الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغداة، واقتفى البعث أثره، حتى وقعوا عليه، وسيق إلى مصرعه، وقتل بظاهر البلد، ثاني اليوم الذي كان غدر فيه، جعلها الله له شهادة ونفعه بها، فلقد كان بقيّة البيت، وآخر القوم، دماثة وحياء، وبعدا عن الشرّ، وركونا للعافية.
وأنشدت على قبره الذي ووريت به جثّته بالقلعة من ظاهر المدينة، قصيدة أدّيت فيها بعض حقّه:[الوافر]
بني الدنيا، بني لمع السّراب،
…
لدوا للموت وابنوا للخراب
إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص عمر ابن يحيى الهنتاني، أبو إسحاق
أمير المؤمنين بتونس، وبلاد إفريقية، ابن الأمير أبي زكريا، أمير إفريقية، وأصل الملوك المتأثّلين العزّ بها، والفرع الذي دوّح بها، من فروع الموحّدين بالمغرب، واستجلابه بها أبا محمد عبد المؤمن بن علي، أبا الملوك من قومه، وتغلّب ذريته على المغرب وإفريقية والأندلس معروف كله، يفتقر بسطه إلى إطالة كثيرة، تخرج عن الغرض.
وكان جدّ هؤلاء الملوك من أصحاب المهدي، في العشرة الذين هبّوا لبيعته، وصحبوه في غربته، أبو حفص، عمر بن يحيى، ولم يزل هو وولده من بعده، مرفوع القدر، معروف الحق.
ولمّا صار الأمر للناصر «1» أبي عبد الله بن المنصور أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي، صرف وجهه إلى إفريقية، ونزل بالمهديّة، وتلوّك إليه ابن غانية «2» فيمن لفّه من العرب والأوباش، في جيش يسوق الشجر والمدر، فجهّز إلى لقائه عسكرا لنظر الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص «3» ، جدّهم الأقرب،
فخرج من ظاهر المهدية في أهبة ضخمة، وتعبئة محكمة، والتقى الجمعان، فكانت على ابن غانية، الدائرة، ونصر الشيخ محمد نصرا لا كفاء له، وفي ذلك يقول أحمد بن خالد من شعر عندهم:[الطويل]
فتوح بها شدّت عرى الملك والدّين
…
تراقب منّا منكم غير ممنون
وفتحت المهدية على هيئة ذلك الفتح، وانصرف الناصر إلى تونس، ثم تفقّد البلاد، وأحكم ثقافها «1» ، وشرع في الإياب إلى المغرب، وترجّح عنده تقديم أبي محمد بن أبي حفص المصنوع له بإفريقية، على ملكها، مستظهرا منه بمضاء وسابقة وحزم؛ بسط يده في الأموال، وجعل إليه النظر في جميع الأمور، سنة ثلاث وستمائة. ثم كان اللقاء بينه وبين ابن غانية في سنة ست بعدها؛ فهزم ابن غانية، واستولى على محلّته؛ فاتصل سعده، وتوالى ظهره، إلى أن هلك مشايعا لقومه من بني عبد المؤمن، مظاهرا بدعوتهم عام تسعة وعشرين وستمائة «2» .
وولي أمره بعده، كبير ولده، عبد الله، على عهد المستنصر بالله بن الناصر من ملوكهم؛ وقد كان الشيخ أبو محمد زوحم، عند اختلال الدولة، بالسيد أبي العلاء الكبير، عمّ أبي المستنصر على أن يكون له اسم الإمارة بقصبة تونس، والشيخ أبو محمد على ما لسائر نظره؛ فبقي ولده عبد الله على ذلك بعد، إلى أن كان ما هو أيضا معروف من تصيّر الأمر إلى المأمون أبي العلاء إدريس، ووقعه السيف في وجوه الدولة بمراكش، وأخذه بثرّة «3» أخيه وعمّه منهم. وثار أهل الأندلس على السيد أبي الربيع بعده بإشبيلية وجعجعوا بهم، وأخذوا في التشريد بهم، وتبديد دعوتهم؛ واضطربت الأمور، وكثر الخلاف، ولحق الأمير أبو زكريا بأخيه بإفريقية، وعرض عليه الاستبداد، فأنف من ذلك، وأنكره عليه إنكارا شديدا، خاف منه على نفسه؛ فلحق بقابس فارّا، واستجمع بها مع شيخها مكّي، وسلف شيوخها اليوم من بني مكي؛ فمهّد له، وتلقّاه بالرحب، وخاطب له الموحدين سرّا، فوعدوه بذلك، عند خروج عبد الله من تونس إلى الحركة، من جهة القيروان. فلمّا تحرّك نحوا عليه، وطلبوا منه المال، وتلكّأ، فاستدعوا أخاه الأمير أبا زكريا، فلم يرعه وهو قاعد في خبائه آمن في سربه، إلّا ثورة الجند به، والقبض عليه، ثم طردوه إلى مرّاكش؛ وقعد
أخوه الأمير أبو زكريا مقعده، وأخذ بيعة الجند والخاصّة لنفسه، مستبدّا بأمره، ورحل إلى تونس، فأخذ بيعة العامّة، وقتل السّيد الذي كان بقصبتها؛ وقبض أهل بجاية حين بلغهم الخبر على واليها السّيد أبي عمران، فقتلوه تغريقا؛ وانتظمت الدولة، وتأثّل الأمر. وكان حازما داهية مشاركا في الطّلب، أديبا راجح العقل، أصيل الرأي، حسن السياسة، مصنوعا له، موفقا في تدبيره؛ جبى الأموال، واقتنى العدد، واصطنع الرجال، واستكثر من الجيش، وهزم العرب، وافتتح البلاد، وعظمت الأمنة بينه وبين الخليفة بمراكش الملقّب بالسّعيد. وعزم كلّ منهما على ملاقاة صاحبه، فأبى القدر ذلك؛ فكان من مهلك السعيد بظاهر تلمسان ما هو معروف. واتصل بأبي زكريا هلك ولده وليّ العهد أبي يحيى ببجاية، فعظم عليه حزنه وأفرط جزعه، واشتهر من رثائه فيه قوله:[الطويل]
ألا جازع يبكي لفقد حبيبه
…
فإني لعمري قد أضرّ بي الثّكل
لقد كان لي مال وأهل فقدتهم
…
فهأنا لا مال لديّ «1» ولا أهل
سأبكي وأرثي حسرة لفراقهم
…
بكاء قريح لا يملّ ولا يسلو «2»
فلهفي ليوم فرّق الدهر بيننا
…
ألا فرج يرجى فينتظم الشّمل؟
وإني لأرضى بالقضاء وحكمه
…
وأعلم ربّي أنه حاكم عدل
نسبه ابن عذاري المراكشي في البيان المغرب «3» . واعتلّ بطريقه فمات ببلد العنّاب لانقضاء أربعة من مهلك السعيد؛ وكان موت السعيد؛ يوم الثلاثاء، منسلخ صفر سنة ست وأربعين وستمائة. وبويع ولده الأمير أبو عبد الله بتونس وسنّه إحدى وعشرين سنة، فوجد ملكا مؤسّسا، وجندا مجنّدا، وسلطانا قاهرا ومالا وافرا؛ فبلغ الغاية في الجبروت والتّيه والنّخوة والصّلف، وتسمّى بأمير المؤمنين، وتلقّب بالمستنصر بالله؛ ونقم عليه أرباب دولته أمورا أوجبت مداخلة عمّه أبي عبد الله بن عبد الواحد، المعروف باللّحياني. ومبايعته سرّا بداره، وانتهى الخبر للمستنصر، فعاجل الأمر قبل انتشاره برأي الحزمة من خاصّته، كابن أبي الحسين، وأبي جميل بن أبي الحملات بن مردنيش، وظافر الكبير، وقصدوا دار عمّه فكبسوها، فقتلوا من كان بها، وعدّتهم تناهز خمسين، منهم عمّه، فسكن الإرجاف، وسلم المنازع، وأعطت
مقادها، واستمرّت أيّامه. وأخباره في الجود والجرأة والتّعاظم على ملوك زمانه، مشهورة. وكانت وفاته سنة أربع وسبعين وستمائة وولي أمره بعده ابنه الملقّب بالواثق بالله، وكان مضعوفا، ولم تطل مدته.
عاد الحديث، وكان عمّه المترجم، لمّا اتصل به مهلك أخيه المستنصر، قد أجاز البحر من الأندلس، ولحق بتلمسان، وداخل كثيرا من الموحّدين بها، كأبي هلال، فهيّأ له أبو هلال تملّك بجاية، ثم تحرّك إلى تونس، فتغلّب عليها، فقتل الواثق وطائفة من إخوته وبنيه، منهم صبيّ يسمّى الفضل، وكان أنهضهم، واستبدّ بالأمر، وتمّت بيعته بإفريقية، وكان من الأمر ما يذكر.
حاله: كان أيّدا «1» ، جميلا وسيما، ربعة بادنا، آدم اللون، شجاعا بهمة، عجلا غير مراخ، ولا حازم، منحطّا في هوى نفسه، منقادا للذّته، بريئا من التشمّت في جميع أمره. وولي الخلافة في حال كبره، ووخطه الشيب، وآثر اللهو، حتى زعموا أنه فقد فوجد في مزرعة باقلا مزهرة ألفي فيها بعد جهد، نائما بينها، نشوان يتناثر عليه سقطها؛ واحتجب عن مباشرة سلطانه؛ فزعموا أن خالصته «2» أبا الحسن بن سهل، داخل الناس بولده أبي فارس في خلعه، والقيام مكانه، وبلغه ذلك، فاستعدّ وتأهّب، واستركب الجند، ودعا ولده، فأحضره ينتظر الموت من يمينه وشماله، وأمر للحين فقتل وطرح بأزقّة المدينة، وعجّل بإزعاج ولده إلى بجاية، وعاد إلى حاله.
دخوله غرناطة: قالوا: ولمّا أوقع الأمير المستنصر بعمّه أبي عبد الله، كان أخوه أبو إسحاق، ممّن فرّ بنفسه إلى الأندلس؛ ولجأ إلى أميرها أبي عبد الله بن الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر، ثاني ملوكهم «3» فنوّه به، وأكرم نزله، وبوّأه بحال عنايته، وجعل دار ضيافته لأول نزوله القصر المنسوب إلى السّيد «4» خارج حضرته،