الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبرندة، مزاحمه بالملك الفخم، أمير المسلمين حقيقة، المرتّب الحقّ، المعقود البيعة، وصاحب الكرّة، ووليّ حسن العاقبة، مجتثّ شجرته الخبيثة، وصارخ إيالته الدّنيّة، أبو عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر.
مولده: مولد هذه النّسمة المشؤومة أول يوم من رجب عام اثنين وثلاثين وسبعمائة.
وفاته: توفي قتيلا ممثّلا به بطيلاطة من ظاهر إشبيلية، في ثاني يوم من رجب عام ثلاثة وستين وسبعمائة، وسيقت رؤوس أشياعه، الغادرين مع رأسه إلى الحضرة فصلبت بها. وفي ذلك قلت:[السريع]
في غير حفظ الله من هامة
…
هام بها الشّيطان في كل واد
لا خلّفت ذكرا ولا رحمة
…
في فم إنسان ولا في فؤاد
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف ابن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر الخزرجي
«1»
أمير المسلمين بالأندلس بعد أبيه، رحمه الله.
أوّليّته: معروفة.
حاله: كان معدودا في نبلاء الملوك «2» ، صيانة، وعزّا وشهامة، وجمالا، وخصلا؛ عذب الشمائل، حلوا لبقا، لوذعيّا، هشّا، سخيّا؛ المثل المضروب به في الشجاعة المقتحمة حدّ التهوّر حلس ظهور الخيل، وأفرس «3» من جال على ظهورها «4» ، لا تقع العين، وإن غصّت الميادين، على أدرب بركض الجياد منه، مغرما بالصّيد، عارفا بسمات السّقار «5» وشتات الخيل؛ يحبّ الأدب، ويرتاح إلى الشعر، وينبّه على العيون، ويلمّ بالنادرة الحارّة. أخذت له البيعة يوم مهلك أبيه، وهو «6» يوم الثلاثاء السابع والعشرين لرجب
من «1» عام خمسة وعشرين وسبعمائة، وناله الحجب، واشتملت عليه الكفالة إلى أن شبّ «2» وظهر، وفتك بوزيره المتغلّب على ملكه، وهو غلام لم يبقل خدّه، فهيب شأنه، ورهبت سطوته، وبرز لمباشرة الميادين، وارتياد المطارد، واجتلاء الوجوه، فكان ملء العيون والصدور.
ذكاؤه: حدّثني «3» القائد أبو القاسم ابن الوزير عبد الله بن عيسى وزير جدّه، قال: تذوكر يوما بحضرته تباين قول «4» المتنبي «5» : [المتقارب]
ألا «6» خدّد الله ورد الخدود
…
وقدّ قدود الحسان القدود
وقول امرئ القيس «7» : [الطويل]
وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة
…
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل «8»
وقول إبراهيم بن سهل «9» : [البسيط]
إنّي له من دمي المسفوك معتذر «10»
…
أقول حمّلته في «11» سفكه تعبا
فقال، رحمه الله، بديهة «12» : بينهما ما بين نفس ملك عربي وشاعر «13» ، ونفس يهودي تحت الذّمّة، وإنما تتنفّس بقدر همّتها «14» ، أو كلاما هذا معناه. ولما «15» نازل مدينة قبرة ودخل جفنها عنوة «16» ، ونال قصبتها، ورماها بالنّفط، وتغلّب عليها، وهي ما هي عند المسلمين، وعند النصارى «17» ، من الشّهرة والجلالة، بادرناه «18» نهنّئه بما
نسّق «1» له، فزوى «2» وجهه عنّا، وقال: ماذا تهنّونني به، كأنكم رأيتم تلك الخرقة بكذا «3» - يعني العلم الكبير- في منار إشبيلية «4» ، فعجبنا من بعد همّته، ومرمى عزمه «5» .
شجاعته: أقسم أن يغير على باب مدينة بيّانة في عدّة قليلة عيّنها الميمن «6» ، فوقع البهت وتوقّعت الفاقرة، لقرب الصّريخ، ومنعة الحوزة، وكثرة الحامية، واتصال تخوم البلاد، ووفور الفرسان بذلك الصّقع؛ وتنخّل أهل الحفاظ، وهجم «7» على باب الكفّار نهارا، وانتهى إلى باب المدينة، وقد برزت الحامية، وتوقع فرسان الرّوم الكمناء، فأقصروا عن الإحصار، وحمي المسلمون فشدّ عليهم، فأعطوهم الضّمّة ودخلوا أمامهم المدينة؛ ورمى السلطان أحد الرجال النّاشبة بمزراق كان بيده محلّى السّنان رفيع القيمة، وتحامل «8» يريد الباب فمنع الإجهاز «9» عليه، وانتزاع الرّمح الذي كان يجرّه خلفه، وقال: اتركوه يعالج به رمحه «10» إن كان أخطأته المنيّة، وقد أفلت من أنشوطة خطر عظيم.
جهاده ومناقبه: كان له وقائع في الكفّار، على قلّة أيامه، وتحرّك ونال البلاد، وفتح قبرة، ومقدّم جيش العدو الذي بيّت بظاهرها وأثخن فيه، وفتح الله على يده مدينة باغوة، وتغلب المسلمون على حصن قشتالة، ونازل حصن قشرة «11» بنفسه لدى قرطبة، فكاد أن يتغلّب عليه، لولا مدد اتّصل للنصارى به. وأعظم مناقبه تخليص جبل الفتح، وقد أخذ الطاغية بكظمه، ونازله على قرب العهد من تملّك المسلمين إياه، وناخ «12» بكلكله، وهدّ بالمجانيق أسواره، فدارى الطّاغية، واستنزل
عزمه وتحفه «1» ، ولحق في موضع اختلاله، إلى أن صرفه عنه، وعقد له صلحا، ففازت به قداح الإسلام، وتخلّصه من بين ناب العدو وظفره؛ فكان الفتح عظيما لا كفاء له.
بعض الأحداث في دولته: وفي شهر المحرم «2» من عام سبعة وعشرين وسبعمائة، نشأت بين المتغلّب «3» على دولته، وزيره، وبين شيخ الغزاة وأمير القبائل العدوية، عثمان بن أبي العلاء، الوحشة وألحقت ريحها السعايات، فصبّت على المسلمين شؤبوب فتنة عظم فيهم أثرها «4» معاطبا، وسئم الانصراف عن الأندلس، فلحق «5» بساحل ألمريّة، وأحوزته المذاهب وتحامت جواره الملوك، فداخل «6» أهل حصن أندرش، فدخل في طاعته، ثم استضاف «7» إليه ما يجاوره، فأعضل الدّاء، وتفاقمت اللأواء، وغامت سماء الفتنة «8» ، واستنفد خزائن الأموال المستعدة لدفاع العدو، واستلحق الشيخ أبو سعيد عمّ السلطان، وقد استقرّ بتلمسان، فلحق به، وقام بدعوته في أخريات صفر عام «9» سبعة وعشرين وسبعمائة؛ واغتنم الطاغية فتنة المسلمين فنزل ثغر بيرة «10» ، ركاب الجهاد، وشجى العدو، فتغلّب عليه، واستولى على جملة من الحصون التي تجاوره، فاتّسع نطاق الخوف «11» ، وأعيا داء الشّر، وصرف إلى نظر «12» ملك المغرب، في أخريات العام، رندة ومربلّة وما يليهما «13» ، وتردّدت الرسائل بين السلطان وبين شيخ الغزاة، فأجلت «14» الحال عن مهادنة، ومعاودة للطاعة، فصرف أميرهم أدراجه إلى العدوة، وانتقلوا إلى سكنى وادي آش على رسم الخدمة والحماية على شروط مقرّرة؛ وأوقع السلطان بوزيره، وأعاد الشيخ إلى محلّه من حضرته؛ أوائل عام ثمانية وعشرين بعده، واستقدم القائد الحاجب أبا النعيم رضوان من أعاصم حباليه
قتيله، فقام بأمره أحسن قيام. وعبر البحر بنفسه بعد استقرار ملكه في الرابع والعشرين من شهر ذي حجة من «1» عام اثنين وثلاثين وسبعمائة، فاجتمع مع ملك المغرب السلطان الكبير أبي الحسن بن عثمان، فأكرم نزله، وأصحبه إلى الأندلس، وحباه بما لم يحب به ملك تقدّمه، من مغربيّات «2» الخيل، وخطير الذخيرة، ومستجاد العدّة؛ ونزل «3» الجيش على أثره جبل الفتح؛ وتوجّه الحاجب أبو النعيم بأكبر إخوة السلطان، مظاهرا على سبيل النّيابة، وهيّأ الله فتحه. ثم استنقاذه بلحاق السلطان، ومحاولة أمره كما تقدّم، فتمّ ذلك يوم «4» الثلاثاء الثاني عشر لذي «5» حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
وزراء دولته: وزر له وزير أبيه «6» ، وأخذ له البيعة، وهو مثخن «7» بالجراحات التي أصابته يوم الفتك بأبيه السلطان أبي الوليد، ولم ينشب أن أجهز «8» جرح تجاوز عظم الدماغ، بعد مصابرة ألم العلاج الشديد، حسبما يأتي في اسمه، وهو أبو الحسن علي بن مسعود بن يحيى بن مسعود المحاربي. وترقى إلى الوزارة والحجابة وكيل أبيه محمد بن أحمد «9» المحروق، من أهل غرناطة، يوم الاثنين غرّة شهر رمضان من «10» عام خمسة وعشرين وسبعمائة، ويأتي التعريف بهم. ثم اغتيل «11» بأمره، عشيّ ثاني يوم من محرم فاتح تسعة وعشرين وسبعمائة. ثم وزر له القائد «12» أبو عبد الله بن القائد أبي بكر عتيق بن يحيى بن المول من وجوه الدولة، وصدور من يمتّ بوصله، إلى السابع عشر من رجب من العام؛ ثم صرف إلى العدوة. وأقام رسم الوزارة والحجابة والنيابة «13» أبو النعيم مولى أبيه، إلى آخر مدته، بعد أن التأث أمره