الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كاتبه: واستعمل في الكتابة صاحبنا الرجل الأخرق، الطّوال، الأهوج، البريّ من الخلال الحميدة، إلّا ما كان من وسط الخط وسوقيّ السجع، والدرك الأسفل من النظم، عبد الحق «1» بن محمد بن عطية المحاربي، الآتي ذكره «2» . وهو الذي أفرده الله، جل جلاله؛ بالغاية البعيدة من مجال سوء العهد؛ وقلّة الوفاء. وتولّى القضاء أبو جعفر «3» أحمد بن أبي القاسم بن جزي أياما، ثم شهّر به قوم من الفقهاء منافسيه، ورشقوه بما أوجب صرفه؛ وقدّم للقضاء الشيخ المسنّ، الطويل السّباحة في بحر الأحكام، المفري الودجين والحلقوم بسكّين القضاء، المنبوز «4» بالموبقات فيه، تجاوز الله عنه، سلمون بن علي بن سلمون. وشيخ الغزاة على عهده، يحيى بن عمر بن عبد الله بن عبد الحق، شيخ الغزاة لأخيه، أصبح يوم الكائنة في قياده، ونصح له فأمر له؛ وضاعف برّه.
الملوك على عهده
مولده: في يوم الاثنين الثامن والعشرين لربيع الأول من عام أربعين وسبعمائة.
وفاته: حسبما تقرّر آنفا في يوم الأربعاء السابع والعشرين لشعبان من عام أحد وستين وسبعمائة.
أبو بكر بن إبراهيم، الأمير أبو يحيى المسوفي الصحراوي
«5»
من أمراء المرابطين، صهر علي بن يوسف بن تاشفين، زوج أخته، وأبو ولده منها يحيى، المشهور بالكرم.
أوّليّته: معروفة تستقرأ عند ذكر ملوكهم.
حالهم: كان مثلا في الكرم، وآية في الجود، أنسى أجواد الإسلام والجاهلية إلى الغاية؛ في الحياء والشجاعة والتّبريز في ميدان الفضائل. استوزر الوزير الحكيم الشهير أبا بكر بن الصائغ، واختصّه؛ فتجمّلت دولته ونبه قدره. وأخباره معه شهيرة.
ولايته: ولّي غرناطة سنة خمسمائة. ثم انتقل منها إلى سرقسطة عند خروج المستعين بن هود إلى روطة «1» ، فأقام بها مراسم الملك، وانهمك في اللذّات، وعكف على المعاقرة، وكان يجعل التّاج بين ندمائه، ويتزيّا بزيّ الملوك، إلى أن هلك بها تحت مضايقة طاغية الروم المستولي عليها بعد.
خروجه من الصحراء: قال المؤرّخ: كان أبو بكر هذا رئيسا على بعض قبيله في الصحراء، وكان ابن عمّه منفردا بالتدبير؛ فاتفق يوما أن دخل على ابن عمّه في خبائه، وزوج ابن عمّه تمتشط في موضع قريب من الخباء؛ فاشتغلت نفس أبي «2» بكر بالمرأة لحسنها وجمالها، فحين دخل قال لابن عمّه: فلانة تريد الوصول إليك؛ وإنما قصد الاستئذان لرجل من أصحابه، فنطق باسم المرأة لشغل باله بها، فقال له ابن عمّه بعد طول صمت وفكرة، وقد أنكر ذلك: عهدي بهذا الشخص لا يستأذن علينا.
فرجع عقله، وثاب لبّه، وعلم قدر ما من القبيح وقع فيه، فخرج من ذلك المجلس، وركب جمله، وهان عليه مفارقة وطنه من أجل العار، واستصحب نفرا قليلا من أصحابه على حال استعجال، ورحل ليلا ونهارا، حتى وصل سجلماسة «3» أولي عمالات علي بن يوسف ابن عمّه؛ واتصل به قدومه، فأوجب حقّه، وعرف قدره، وعقد له على أخته، وولّاه على سرقسطة دار ملك بني هود بشرق الأندلس، بعد ولاية غرناطة.
نبذة من أخباره في الكرم: قالوا: لمّا حلّ بظاهر سجلماسة، مجهول الوفادة، خافي الأمر، نزل بظلّ نخلة بظاهرها، لا يعرف أحدا ولا يقصده، فجاء في ذلك الموضع رجل حداد فقراه «4» بعنز كان عنده، وتعرّف له، وأبو بكر يستغرب أمره؛ فلمّا فرغوا من أكلهم، قال للحداد: ألا تصحبنا لموضع أملنا، وتكون أحد إخواننا، حتى تحمد لقاءنا؟ فأجابه؛ وصحبه الحداد، وخدمه، فلمّا قربوا من مرّاكش، استأذن أبو بكر عليّ بن يوسف بن تاشفين، وأعلمه بنفسه، فأخرج له عليّ بن يوسف فرسا من عتاق خيله، وكسوة من ثيابه وألف دينار، فأمر أبو بكر بدفعها للحداد، فبهت
الحداد؛ وانصرف الرسول موجّها إلى مرسله فأخبره بما عاين من كرمه وفعله، فأعاده إليه في الحين بفرس أخرى، وكسى كثيرة، وآلاف من المال، فلمّا دخل مرّاكش، ولقي عليّ بن يوسف وأنزله، أنزل الحداد مع نفسه في بيت واحد، وشاركه في الأموال التي توجّه بها، فانصرف يجرّ وراءه دنيا عريضة.
ولمّا ملك سرقسطة «1» ، اختصّ الوزير الحكيم أبا بكر بن الصائغ، ولطف منه محلّه. ذكر أنه غاب يوما عنه وعن حضور مجلسه بسرقسطة، ثم بكر من الغد، فلمّا دخل قال له: أين غبت يا حكيم عنّا؟ فقال: يا مولاي، أصابتني سوداء واغتممت، فأشار إلى الفتى الذي كان يقف على رأسه، وخاطبه بلسان عجمي»
، فأحضره طبقا مملوءا مثاقيل محشمة، وعليها نوادير ياسمين، فدفعه كلّه إليه، فقال ابن باجة: يا مولاي، لم يعرف جالينوس من هذا الطّب، فضحك.
وذكر أنه أنشد شعرا في مدحه، وقد قعد للشراب، فاستفزّه الطرب، وحلف أن لا يمشي إلّا من فوق المال إلى منزله في طريقه، فالتمس الخدّام برنسه بأن كانوا يطرحون من المال شيئا له خطر، على أوعيته حتى يغمرها، فيمشي خطوا إلى أن وصل إلى منزله؛ وحسد الحكيم أصحابه، ولم يقدروا على مطالبته. واتفق أن سار الأمير أبو بكر، وأمر أصحابه بالتأهّب والاستعداد، فاستعدّ ابن باجة، واتخذ الأقبية والأخبية، واستفره الجياد من بغال الحمولة، فكانت له منها سبعة صفر الألوان، حمل عليها الثياب والفرش والمال؛ فلمّا نزل الأمير بمقرّه، مرّت عليه البغال المذكورة في أجمل الهيئات، فقال لجلسائه: لمن هذه البغال؟ ومن يكون من رجالنا هذا فأصابوا العزّة؟ فقالوا: هي للحكيم ابن الصائغ، صاحب سرقسطة، وليعلم مولانا أنّ في وسط كل حمل منها ألف دينار ذهبا سوى المتاع والعدّة؛ فاستحسن ذلك. وقال: أهذا حقّ؟ قالوا: نعم، فدعا الخازن على المال، وقال له ادفع لابن باجة خمسة آلاف دينار ليكمل له ذلك اثني عشر ألفا، فقد سمعته غير ما مرة يتمنّى أن يكون له ذلك؛ ثم بعث عنه في الحين وقال له: يا حكيم، ما هذا الاستعداد، فقال له: يا مولاي، كل ذلك من هباتكم وأعطياتكم، ولما علمت أن إظهار ذلك يسرّكم، فسرّ بذلك.
وأخباره رحمه الله كثيرة.
محنته: قالوا: ولمّا ولّي غرناطة سنة خمسمائة، ثار بها، وانبرى على قومه لأمر رابه، فانتبذ عنه قومه، وناصبوه الحرب، حتى استنزلوه عنوة، وقبضوا عليه،
ووجّهوه إلى علي بن يوسف، فآثر الإبقاء عليه، وعفا عنه، واستعمله بسرقسطة؛ كذا ذكره الملّاحي، وأشار إليه. وعندي أن الأمر ليس كذلك، وأنّ الذي جرى له ذلك، أبو بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين، فيتحقّق.
وفاته: توفي بسرقسطة في سنة عشر وخمسمائة بعد أن ضاق ذرعه بطاغية الروم، الذي أناخ عليه بكلكله. وعندما تعرّف خبر وفاته، واتصلت بالأمير أبي إسحاق إبراهيم بن تاشفين، وهو يومئذ والي مرسية، بادر إلى سرقسطة، فضبطها، ونظر في سائر أمورها، ثم صدر إلى مرسية.
رثاؤه: ورثاه الحكيم أبو بكر بن الصائغ «1» بمراث اشتهر عنه منها قوله «2» :
[الطويل]
سلام وإلمام ووسميّ مزنة «3»
…
على الجدث النائي «4» الذي لا أزوره
أحقّ أبو بكر تقضّى فلا ترى «5»
…
تردّ جماهير الوفود ستوره
لئن أنست تلك اللحود بلحده «6»
…
لقد أوحشت أقطاره «7» وقصوره
ومن ذلك قوله «8» : [الخفيف]
أيها الملك قد «9» لعمري نعى المج
…
د نواعيك «10» يوم قمنا فنحنا