الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في اسم هذه المدينة ووضعها على إجمال واختصار
بسم الله الرّحمن الرّحيم يقال «1» غرناطة، ويقال إغرناطة «2» ، وكلاهما أعجمي، وهي مدينة كورة إلبيرة، فبينهما فرسخان وثلثا فرسخ «3» . وإلبيرة من أعظم كور الأندلس، ومتوسّطة ما اشتمل عليه الفتح من البلاد، وتسمّى في تاريخ الأمم السالفة من الرّوم، سنام «4» الأندلس، وتدعى في القديم بقسطيليّة. وكان لها من الشّهرة والعمارة، ولأهلها من الثروة والعدّة، وبها من الفقهاء والعلماء، ما هو مشهور. قال أبو مروان بن حيّان: كان يجتمع بباب المسجد الجامع من إلبيرة خمسون حكمة «5» ، كلها من فضّة لكثرة الأشراف بها. ويدلّ على ذلك آثارها الخالدة، وأعلامها الماثلة، كطلل مسجدها الجامع، الذي تحامى استطالة البلى، كسلت عن طمس معالمه أكفّ الرّدى، إلى بلوغ ما فسح له من المدى.
بناه الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم، أمير المؤمنين الخليفة «1» بقرطبة، رحمه الله، على تأسيس حنش بن عبد الله الصّنعاني الشافعي، رحمه الله، وعلى محرابه لهذا الوقت:«بسم الله العظيم، بنيت لله؛ أمر ببنائها الأمير محمد بن عبد الرحمن، أكرمه الله، رجاء ثوابه العظيم؛ وتوسيعا لرعيته؛ فتمّ بعون الله على يدي عبد الله بن عبد الله، عامله على كورة إلبيرة في ذي قعدة سنة خمسين ومائتين» .
ولم تزل الأيام تخيف ساكنها، والعفاء يتبوّأ مساكنها، والفتن الإسلامية تجوس أماكنها، حتى شملها الخراب، وتقسّم قاطنها الاغتراب، وكلّ الذي فوق التّراب تراب. وانتقل أهلها مدة أيام الفتنة البربريّة «2» سنة أربعمائة من الهجرة، فما بعدها، ولجأوا إلى مدينة غرناطة، فصارت حاضرة الصّقع، وأمّ المصر، وبيضة ذلك الحقّ، لحصانة وضعها، وطيب هوائها، ودرور مائها، ووفور مدتها، فأمن فيها الخائف، ونظم النّشر، ورسخت الأقدام، وتأثّل المصر، وهلمّ جرّا. فهي بالأندلس، قطب بلاد الأندلس، ودار الملك، وقرى الإمارة، أبقاها الله متبوّأ الكلمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بقدرته.
من «كتاب إلبيرة» «3» ، قال: بعد ذكر إلبيرة، وقد خلفها بعد ذلك كله مدينة غرناطة من أعظم مدنها وأقدمها، عندما انقلبت العمارة إليها من إلبيرة، ودارت أفلاك البلاد الأندلسية، فهي في وقتنا هذا قاعدة الدّنيا، وقرارة العليا، وحاضرة السلطان، وقبّة العدل والإحسان. لا يعدلها في داخلها ولا خارجها بلد من البلدان، ولا يضاهيها في اتّساع عمارتها، وطيب قرارتها، وطن من الأوطان. ولا يأتي على حصر أوصاف جمالها، وعدّ أصناف جلالها، قلم البيان. أدام الله فيها العزّ للمسلمين والإسلام، وحرسها ومن اشتملت عليه من خلفائه، وأنصار لوائه، بعينه التي لا تنام، وركنه الذي لا يرام.
وهذه المدينة من معمور الإقليم الخامس «4» ، يبتدئ من الشرق، من بلاد يأجوج ومأجوج، ثم يمرّ على شمال خراسان، ويمرّ على سواحل الشام، ممّا يلي
الشمال، ويمرّ على بلاد الأندلس، قرطبة وإشبيلية وما والاها إلى البحر المحيط الغربي. وقال صاعد بن أحمد في كتاب «الطّبقات» : إنّ معظم الأندلس في الإقليم الخامس، وطائفة منها في الإقليم الرابع، كمدينة إشبيلية، ومالقة، وغرناطة، وألمريّة ومرسية.
وذكر العلماء بصناعة الأحكام أنّ طالعها الذي اختطّت به السّرطان، ونحلوها، لأجل ذلك، مزايا، وحظوظا من السعادة، اقتضاها تسيير أحكام القرانات الانتقاليّة على عهد تأليف هذا الموضع.
وطولها سبع وعشرون درجة وثلاثون دقيقة «1» ، وعرضها سبع وثلاثون درجة وعشر دقائق. وهي مساوية في الطول بأمر يسير لقرطبة، وميورقة، وألمريّة؛ وتقرب في العرض من إشبيلية، وألمريّة، وشاطبة وطرطوشة، وسردانية، وأنطاكية، والرّقة. كل ذلك بأقلّ من درجة. فهي «2» شاميّة في أكثر أحوالها، قريبة من الاعتدال، وبينها وبين قرطبة، أعادها الله تعالى، تسعون ميلا. وهي منها بين شرق وقبلة. وبحر الشام «3» يحول ويحاجز بين الأندلس وبلاد العدوة «4» ، وبين غرب وقبلة على أربعة برد «5» . والجبال بين شرق وقبلة، والبراجلات «6» بين شرق وجوف «7» ، والكنبانيّة «8» بين غرب وقبلة، وبين جوف وغرب، فهي لمكان جوار السّاحل، ممارة بالبواكر «9» السّاحلية، طيبة البحار، وركاب لجهاد البحر، ولمكان استقبال الجبال، المقصودة «10» بالفواكه المتأخّرة اللحاق، معلّلة بالمدّخرات،
ولمكان «1» استدبار الكنبانيّة واضطبار «2» البراجلات؛ بحر من بحور الحنطة، ومعدن للحبوب المفضلة، ولمكان شلير، جبل الثلج «3» ، أحد مشاهير جبال الأرض، الذي ينزل به الثلج شتاء وصيفا، وهو على قبلة منها على فرسخين؛ وينساب منه ستة وثلاثون نهرا من فوّهات الماء، وتنبجس من سفوحه العيون، صحّ منها الهواء، واضطردت في أرجائها وساحاتها المياه، وتعدّدت الجنّات بها والبساتين، والتفّت الأدواح، وشمّر الرّوّاد على منابت العشب في مظانّ العقار مستودعات الأدوية والتّرياقيّة. وبردها لذلك في المنقلب الشتوي شديد، وتجمد بسببه الأدهان والمائعات، ويتراكم بساحاتها الثلج في بعض السنين، فجسوم أهلها لصحّة الهواء صلبة، وسحانهم خشنة، وهضومهم قويّة، ونفوسهم لمكان الحرّ الغريزي جريّة «4» .
وهي دار منعة وكرسي ملك، ومقام حصانة. وكان ابن غانية «5» يقول للمرابطين في مرض موته، وقد عوّل عليها للامتساك بدعوتهم: الأندلس درقة، وغرناطة قبضتها؛ فإذا جشّمتم يا معشر المرابطين القبضة، لم تخرج الدرقة من أيديكم.
ومن أبدع ما قيل في الاعتذار عن شدّة بردها، ما هو غريب في معناه، قول شيخنا القاضي أبي بكر بن شبرين رحمه الله «6» :[الطويل]
رعى الله من غرناطة متبوّءا
…
يسرّ كئيبا «7» أو يجير طريدا
تبرّم منها صاحبي عندما «8» رأى
…
مسارحها بالبرد «9» عدن جليدا
هي الثّغر صان الله من أهلت به
…
وما خير ثغر لا يكون برودا؟
وقال الرّازي عند ذكر كورة إلبيرة: ويتصل بأحواز قبرة كورة إلبيرة، وهي بين الشّرق والقبلة، وأرضها سقي غزيرة الأنهار، كثيرة الثّمار، ملتفّة الأشجار، أكثرها أدواح الجوز، ويحسن فيها قصب السّكر؛ ولها معادن جوهرية من ذهب، وفضة، ورصاص، وحديد. وكورة إلبيرة أشرف الكور، نزلها جند دمشق. وقال: لها من المدن الشريفة مدينة قسطيليّة، وهي حاضرة إلبيرة، وفحصها لا يشبّه بشيء من بقاع الأرض طيبا ولا شرفا إلّا بالغوطة؛ غوطة دمشق.
وقال بعض المؤرّخين «1» : ومن كرم أرضنا أنها لا تعدم زريعة «2» بعد زريعة؛ ورعيا بعد رعي، طول العام؛ وفي عمالتها المعادن الجوهرية من الذهب، والفضة، والرّصاص، والحديد، والتوتيا. وبناحية دلاية «3» من عملها، عود اليلنجوج «4» ، لا يفوقه العود الهندي ذكا «5» وعطر رائحة. وقد سيق منه لخيران «6» صاحب ألمرية أصل كان منبته بين أحجار هناك. وبجبل شلير منها سنبل فائق الطّيب، وبه الجنطيانا، يحمل منه إلى جميع الآفاق، وهو عقير رفيع، ومكانه من الأدوية الترياقية مكانه. وبه المرقشينة على اختلافها، واللّازورد. وبفحصها وما يتصل به القرمز. وبها من العقّار والأدوية النّباتية والمعدنية ما لا يحتمل ذكرها الإيجاز. وكفى بالحرير الذي فضلت به فخرا وقيتة، وغلّة شريفة، وفائدة عظيمة، تمتاره منها البلاد، وتجلبه الرفاق، وفضيلة لا يشاركها فيها إلّا البلاد العراقية. وفحصها «7» الأفيح، المشبّه بالغوطة