الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدمشقية «1» ، حديث الرّكاب، وسمر الليالي، قد دحاه الله في بسيط سهل «2» تخترقه «3» المذانب، وتتخلّله الأنهار جداول، وتتزاحم فيه القرى والجنّات، في ذرع أربعين ميلا أو نحوها، تنبو العين فيها عن وجهه؛ ولا تتخطّى المحاسن منها إلّا مقدار رقعة الهضاب، والجبال المتطامية منه بشكل ثلثي دارة «4» ، قد عرت «5» منه المدينة فيما يلي المركز لجهة القبلة، مستندة إلى أطواد سامية، وهضاب عالية، ومناظر مشرفة؛ فهي قيد البصر، ومنتهى الحسن، ومعنى الكمال، أضفى الله عليها، وعلى من بها من عباده المؤمنين جناح ستره، ودفع عنهم عدوّ الدّين بقدرته.
فصل في فتح هذه المدينة ونزول العرب الشاميين من جند دمشق بها وما كانت عليه أحوالهم، وما تعلق بذلك من تاريخ
قال المؤلّف: اختلف المؤرّخون في فتحها؛ قال ابن القوطيّة «6» : إن يليان «7» الرّومي الذي ندب العرب إلى غزو الأندلس طلبا لوتره «8» من ملكها لذريق بما هو معلوم، قال لطارق بن زياد مفتتحها عندما كسر جيش الرّوم على وادي لكّه: قد فضضت جيش القوم «9» ودوّخت حاميتهم، وصيّرت الرّعب في قلوبهم، فاصمد لبيضتهم؛ وهؤلاء أدلّاء من أصحابي، ففرّق جيوشك في البلدان بينهم «10» ، واعمد أنت إلى طليطلة بمعظمهم، وأشغل القوم عن النظر في أمرهم «11» ، والاجتماع إلى وليّ رأيهم.
قال «12» : ففرّق طارق جيوشه من إستجّة؛ فبعث مغيثا «13» الرّومي، مولى الوليد بن عبد الملك بن مروان إلى قرطبة؛ وبعث جيشا آخر إلى مالقة «14» ؛ وأرسل
جيشا ثالثا إلى غرناطة مدينة إلبيرة؛ وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيّان «1» يريد طليطلة. قال «2» : فمضى الجيش الذي وجّه طارق إلى مالقة ففتحها، ولجأ علوجها إلى جبال هناك ممتنعة. ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجّه إلى إلبيرة، فحاصروا مدينتها، وفتحوها عنوة؛ وألفوا بها يهودا ضمّوهم إلى قصبة غرناطة؛ وصار لهم ذلك سنّة متّبعة، متى وجدوا بمدينة فتحوها «3» يهودا، يضمّونهم إلى قصبتها، ويجعلون معهم طائفة من المسلمين يسدّونها. ثم مضى الجيش إلى تدمير.
وكان دخول طارق بن زياد الأندلس يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين «4» . وقيل في شعبان، وقيل في رمضان، بموافقة شهر غشت من شهور العجمية.
وذكر معاوية بن هشام وغيره «5» : أن فتح ما ذكر تأخّر إلى دخول موسى بن نصير في سنة ثلاث وتسعين. فتوجّه ابنه عبد الأعلى في جيش إلى تدمير فافتتحها، ومضى»
إلى إلبيرة فافتتحها، ثم توجّه إلى مالقة.
قال المؤلّف رحمه الله: ولمّا استقرّ ملك الإسلام بجزيرة الأندلس، ورمى إلى قصبتها الفتح، واشرأبّ في عرصاتها الدّين، ونزلت قرطبة وسواها العرب، فتبوّؤوا الأوطان، وعمروا البلدان، فالدّاخلون على يد موسى بن نصير يسمّون بالبلديّين، والداخلون بعضهم مع بلج بن بشر القشيري، يسمّون بالشّاميين. وكان دخول بلج بن بشر القشيري بالطّالعة البلجيّة سنة خمس وعشرين ومائة.
ولمّا دخل الشاميّون مع أميرهم بلج، حسبما تقرّر في موضعه، وهم أسود الشّرى «7» عزّة وشهامة، غصّ بهم السابقون إلى الأندلس، وهم البلديّون، وطالبوهم بالخروج عن بلدهم الذي فتحوه، وزعموا أنه لا يحملهم وإياهم، واجتمعوا لغزوهم، فكانت الحروب تدور بينهم، إلى أن وصل الأندلس أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي، عابرا إليها البحر من ساحل تونس، وأظلّ على قرطبة على حين غفلة، وقد
ستر خبر نفسه، والحرب بينهم، فانقاد إليه الجميع بحكم عهد مدينه حنظلة بن صفوان والي إفريقية «1» ، وقبض على وجوه الشاميّين عازما عليهم في الانصراف حسبما هو مشهور؛ ورأى تفريق القبائل في كور الأندلس، ليكون أبعد للفتنة، ففرّقهم، وأقطعهم ثلث أموال أهل الذّمّة، الباقين من الرّوم، فخرج القبائل الشاميون عن قرطبة.
قال أبو مروان: أشار على أبي الخطار، أرطباس قومس الأندلس، وزعيم عجم الذمّة «2» ، ومستخرج خراجهم لأمراء المسلمين- وكان هذا القومس شهير العلم والدهاء- لأول الأمر، بتفريق القبائل الشاميين العلمين عن البلد، عن دار الإمارة قرطبة، إذ كانت لا تحملهم، وإنزالهم بالكور، على شبه منازلهم التي كانت في كور شامهم، ففعل ذلك على اختيار منهم؛ فأنزل جند دمشق كورة إلبيرة، وجند الأردن كورة جيّان، وجند مصر كورة باجة، وبعضهم بكورة تدمير؛ فهذه منازل العرب الشاميين؛ وجعل لهم ثلث أموال أهل الذّمّة من العجم طعمة؛ وبقي العرب والبلديّون والبرابر «3» شركاؤهم؛ فلمّا رأوا بلدانا شبه بلدانهم بالشام، نزلوا وسكنوا واغتبطوا وكبروا وتموّلوا، إلّا من كان قد نزل منهم لأول قدومه في الفتوح على عنائهم موضعا رضيّا، فإنه لم يرتحل عنه، وسكن به مع البلديّين.
فإذا كان العطاء أو حضر الغزو ولحق بجنده، فهم الذين كانوا سمّوا الشّادّة حينئذ.
قال أحمد بن موسى: وكان الخليفة يعقد لواءين، لواء غازيا، ولواء مقيما؛ وكان رزق الغازي بلوائه مائتي دينار. ويبقى المقيم بلا رزق ثلاثة أشهر؛ ثم يدال بنظيره من أهله أو غيرهم. وكان الغزاة من الشّاميين مثل إخوة المعهود له أو بنيه أو بني عمّه، يرزقون عند انقضاء غزاته عشرة دنانير؛ وكان يعقد المعقود له مع القائد؛ يتكشّف عمّن غزا، ويستحقّ العطاء، فيعطى على قوله تكرمة له؛ وكانت خدمتهم في العسكر، واعتراضهم إليه؛ وكان من الشّاميين غازيا من غير بيوتات العقد، ارتزق خمسة دنانير عند انقضاء الغزو. ولم يكن يعطى أحد من البلديين شيئا غير المعقود له؛ وكان البلديّون أيضا يعقد لهم لواءان؛ لواء غاز، ولواء مقيم؛ وكان يرتزق الغازي
مائة دينار وازنة؛ وكان يعقد لغيره إلى ستة أشهر، ثم يدال بنظيره من غيرهم؛ ولم يكن الدّيوان والكتبة إلّا في الشّاميين خاصّة؛ وكانوا أحرارا من العشر، معدّين للغزو، ولا يلزمهم إلّا المقاطعة على أموال الرّوم التي كانت بأيديهم؛ وكان العرب من البلديين يؤدّون العشر، مع سائر أهل البلد، وكان أهل بيوتات منهم يغزون كما يغزو الشاميّون، بلا عطاء، فيصيّرهم إلى ما تقدّم ذكره. وإنما كان يكتب أهل البلد في الغزو؛ وكان الخليفة يخرج عسكرين، إلى ناحيتين، فيستنزلهم؛ وكانت طائفة ثالثة يسمّون النّظراء من الشاميين والبلديين، كانوا يغزون كما يغزو أهل البلد من الفريقين.
وقد بيّنّا نبذة من أحوال هؤلاء العرب. والاستقصاء يخرج كتابنا عن غرضه، والإحاطة لله سبحانه.
ذكر ما آل إليه حال من ساكن المسلمين بهذه الكورة من النصارى المعاهدين «1» على الإيجاز والاختصار
قال المؤلّف: ولمّا استقرّ بهذه الكورة الكريمة أهل الإسلام، وأنزل الأمير أبو الخطار قبائل العرب الشاميّين بهذه الكورة، وأقطعهم ثلث أموال المعاهدين، استمرّ سكناهم في غمار من الروم؛ يعالجون فلاحة الأرض، وعمران القرى، يرأسهم أشياخ من أهل دينهم، أولو حنكة ودهاء ومداراة، ومعرفة بالجباية اللازمة لرؤوسهم.
وأحدهم رجل يعرف بابن القلّاس، له شهرة وصيت، وجاه عند الأمراء بها. وكانت لهم بخارج الحضرة، على غلوتين «2» ، تجاه باب إلبيرة في اعتراض الطريق إلى قولجر، كنيسة شهيرة، اتخذها لهم أحد الزعماء من أهل دينهم، استركبه بعض أمرائها في جيش خشن من الروم، فأصبحت فريدة في العمارة والحلية؛ أمر بهذمها الأمير يوسف بن تاشفين «3» ، لتأكّد رغبة الفقهاء، وتوجّه فتواهم. قال ابن الصّيرفي: خرج أهل الحضرة لهدمها يوم الاثنين عقب جمادى الآخرة من عام اثنين وتسعين وأربعمائة، فصيّرت للوقت قاعا، وذهبت كلّ يد بما أخذت من أنقاضها وآلاتها.
قلت: ومكانها اليوم مشهور، وجدارها ماثل ينبئ عن إحكام وأصالة، وعلى بعضها مقبرة شهيرة لابن سهل بن مالك، رحمه الله.
ولمّا تحرّكت لعدو الله الطّاغية ابن رذمير ريح الظّهور، على عهد الدولة المرابطيّة، قبل أن يخضد الله شوكته على إفراغة «1» بما هو مشهور، أملت المعاهدة «2» من النصارى لهذه الكورة إدراك الثّرّة، وأطمعت في المملكة، فخاطبوا «3» ابن رذمير من هذه الأقطار، وتوالت عليه كتبهم وتواترت رسلهم، ملحّة بالاستدعاء مطمعة في دخول غرناطة «4» ، فلمّا أبطأ عنهم، وجّهوا إليه زماما يشتمل على اثني عشر ألفا من أنجاد مقاتليهم، لم يعدّوا فيها شيخا ولا غرّا، وأخبروه أنّ من سمّوه، ممّن شهرت «5» أعينهم لقرب مواضعهم، وبالبعد من يخفى أمره، ويظهر عند ورود شخصه، فاستأثروا طمعه وابتعثوا جشعه، واستفزّوه بأوصاف غرناطة، وما لها من الفضائل «6» على سائر البلاد وبفحصها الأفيح، وكثرة فوائدها من القمح والشّعير، والكتّان، وكثرة المرافق، من الحرير والكروم، والزيتون، وأنواع الفواكه، وكثرة العيون والأنهار، ومنعة قبّتها «7» وانطباع رعيّتها، وتأتي أهل حاضرتها، وجمال إشرافها وإطلالها، وأنّها المباركة التي يمتلك منها غيرها، المسمّاة سنام الأندلس عند الملوك في تواريخها، فرموا حتى أصابوا غربه، فانتخب وأحشد، وتحرّك أول شعبان من عام خمسة عشر وخمسمائة «8» وقد أخفى مذهبه، وكتم أربه، فوافى «9» بلنسية، ثم إلى مرسية، ثم إلى بيرة، ثم اجتاز بالمنصورة ثم انحدر إلى برشانة، ثم تلوّم إلى وادي ناطلة. ثم تحرّك إلى بسطة، ثم إلى وادي آش، فنزل بالقرية المعروفة بالقصر «10» وصافح المدينة بالحرب، ولم يحل بطائل، فأقام عليها شهرا.
قال صاحب كتاب «الأنوار الجليّة» «1» : فبدأ «2» بحث المعاهدة بغرناطة في استدعائه، فافتضح تدبيرهم باجتلابه، وهمّ أميرها «3» بتثقيفهم «4» ، فأعياهم ذلك، وجعلوا يتسلّلون إلى محلّته على كل طريق، وقد أحدقت جيوش المسلمين من أهل العدوة «5» والأندلس بغرناطة، حتى صارت كالدّائرة، وهي في وسطها كالنّقطة، لمّا أنذروا بغرضه؛ وتحرّك من وادي آش فنزل بقرية دجمة «6» ؛ وصلّى الناس بغرناطة صلاة الخوف، يوم عيد النّحر من هذه السنة في الأسلحة والأبّهة؛ وبعيد الظهر من غده، ظهرت أخبية الرّوم بالقيل شرق المدينة، وتوالى الحرب على فرسخين منها، وقد أجلى السّواد، وتزاحم الناس بالمدينة، وتوالى الجليد، وأظلّت الأمطار. وأقام العدو بمحلّته بضع عشرة ليلة لم تسرح له سارحة، إلّا أنّ المعاهدة تجلب «7» له الأقوات؛ ثم أقلع وقد ارتفع طعمه عن المدينة، لأربع بقين من ذي الحجة عام عشرين «8» ، بعد أن تفرّغ مستدعيه إليها، وكبيره يعرف بابن القلّاس، فاحتجّوا ببطئه وتلوّمه حتى تلاحقت الجيوش، وأنهم قد وقعوا مع المسلمين في الهلكة، فرحل عن قرية مرسانة إلى بيش، ومن الغد إلى السكة من أحواز قلعة يحصب «9» ثم اتصل إلى لدوبيانة، ونكب إلى قبرة واللسّانة «10» ، والجيوش المسلمة في أذياله.
وأقام بقبرة1»
أياما، ثم تحرّك إلى بلاي والعساكر في أذياله، وشيجة في فحص الرّنيسول «12» مكافحة في أثنائها، مناوشة، وظهورا عليه.
ولمّا جنّ الليل، أمر أميرهم «1» برفع خبائه من وهدة كان فيها إلى نجدة، فساءت الظنون، واختلّ الأمر، ففرّ الناس وأسلموا، وتهيّب العدو المحلّة، فلم يدخلها إلّا بعد هدأة من الليل واستولى عليها. وتحرّك بعد الغد منها إلى جهة الساحل فشقّ العمامة الآمنة من الإقليم والشّارّات «2» ، فيقول بعض شيوخ تلك الجهة:
إنه اجتاز بوادي شلوبانية المطلّ الحافّات، والمتحصّن المجاز، وقال بلغته: أيّ قبر هذا لو ألفينا من يصبّ علينا التراب! ثم عرّج يمنة حتى انتهى إلى بلّش، وأنشأ بها جفنا «3» صغيرا يصيد له حوتا، أكل منه كأنه نذر كان عليه، وفّى به، أو حديث أراد أن يخلّد عنه، ثم عاد إلى غرناطة، فاضطرب بها محلته بقرية ذكر، على ثلاثة فراسخ منها قبلة، ثم انتقل بعد ذلك بيومين إلى قرية همدان «4» ، وبرز بالكتب جاعرسطة «5» من المدينة، وكان بينه وبين عساكر المسلمين مواقعة عظيمة؛ ولأهل غرناطة بهذا الموضع حدثان ينظرونه من القضايا المستقبلة.
قال ابن الصّيرفي: وقد ذكر في بعض كتب الجفر: «هذا الفحص، بخراب يجبى عن يتامى وأيامى» . وكان هذا اليوم معرّضا لذلك، فوقى الله؛ وانتقل بعد يومين إلى المرج مضيّقا عليه والخيل تحرجه، فنزل بعين أطسة، والجيوش محدقة به، وهو في نهاية من كمال التّعبئة، وأخذ الحذر، بحيث لا تصاب فيه فرصة؛ ثم تحرّك على البراجلات، إلى اللقوق، إلى وادي آش، وقد أصيب كثير من حاميته؛ وطوى المراحل إلى الشرق؛ فاجتاز إلى مرسية، إلى جوف شاطبة، والعساكر في كل ذلك تطأ أذياله، والتّناوش «6» يتخطّر به، والوباء يسرع إليه، حتى لحق بلاده، وهو ينظر إلى قفاه، مخترما، مفلولا من غير حرب، يكاد الموت يستأصل محلّته وجملته.
ولمّا بان للمسلمين من مكيدة جيرانهم المعاهدين، ما أجلت عنه هذه القضية، أخذهم الإرجاف، ووغرت لهم الصّدور. ووجّه إلى مكانهم الحزم، ووجّه القاضي