الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: وكثيرا «1» ما يطنب على دمشق، ويصف محاسنها، فما انفصل «2» عني إلّا وقد امتلأ خاطري من شكلها، فأتمنّى أن أحلّ مواطنها، إلى أن أبلغ «3» الأمل قبل المنون:[الوافر]
ولو أني «4» نظرت بألف عين
…
لما استوفت محاسنها العيون
دخوله غرناطة: دخلها غير ما مرّة لسماع الحديث، وتحقيق النبات؛ ونقر عن عيون النبات بجبالها، أحد خزائن الأدوية، ومظان الفوائد الغريبة، يجري ذلك في تواليفه بما لا يفتقر إلى شاهد.
مولده: في محرم سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وفاته: توفي بإشبيلية عند مغيب الشفق من ليلة الاثنين مستهل ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وستمائة «5» . وكان ممّا رثي، قال ابن الزّبير: ورثاه جماعة من تلامذته كأبي محمد الحرّار، وأبي أمية إسماعيل بن عفير، وأبي الأصبغ عبد العزيز الكبتوري «6» وأبي بكر محمد بن محمد بن جابر السقطي، وأبي العباس بن سليمان؛ ذكر جميعهم الحرار المذكور في كتاب ألّفه في فضائل الشيخ أبي العباس، رحمه الله.
أحمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن خلف ابن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن ابن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم
«7»
أوّليّته: بيت بني سعيد العنسي، بيت مشهور في الأندلس بقلعة يحصب، نزلها جدّهم الأعلى، عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر؛ وكان له حظوة
لمكانه من اليمانيّة بقرطبة؛ وداره بقرب قنطرتها، كانت معروفة؛ وهو بيت القيادة والوزارة، والقضاء، والكتابة، والعمل، وفيما يأتي، وما مرّ كفاية من التنبيه عليه.
حاله: قال الملّاحي: كان من جلّة الطلبة، ونبهائهم؛ وله حظّ بارع من الأدب، وكتابة مفيدة، وشعر مدوّن. قال أبو الحسن بن سعيد في كتابه المسمّى ب «الطالع» «1» : نشأ محبّا في الأدب، حافظا للشعر، وذاكرا لنظم الشريف الرّضي، ومهيار، وابن خفاجة، وابن الزّقاق، فرقّت طباعه، وكثر اختراعه وإبداعه؛ ونشأت معه حفصة بنت الحاجّ الرّكوني؛ أديبة زمانها، وشاعرة أوانها، فاشتدّ بها غرامه، وطال حبّه وهيامه؛ وكانت بينهما منادمات ومغازلات أربت على ما كان بين علوة وأبي عبادة؛ يمرّ من ذلك إلمام في شعر حفصة، إن شاء الله.
نباهته وحظوته: ولمّا وفدت الأندلس، على صاحب أمر الموحّدين في ذلك الأوان، وهو محتلّ بجبل الفتح «2» ، واحتفل شعراؤها في القصائد، وخطباؤها في الخطب بين يديه، كان في وفد غرناطة، أبو جعفر هذا المترجم به، وهو حدث السنّ في جملة أبيه وإخوته وقومه، فدخل معهم على الخليفة، وأنشده قصيدة؛ قال أبو الحسن بن سعيد، كتبت منها من خط والده قوله «3» :[الطويل]
تكلّم فقد أصغى إلى قولك الدّهر
…
وما لسواك اليوم «4» نهي ولا أمر
ورم كلّ ما قد شئته فهو كائن
…
وحاول فلا برّ يفوت ولا بحر
وحسبك هذا البحر فألا «5» فإنه
…
يقبّل تربا داسه جيشك الغمر «6»
وما صوته «7» إلّا سلام مردّد
…
عليك وعن بشر بقربك يفتر «8»
بجيش لكي يلقى أمامك من غدا
…
يعاند أمرا لا يقوم له أمر
أطلّ «1» على أرض الجزيرة سعدها
…
وجدّد فيها ذلك الخبر الخبر «2»
فما طارق إلّا لذلك مطرق
…
ولا ابن نصير لم يكن ذلك النّصر
هما مهّداها كي تحلّ بأفقها
…
كما حلّ عند التّمّ بالهالة البدر
قال: فلمّا أتمّها أثنى عليه الخليفة، وقال لعبد الملك أبيه: أيّهما خير عندك في ابنيك؛ فقال يا سيّدنا: محمد دخل إليكم مع أبطال الأندلس وقوّادها، وهذ مع الشعر، فانظروا ما يجب أن يكون خيرا عندي، فقال الخليفة: كلّ ميسّر لما خلق له، وإذا كان الإنسان متقدّما في صناعة فلا يؤسف عليه، إنما يؤسف على متأخّر القدر، محروم الحظ. ثم أنشد فحول الشعراء والأكابر. ثم لمّا ولّي غرناطة ولده السيد أبو سعيد، استوزر أبا جعفر المذكور، واتصلت حظوته إلى أن كان ما يذكر من نكبته.
محنته: قال قريبه وغيره: فسد ما ببنه وبين السيد أبي سعيد لأجل حفصة الشاعرة، إذ كانت محلّ هواه، ثم اتصلت بالسيّد، وكان له بها علاقة، فكان كلّ منهما على مثل الرّضف «3» للآخر، ووجد حسّاده السبيل، إلى إغراء السيّد به، فكان مما نمي به عنه، أن قال لحفصة يوما: وما هذا الغرام الشديد به، يعني السيد، وكان شديد الأدمة «4» ، وأنا أقدر أن أشتري لك من المعرض أسودا خيرا منه بعشرين دينارا؛ فجعل السيد يتوسّد له المهالك، وأبو جعفر يتحفّظ كل التحفّظ. وفي حالته تلك يقول:[الكامل]
من يشتري مني الحياة وطيبها
…
ووزارتي وتأدّبي وتهذّبي
بمحلّ راع في ذرى ملمومة
…
زويت عن الدنيا بأقصى مرتب
لا حكم يأخذه بها إلّا لمن
…
يعفو ويرؤف دائما بالمذنب
فلقد سئمت من الحياة مع امرئ
…
متغضّب متغلّب مترتّب
الموت يلحظني إذا لا حظته
…
ويقوم في فكري أوان تجنّبي
لا أهتدي مع طول ما حاولته
…
لرضاه في الدنيا ولا للمهرب
وأخذ في أمره مع أبيه وإخوته، وفتنة ابن مردنيش «1» مضطربة؛ فقال له أخوه محمد وأبوه: إن حركنا حركة كنا سببا لهلاك هذا البيت، ما بقيت دولة هؤلاء القوم، والصبر عاقبته حميدة، وقد كنّا ننهاك عن الممارجة «2» ، فلم تركب إلّا هواك؛ وأخذ مع أخيه عبد الرحمن، واتفقا على أن يثورا في القلعة باسم ابن مردنيش، وساعدهما قريبهما على ذلك حاتم بن حاتم بن سعيد، وخاطبوا ابن مردنيش، وصدر لهم جوابه بالمبادرة، ووصلت منه خيل ضاربة، وتهيّأ لدخول القلعة؛ وتهيّأ الحصول في القلعة، وخافوا من ظهور الأمر؛ فبادر حاتم وعبد الرحمن إلى القلعة، وتمّ لهما المراد؛ وأخّر الجبن أبا جعفر ففاتاه، وتوقّع الطلب في الطريق إلى القلعة، فصار متخفّيا إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى جهة ابن مردنيش؛ ووضع السيّد عليه العيون في كل جهة، فقبض عليه بمالقة، وطولع بأمره فأمر بقتله صبرا، رحمه الله.
جزالته وصبره: قال أبو الحسن بن سعيد: حدّثني الحسين بن دويرة، قال:
كنت بمالقة لمّا قبض على أبي جعفر، وتوصّلت إلى الاجتماع به، ريثما استؤذن السيد في أمره حين حبس، فدمعت عيني لما رأيته مكبولا؛ قال: أعليّ تبكي بعد ما بلغت من الدنيا أطايب لذّاتها؟ فأكلت صدور الدجاج، وشربت في الزّجاج، وركبت كل هملاج «3» ، ونمت في الديباج، وتمتعت بالسّراري والأزواج، واستعملت من الشمع السّراج الوهّاج، وهأنا في يد الحجّاج، منتظرا محنة الحلّاج؛ قادم على غافر، لا يحوج إلى اعتذار ولا احتجاج. فقلت: ألا أبكي على من ينطق بمثل هذا؟ ثم تفقّد، فقمت عنه، فما رأيته إلّا مصلوبا، رحمه الله.
شعره «4» : [الطويل]
أتاني كتاب منك يحسده الدّهر
…
أما حبره ليل، أما طرسه فجر؟
به جمع الله الأمانيّ لناظري
…
وسمعي وفكري فهو سحر ولا سحر
ولا غرو أن أبدى العجائب ربّه
…
وفي ثوبه برّ، وفي كفّه بحر
ولا عجب إن أينع الزّهر طيّه
…
فما زال صوب القطر يبدو به الزّهر