ونجح أثناء إقامته في تيسيفون في إقامة علاقات مع الملك العظيم شابور، وجرى استقباله من قبل الملك الجليل، وحظي بثلاث مقابلات متتالية معه، وحصل على هذه المقابلات بوساطة فيروز أخو الملك الذي كان ماني قد هداه إلى دينه الجديد أيضًا، وتبعًا لسيرة ماني كما رواه صاحب (الفهارس) جرت المقابلة الأولى في يوم الأحد، أول يوم من نيسان عندما كانت الشمس في برج الحمل، وتقرر هذا الرواية أن هذا قد حصل خلال أيام تتويج شابور، ويشكك بعض العلماء في أيامنا هذه في هذه المسألة، بينما يؤيدها آخرون ويواجهنا هنا سؤال هو هل كان ماني مشهورًا بما فيه الكفاية للحصول على مثل هذه المقابلة؟
والجواب: هو بالإيجاب على أغلب الظن، لأنه لو كان لماني مؤيد قوي في شخصيته أخ الملك لا يبدو هناك أي مسوغ للشك بالإيجاب، وكان برفقة ماني في مقابلته الأولى للملك أبوه واثنان من تلاميذه هما شمعون وزكوا، وكلاهما اثنان سوريانيان، وقدم للملك بهذه المناسبة كتابه الأول الشابور قان أي: كتاب شابور، والذي هو بالمناسبة كتابه الوحيد الذي كتبه بالفارسية الوسيطة. وتذكر مصادر المانوية أن شابور قد تأثر بعمق برسالة ماني، ووافق على السماح له بنشر تعاليمه بكل حرية، وفي كل مكان من الإمبراطورية، ويقول ماني نفسه: "إن الملك العظيم قد بعث بتوجيهاته للسلطات
المحلية في كل مكان؛ لتقديم حمايتها للدين الجديد"، ويقص علينا في سيرته قائلًا "مثلت أمام الملك شابور، واستقبلني بحفاوة كبيرة، ووافق على أن أتجول في بلاده، وأن أبشر برسالة الحياة، وأمضيت كذلك أعوامنا معه بين حاشيته".
وبروي ذكرياته عن مقابلته الأخيرة الحاسمة مع الملك العظيم قائلًا "كان الملك شابور قلقًا عليَّ فكتب رسائل توصية ودفاع عني إلى جميع أشخاص البارزين بالعبارات التالية: ساعدوه ودافعوا عنه، حيث لا يخالفه أحد أو يعتدي عليه". وقد أكد صحة هذا القول لسكندر ليكوبولوس وهو من فلاسفة أفلاطونية المحدثة، فأوضح في الرد على المانوية أن ماني قد عاش في أيام الإمبراطور فليبيان، ورافق الإمبراطور الفارسي شابور في حملته، ثم قال بعبارة واحدة:"وقاتل إلى جانبه"، وهكذا نعلم أن مؤسس الدين قد أمضى عددًا من السنوات بين أتباع الإمبراطور، ويدل معنى كلمة كوموشونج التي استخدمها الاسكندر أن ماني قد انتسب لأسرة الملك، وكان واحدًا من الأتباع الملكيين، ولهذا دلالاته، وعلاقاته بالنظام الإقطاعي، ويعني الوجود رباط خاص للطاعة والإخلاص بين ماني وشابور، وبهذه الأهلية ذهب ماني مع سيده المرتبط به، ورافقه ضمن أتباعه في حملته العسكرية، وحققت الحملة لشابور نجاحات عسكرية وسياسية باهرة، وبدا الأمر في عام مائتين وستين من الميلاد كما لو أن شابور سيعيد تأسيس الحكم ال أخميني في آسيا الصغرى.
ويفسر هذا كيف أن كرتير كزموبوذان الديانة الزرا د شتية في بلاطه قد حصل على سلطات مطلقة من الملك العظيم، كما سجلها في نقوشه؛ ليعيد من جديد تأسيس الدين الإيراني مع هياكل ناره في الأقاليم المحتلة لآسيا الصغرى؛ حيث كان قد سبق لطبق استقراطية إقطاعية إيرانية الاستقرار هناك منذ عدة قرون،
ونعم فيها الرهبان المجوس بموقع سلطوي قوي، وذلك وفق ما رواه الجغرافي استرابوه، ولا يمكن تفسير هذه الإجراءات الدينية السياسية أكثر من أنها تدل على تصميم من جانب شابور على أن يضم إلى الأبد بعض أقاليم آسيا الصغرى إلى إمبراطوريته، خاصة البقاع التي كانت خاضعة للنفوذ الإيراني منذ سنة خمسمائة وخمسين قبل الميلاد.
ومن ناحية أخرى ليس هناك دليل مقنع على أن ما دار في خلده هو إدخال أو تقديم ديانة إيرانية محددة كزرادشتية مثلًا؛ ذلك أن عبادة النار التي بعثها كرتير كانت هي الطريق السحيقة القدم لعبادة الأرباب الذين يرد ذكرهم في جميع أشكال الممارسة الدينية الفارسية. بما أن كرتير وفق روايته الشخصية قد أشرف بنفسه على تجديد هياكل النار، فمن الواضح أيضًا أنه كان مع الجنود الفرس خلال زحفهم، وبالنتيجة كان كل من ماني وكرتير اللذين أصبحا متعاديين فيما بعد في حاشية الملك العظيم، ومن العدل أن نفترض أن شابور لم يكن قد اتخذ بعدُ أي قرار لتقديم اعتراف رسمي لأي دين من الأديان. كان يمكن أن يقع اختياره عليه في مثل تلك الظروف، وإذا كان لا بد من إيجاد حل لهذه المعضلة، فإن المانوية كان أمامها الكثير كيما تعتمد، لكن وجود كل من كرتير وماني في حاشية شابور يوحي بأن الملك الساساتني قد رغب في إبقاء كل من البديلين تحت تصرفه، وكما سنرى إن دين ماني هو مزيج توفيقي من المسيحية والعقيدة الإيرانية مع مرتكزات من عقيدة بلاد الرافدين القديمة، وفق الشكل الذي اكتسبته من العقيدة المحمدانية الغنطوسية.
وأصبحت المسيحية والعقيدة الإيرانية معتادتين على نوع التقوي الرافدي، لأن التقاليد المحلية مارست نفوذًا قويًّا بالرغم من أنه كان جامدًا في معظم الأحيان،
ولهذا السبب كانت المانوية في وضع مناسب أكثر إشراقًا من أي دين آخر بين العالمين الدينيين المتنافسين، الروحيين العظيمين، والمعني بهذا عالم اللاهوت المسيحي والإيراني؛ كي يندمجا في كيان توحيدي أعلا يوضع تحت تصرف السكان الأصليين لبلاد النهرين بدرجة متساوية، هؤلاء السكان ذوي النتاج الغنطوسي المنبعث من عقائد البابلية الآشورية التلقيدية الموروثة، ولا شك أن هذا كله قد أنبأ عن توفر إمكانات فرص هامة، ولقد امتلك ماني ناصريين حاميين قويين جدًّا في بلاط الملك العظيم تمثلا في أخويه شابور فيروز ومهرشتان؛ إذ كان قد كسبهما إلى دينه وحولهما إليه، هذا من جانب.
ومن جانب مقابل كان لعدوه كرتير أصدقاء أقوياء جدًّا في ظل حكم خلفاء شابور، وذلك على الرغم من أننا لا نعرف من الذي أيده خلال فترة حكم شابور، هذا، وبإمكاننا أن نستخلص اعتمادًا على ما نعرفه عن الفئات والتجمعات التي ازدهر نشاطها في البلاط أن كلًّا من طائفة الرهبان المجوس ورهبان الديانة الزرادشتية وقائدهم كرتير لم يكونوا في عوز للقوة، فقد توفرت تحت تصرفهم كيفما رغبوا، ومهما يكن الحال فقد قوي الوضع القائم، وتمتنُّ خلال الثلاثين سنة التي حكم فيها شابور؛ علمًا بأن الأمور بدت كما لو أن الفرص كلها كانت مهيَّأة أمام المانوية لتصبح الديانية الرسمية للإمبراطورية الساسانية، غير أنها لم تصبح الديانة الرسمية كما طمح ماني وتمنى، ولا نعرف الاعتبارات التي عاقت شابور عن الإقدام على اتخاذ خطوة كهذه، لكننا نستطيع بكل ثقة أن نقدر حق القدر قوة التقاليد المحافظة التي ورثها من أسلافه كهنة معابد النار الزرادشتية في إصطخر، ففي نقشه الكبير يبزغ شابور من وسط الوصايا والتقاليد الموضوعة للطقوس المحيطة بأسرته، كأمير زرادشتي تقليدي أي: زرادشتي بالمعنى التوفيقي المقبول للكلمة في أيامه.
لقد كان هذا هو موقفه الرسمي، ومن الجائز لنا أن نفترض أن ميوله الذاتية، ومشاركاته الوجدانية كانت مع ماني، فبدون ذلك يصعب تفسير مواقفه المتعاونة معه، وتيسير الحماية والخدمات له، ومع ذلك فقد كان هذا هو الوقت الذي شهد
إدخال العلمانية التي كانت ستؤدي بشكل تدريجي إلى الاندماج بين طائفتي الكهنة المتنازعتين في الإمبراطورية، وكان هذا الاندماج هو العامل الحاسم في تأسيس الديانة الزرادشتية الرسمية، وكان طائفة الكهنوت هما المجوسية ومقرها الرئيسي في شيز في ميديا الدنيا لمجيلان المساوي للعراق العجمي، حاضرته همزان، والهرباد في إقليم فارس، وقد أحرزت طائفة كهنة المجوس المكان القيادي، وأحدثت في الفترة الساسانية لممارسة أفرادها دور محاكم التفتيش ضد المسيحية والمانوية والبوذية، وبقية الأقليات الدينية الأخرى، وجلب تأسيس الديانة الزرادشتية معه بشكل فعال ادَّعى عدد من الكتابات الدينية المقدسة، والتشاريع مثل الأوفستاك أو الأوفيستا.
هذا؛ وليس هناك أدنى شك في أن ممثلي العقيدة الإيرانية القديمة قد ابتغوا من وراء إقامة العقيدة الرسمية وإيجاد الشريعة فرض التوقف على نشاط العقائد الجديدة، أي: على المسيحية والمانوية، ولا شك أن تدوين التراث الديني المقدس القديم، وإظهاره يدلان بالفعل على ثورة هائلة في الحياة الدينية والثقافية من ميلاد إيران، وتصنيف الأوفستا يقدمه كرتير المنافس متعمد لكتب ماني العقائدية، وعليه كانت الزرادشتية في حوالي منتصف القرن الثالث من الميلاد في موقف الدفاع عن كيانها، وتعزيز مواقعها، أما بالنسبة لماني فقد طوَّر الآن من جانبه تشريع منظمًا بشكل رائع، أعده بحذر وعناية، وامتدت نشاطاته التبشيرية وفق خطة مفصلة نحو الشرق والغرب، وتولى بنفسه القيام برحلات جديدة إلى أجزاء مختلفة من الإمبراطورية حين قال: أمضيت عدة سنوات في فارس، بلاد الفرثيين شمالًا حتى أديابيين، وفي الأقاليم المجاورة لإمبراطورية الرومان.
وكانت أقاليم الحدود التي ذكرها هي مقاطعة بيت أربائل وهو موقع كان المكان الرئيسي فيه مدينة نصيبين، وهكذا جاب ماني ديار الإمبراطورية في جميع الاتجاهات مؤسسًا جماعات جديدة من الأتباع حيثما رحل، لكن ماني لم ينشط وحده في الدعوة إلى الهداية لدينه، فقد أرسل أتباعه شرقًا وغربًا أيضًا، ويصف لنا نص فارسي وثيق اثنين من هذه المشاريق، فنعرف أن ماني كان في جزء من طيسيفون عندما نظم هذه الرحلات التبشيرية.
وبناءً عليه بعث مولانا ثلاثة من الكتب الإنجيل ونصين آخرين، بعثهم إلى أدى، وأمرهم بقوله لا تذهب بها بعيدًا، بل ابق حيث أنت مثل تاجر يفتح مخزنًا، وعمل أدى بنشاط عظيم في هذه المناطق، وأسس عددًا من الأديرة، واختار العديد من الصفوة والسماعين، وكتب الكتب، وجعل من الحكمة سلاحًا، وتصدى للعقائد بهذه الكتب، وأوجد الخلاص بكل طريقة، وقهر العقائد وكبلها وتوغل حتى وصل إلى الإسكندرية؛ حيث أنجز العديد من أعمال الهداية، والمعجزات في تلك البلدان، وتقدمت عقيدة الرسول إلى داخل إمبراطورية الرومان.
وهكذا كان ماني قادرًا على تحقيق القبول لدينه في مصر، وهو ما يزال حيًّا، وكانت نجاحات مشاريعه الشرقية ذات أهمية بارزة أيضًا، ونُظمت هذه المشاريع من إقليم حلوان الذي تحمل حاضرته نفس الاسم، وتقع على الطريق الرئيسة الممتد ما بين طيسيفون وهمزان، ونقل في النص المقتبس آنفًا أيضًا عندما كان رسول النور في المدينة الإقليمية حلوان دعا نفسه مرآمون أي: المعلم أي: الذي يعرف اللغة الفرثية قراءة وكتابة، والذي كان أيضًا مطلعًا على ما أرسله مع أخوي الأمير أرطبان، وكان كاتبين ماهرين برسم وتزيين الكتب أرسلهما إلى أبرشهار وخاطبهما قائلًا "بورك هذا الدين وليتقدم هناك بقوة بوساطة المعلم والمستمعين والتبشير".
وتظهر أسطورة تدور حول ما وقع لمارأموا عندما قاومه رب حدود خراسان، وهي أنه وصل بالفعل إلى خراسان ذلك الإقليم الشرقي الكبير، ومارس هناك نشاطات التبشيرية، وبما أن اللغة الفرثية كانت هي اللغة الدارجة؛ فمن الطبيعي أنه كان على مارآموا أن يتقن هذه اللغة قراءة وكتابة.
وقد عرف إقليم أبروشهار فيما بعد باسم نيشابور، وقد كشف علماء الآثار الروس هناك عن مدونات فرثية. وهذا دليل على الموقف المهيمن الذي احتفظت به هذه اللغة مع كتابتها في هذا الإقليم الكبير، ولقد أدى تضمن البعثة التبشيرية على أمير فرثا باسم أرطبان إلى فرضيات بعيدة المدى، وإلى الشكوك في أن ماني قد وجه نشاطًا سياسيًّا مباشرًا ضد الحكم الساساني في إقليم خراسان الذي هو الوطن الأم للفرثيين، لكننا نستدرك من جانب أول ما نعرفه عن الملك الساساني شابور، وحسن تصرفه تجاه ماني ورعايته له؛ فنجد جميع الافتراضات من جانب القبائل الضعيفة لا يمكن الدفاع عنها.
وواضح من ناحية ثانية أن أصل ماني الفرثي قد وفر له فرصة ملائمة بشكل خاص في خرسان في إقليم أجداد الفرثيين القدماء، وأصبح إقليم خراسان الآن مركزًا هامًّا، ومنطلقًا للديانة المانوية للتوجه نحو الشرق الأقصى، وبدأ مشروع التبشير الثالث بقيادة أدى أيضًا، لكن برفق أرزاخيا في هذه المرة، وذلك بالتوجه سنة مائتين واحد وستين ومائتين واثنين وستين نحو مدينة كليكا بيتسلوك في إقليم بيت جلمائي، شرقي الدجلة، واعتمادًا على المدونات الشهداء المسيحين نستخلص أن هذه البعثة كانت ناجحة أيضًا إلى درجة أن ذكرى نشاط المانوية استمرت حية بعد قرن من الزمن تقريبًا.
وتزودنا كتابات المسيحية المعروفة باسم أعمال الأرشيلي على الرغم من أنها تعج بالكراهية والبغضاء، ومشوهة إلى حد ما بصورة حية عن نشاط ماني الخاص؛ حيث كان يشاهد بين الناس مرتديا سروالًا عريضًا وواسعًا لونه أصفر يميل نحو الاخضرار، وعباءة خضراء، أو زرقاء سماوية، وبيده عصا طويلة من الأبنوس، ويحمل تحت إبط يده اليسرى كتابًا بابليًّا.
إن هذه التجهيزات والثياب هي بلا تبرير موضحة في صورتي مرسومتين على جانبي الشكل النصف دائري، بارز في هيكل مثرافيدورا وهي الأصول المثيولوجية، لمثيولوجية مثرى، وعليه فنحن هنا أمام المظهر التقليدي الموروث لكهنة مثرى، وعليه عندما رأته الأعمال مرتديًا هذا الزي دعته كاهنًا لمثرى، وهناك كتابة عامة نقشت على عملة معدنية جاءت من شيرزين في جنوب بلاد بابل، نقشت بالمندعية، ومن المحتمل أن قراءتها كما يلي "ماني المعين من قبل مثرى" وهذه إشارة ثانية للصلة بين ماني ومثرى، هذا من جانب ومن جانب آخر نجد مما نستخرجه من معلومات من رسائل ماني، أن ذلك يعطيه مظهرًا آخر مختلف تمامًا ففي هذه الرسائل قدم ماني نفسه، وعرفها في كل مراسلة على أنه رسول ياسوع المسيح.
ويوضح هذا أن ماني أخذ في وقت ما فصاعدًا في إظهار نفسه ممثلًا للمسيح بشكل رئيسي، الأيام الأخيرة ونعرف أكثر قليلًا عن حياة ماني، خلال هذا الجزء الأكثر نشاطًا من حياته الدينية، ولا تصبح المعلومات أكثر تفصيلًا إلا قبيل نهاية أيام، فقد توفي شابور في منتصف شهر نيسان من عام مائتين وثلاث وسبعين من الميلاد، وخلفه على العرش ولده هرمز الأول، وفي الحال قدم ماني ولاءه وطاعته له، واتخذ الملك الجديد موقفًا نحو ماني ودينه كان فيه من التأييد والحماية والرعاية نفس القدر الذي كان فيه موقف أبيه، فجدد له كتاب التوصية الذي كان أبوه قد أصدره، وحصل ماني أيضًا على إذن خاص بالتقدم نحو بلاد بابل، ولم حكم هرمز
سوى عام؛ فقد توفي الملك العظيم في الوقت الذي كان ماني فيه في بابل، وخلفه على العرش اخوه بهران الأول الذي قدر لحكمه أن يستمر من عام مائتين وأربع وسبعين إلى عام مائتين وسبع وسبعين ميلادية.
وأخذت ماني رحلته إلى الحوض الأسفل لنهر دجلى، وقد زار الطوائف المانوية التي كانت قائمة على طرفي النهر، ووصل إلى مدينة هرمز أردشير في إقليم خوزيستان، وكانت نيته أن يخرق إقليم مملكة كوشان بحاضرتيها كابل وقندهار، ويبدو انه شعر بخطر يتهدد حياته، ولهذا حاول الوصول إلى تلك الأقاليم حينما كان قادرًا على الاعتماد عن الحماية والتأييد منذ أيام أعماله التبشيرية الأولى، وفي هذه المرحلة بالذات وصله اعتراض على زيارته لأراضي مملكة كوشان، وتظهر هذه التطورات في المقام الأول مدى معرفة الموظفين الملكيين، واطلاعهم الجيد على تحركات ومشاريع سفر الشخصيات السامية، وفي المقام الثاني أن ماني أحرز منصبًا عاليًا بما فيه الكفاية لخضوعه إلى رقابة شديدة من قبل السلطات العليا.
وذلك تقليدًا لعادة أخمينية ونمط في الرقابة قديم، ويصف لنا نص قبطي الأسابيع الأخيرة من حياة ماني فيقول: عندما تلقى ماني الاعتراض الملكي رجع لتوه يكتنفه الغضب والأسف، فغادر هرمز هاردشير إلى ميسان، وتوجه من ميسان إلى أرض دجلة، ومن هناك ركب النهر إلى طيسيفون، وعندما كان على ضفاف النيل يتابع رحلته حذر أتباعه وأنذرهم بقرب موعد نيله الشهادة، وذلك بقوله "انظروا إلي واملئوا عيونكم مني يا أولادي ففي قريب سيرحل جسدي عنكم"، وهكذا عاد ماني إلى بلاد الرافدين وتوجه بسفينته شمالًا عبر نهر دجلة حتى مدينة طيسفون، وانضم إليه بعد قليل أمير من المرتبة الثانية اسمه بات، كان ماني نفسه
قد حوله على يديه إلى دينه الجديد، ونواجه هذا الاسم فيما بعد حوالي ثلاثمائة وخمسين من الميلاد، وهو ينتمي إلى إقطاعية أرمينية، ويتزعم عشيرة صهراواني، ولعل مرافق ماني كان جد لها، ولعله كان في الواقع ملكًا فرثيًّا صغيرًا.
وإذا صح أن الأمير المستجيب للدين المانوي كان من أرمينيا، فسيزودنا هذا الأمر بتأكيد جديد حول ارتباطات المانوية مع مناطق إيران الشمالية الغربية، وأصدر بهرام الأول الملك العظيم الجديد أوامره إلى بات كي ما يحضر مع ماني، لكن يبدو أن شجاعته خانته ولهذا تحتم على ماني أن يقوم وحده بهذه الرحلة المصيرية الأخيرة، وأخذ طريق الرحلة التي سلكها ماني قبل وصوله شكل قوس عريض.
ووصل إلى بيلافاد المدينة السكنية الضخمة، ويبدو أن وصوله قد أحدث إثارة عظيمة، كما تؤكد النصوص القبطية على أن الكهنة المجوس قد قاموا بالخطوة الأولى عن طريق قائدهم، ربما بتقديم شكوى، أو ربما بشكل عريضة اتهام رفعوها إلى الملك، وكان على عريضة اتهام سواء أكانت مكتوبة أو شفوية لتمر عبر سلسلة من القنوات المتنوعة، وذلك تقيدًا بنظام قواعد موضوعة وثابتة.
هي شكوى ضد ماني والذي التقى مع الملك وجرت بينهما مقابلة كانت ساخنة، ومناظرة كانت كبيرة، وانتهت الجلسة الصاخبة بتذكير ماني بهرام بأعمال الرعاية والإحسان، التي نالها من كل من شابور وهرمز، وختم مقالته قائلًا "افعل بيما تراه" وبناءً على ذلك أمر الملك بتقييد ماني بالأغلال، فوضعت ثلاث سلاسل حول يديه، وثلاث أخرى حول عقبيه، وواحدة حول رقبته، وربط الأغلال، وأخذ إلى السجن.
إن هذا النوع القاسي من التكبيل بالقيود معروف من سجلات الشهداء المسيحيين، ولقد أمضى في تلك الحالة الأيام الممتدة ما بين التاسع عشر من شهر كانون الثاني والرابع عشر من شهر شوبار من عام مائتين وست وسبعين ميلادية، أو حسبما يذكر تقريري آخر من الحادي والثلاثين من شهر كانون الثاني إلى السادس والعشرين من شهر شوباط مائتين وسبع وسبعين، وفق قاعدة شرقية قديمة كان ماني قادرًا خلال هذه الأيام الستة والعشرين أن يرى حوارييه، ويتكلم معهم، ولما شعر ماني باقتراب نهايته أعطى أتباعه المقربين توجيهاته خاسة ومناسبة، وقد قام مارآموا الذي كان حاضرًا لدى إعطاء ماني لتوجيهاته هذه بنقلها إلى صلب الديانة المانوية، فيما بعد.
ثم خارت قوة ماني الذي كان في الستين من عمره، ولم يعد بإمكان جسده الذي أضعفه الصيام، وأضناه الكبت أن يتابع تحمل الأغلال الثقيلة؛ فانهار في اليوم الرابع من شهر شهريفر، ومات فصعد من جسده في الساعة الحادية عشر إلى مساكن جلالته في عليين، وحضر ذلك راهب مانوي اسمه عازاي، واثنان من الصديقين، وانتشر خبر موت ماني بسرعة متناهية في أرجاء مدينة بيت لابات، وتجمع الناس في جماعات كبيرة، وأمر الملك العظيم بغرس مشعل محترق في جسد ماني؛ ليتيقن فيما إذا كان زعيم الديانة البغيضة ميت بالفعل، ثم مزقت جثته، وقطع رأسه، وعلق فوق باب بيت لابات، ثم قام فيما بعد الأتباع المخلصون له بدفن البقايا الفانية في طيسفون.
وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.