الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: فأرسل إليه من هجم عليه، وهو على هذا «1» الحال، وأظهر إرضاء العامّة بقتله، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وستمائة «2» . ولا خفاء أنه من صدور الأندلس، وأشدّهم عثورا على المعاني الغريبة المخترعة، رحمه الله.
أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد ابن خاتمة الأنصاري
من أهل ألمريّة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن خاتمة «3» .
حاله: هذا «4» الرجل صدر يشار إليه، طالب متفنّن، مشارك، قويّ الإدراك، سديد النّظر، قوي الذهن، موفور الأدوات، كثير الاجتهاد، معين الطبع، جيّد القريحة، بارع الخط، ممتع المجالسة، حسن الخلق، جميل العشرة، حسنة من حسنات الأندلس، وطبقة في النظم والنثر، بعيد المرقى في درجة الاجتهاد، وأخذه بطرق الإحسان؛ عقد الشروط، وكتب عن الولاة ببلده، وقعد للإقراء ببلده، مشكور السّيرة، حميد الطريقة، في ذلك كله.
وجرى ذكره في كتاب «التّاج» بما نصّه «5» : «ناظم درر الألفاظ، ومقلّد جواهر الكلام نحور الرّواة ولبّات الحفّاظ، والآداب «6» التي أصبحت شواردها حلم النائم وسمر الأيقاظ، وكم «7» في بياض طرسها وسواد نقسها «8» سحر الألحاظ «9» . رفع «10» في قطره راية هذا الشأن على وفور حلبته، وقرع فنّه البيان على سموّ هضبته، وفوّق سهمه إلى بحر الإحسان، فأثبته في لبّته؛ فإن أطال شأن الأبطال، وكاثر المنسجم
الهطّال؛ وإن أوجز، فضح وأعجز؛ فمن نسيب تهيج به الأشواق، وتضيق عن زفراتها الأطواق؛ ودعابة تقلّص ذيل الوقار، وتزري بأكواس العقار؛ إلى انتماء للمعارف، وجنوح إلى ظلّها الوارف؛ ولم تزل معارفه ينفسح آمادها، وتحوز خصل السباق جيادها» .
مشيخته: حسبما نقل بخطّه في ثبت استدعاه منه من أخذ عنه؛ الشيخ الخطيب، الأستاذ مولى النعمة، على أهل طبقته بألمريّة، أبو الحسن علي بن محمد بن أبي العيش المرّي؛ قرأ عليه ولازمه، وبه جلّ انتفاعه؛ والشيخ الخطيب الأستاذ الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن العاص التّنوخي. وروى عن الراوية المحدّث المكثر الرحّال، محمد بن جابر بن محمد بن حسّان الوادي آشي؛ وعن شيخنا أبي البركات ابن الحاجّ، سمع عليه الكثير، وأجازه إجازة عامّة؛ والشيخ الخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن شعيب القيسي من أهل بلده؛ والقاضي أبو جعفر القرشي بن فركون. وأخذ عن الوزير الحاجّ الزاهد، أبي القاسم محمد بن محمد بن سهل بن مالك. وقرأ على المقرئ أبي جعفر الأغرّ، وغيرهم.
كتابته: ممّا «1» خاطبني به بعد إلمام الرّكب «2» السلطاني ببلده، وأنا صحبته «3» ، ولقائه إياي، بما يلقى به مثله من تأنيس وبرّ، وتودّد، وتردّد:[الكامل]
يا من حصلت على الكمال بما رأت
…
عيناي منه من الجمال الرائع
مرأى «4» يروق وفي عطافي برده
…
ما شئت من كرم ومجد بارع
أشكو إليك من الزمان تحاملا
…
في فضّ شمل لي بقربك جامع
هجم البعاد عليه ضنّا باللّقا
…
حتى تقلّص مثل برق لامع
فلو انّني ذو مذهب لشفاعة
…
ناديته: يا مالكي كن شافعي «5»
شكواي إلى سيدي ومعظّمي؛ أقرّ الله تعالى بسنائه أعين المجد، وأدرّ بثنائه ألسن الحمد! شكوى الظمآن «6» صدّ عن القراح العذب لأول وروده، والهيمان ردّ عن استرواح القرب لمعضل صدوده، من زمان هجم عليّ بإبعاده «7» ، على حين
إسعاده «1» ، ودهمني بفراقه غبّ إنارة أفقي به وإشراقه؛ ثم لم يكفه ما اجترم في ترويع خياله الزاهر، حتى حرم عن تشييع كما له الباهر، فقطع عن توفية حقّه، ومنع من تأدية مستحقّه، لا جرم أنه أنف لشعاع «2» ذكائه، من هذه المطالع النائية «3» عن شريف الإنارة، وبخل بالإمتاع بذكائه، عن هذه المسامع النائية عن لطيف العبارة، فراجع أنظاره، واسترجع معاره؛ وإلّا فعهدي بغروب الشمس إلى الطّلوع «4» ، وأنّ البدر ينصرف «5» بين الاستقامة والرجوع. فما بال هذا النيّر الأسعد، غرب ثم لم يطلع من الغد، ما ذاك إلا لعدوى الأيام وعدوانها، وشأنها في تغطية إساءتها وجه إحسانها، وكما قيل: عادت هيف إلى أديانها؛ أستغفر الله أن لا يعدّ ذلك من المغتفر في جانب ما أوليت «6» من الأثر «7» ، التي أزرى العيان فيها بالأثر، وأربى الخبر على الخبر «8» ؛ فقد سرّت متشوّفات الخواطر، وأقرّت متشرّفات «9» النواظر، بما جلت «10» من ذلكم الكمال الباهر، والجمال الناضر، الذي قيّد خطى الأبصار، عن التشوّف والاستبصار؛ وأخذ بأزمّة القلوب، عن سبيل كل مأمول ومرغوب؛ وأنّى للعين بالتحوّل عن كمال الزّين؟ أو للطّرف «11» ، بالتحوّل «12» عن خلال الظّرف؟ أو للسّمع من مراد، بعد ذلك «13» الإصرار والإيراد، أو للقلب من مراد، غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم في حلل وأبراد؛ وهل هو إلّا الحسن جمع في نظام، والبدر طالع التّمام، وأنوار الفضائل «14» ضمّها جنس اتفاق والتآم؛ فما ترعى العين منه في غير مرعى خصيب، ولا تستهدف الآذان «15» لغير سهم في حدق البلاغة مصيب؛ ولا تطلع «16» النفس سوى مطلع له في الحسن والإحسان أوفر نصيب. لقد أزرى بناظم حلاه فيما تعاطاه «17» التقصير، وانفسح من أعلاه بكل باع قصير، وسفه حلم القائل: إنّ الإنسان عالم صغير، شكرا للدهر على يد أسداها بقلب مزاره، وتحفة ثناء «18» أهداها بمطلع أنواره، على تغاليه في
ادّخار «1» نفائسه، وبخله بنفائس ادّخاره؛ ولا «2» غرو أن يضيق عنّا نطاق الذّكر، ولمّا يتّسع لنا سوار الشكر؛ فقد عمّت هذه الأقطار بما شاءت من تحف، بين تحف وكرامة، واجتنت أهلها ثمرة الرحلة في ظلّ الإقامة، وجرى الأمر في ذلك مجرى الكرامة. ألا وإنّ مفاتحتي لسيدي ومعظّمي، حرس الله تعالى مجده، وضاعف سعده! مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه، وجرى له القدر على وفق مرغوبه؛ فشرع له إلى أمله «3» بابا، ورفع له من خجله جلبابا، فهو يكلف بالاقتحام، ويأنف من الإحجام، غير أنّ الحصر عن درج قصده يقيّده، فهو «4» يقدم والبصر يبهرج نقده فيقعده؛ فهو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، ويجدّد عزما ثم لا يتحرّى؛ فإن أبطأ خطابي فلواضح الاعتذار «5» ، ومثلكم لا يقبل حياة الأعذار؛ والله عز وجل يصل إليكم عوائد الإسعاد والإسعاف، ويحفظ لكم «6» ما للمجد من جوانب وأكناف، إن شاء الله تعالى.
كتب «7» في العاشر من ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة غير ما مرّة، منها في استدعاء شمال الخواصّ من أهل الأقطار الأندلسية، عند إعذار الأمراء في الدولة اليوسفيّة «8» ، في شهر شعبان من عام أحد وخمسين وسبعمائة.
شعره: كان مجلّيا، وأنشد في حلبة الشعراء قصيدة أولها «9» :[الكامل]
أجنان خلد زخرفت أم مصنع؟
…
والعيد عاود أم صنيع يصنع؟
ومن شعره «10» : [الكامل]
من لم يشاهد موقفا لفراق
…
لم يدر كيف تولّه العشّاق
إن كنت لم تره فسائل من رأى
…
يخبرك عن ولهي وهول سياقي «11»
من حرّ أنفاس وخفق جوانح
…
وصدوع أكباد وفيض مآقي
دهي الفؤاد فلا لسان ناطق
…
عند الوداع ولا يد «1» متراق
ولقد أشير لمن تكلّف رحلة
…
أن عج عليّ ولو بقدر فواق «2»
عليّ أراجع من ذماي حشاشة
…
أشكو بها بعض الذي أنا لاق
فمضى ولم تعطفه نحوي ذمّة
…
هيهات! لا بقيا «3» على مشتاق
يا صاحبيّ وقد مضى حكم النّوى «4»
…
روحا عليّ بشيمة «5» العشّاق «6»
واستقبلا بي «7» نسمة من «8» أرضكم
…
فلعلّ نفحتها تحلّ وثاقي
إني ليشفيني النّسيم إذا سرى
…
متضوّعا من تلكم الآفاق
من مبلغ بالجزع أهل مودّتي
…
أني على حكم الصّبابة باق؟
ولئن تحوّل عهد قربهم «9» نوى
…
ما حلت عن عهدي ولا «10» ميثاقي
أنفت خلائقي الكرام لخلّتي
…
نسبا إلى الإخلاق والإخراق «11»
قسما به ما استغرقتني فكرة
…
إلّا وفكري فيه واستغراقي
لي آهة «12» عند العشيّ لعلّه
…
يصغي لها، وكذا مع الإشراق
أبكي إذا هبّ النسيم فإن تجد
…
بللا به فبدمعي المهراق
أومي بتسليم «13» إليه مع الصّبا
…
فالذّكر كتبي والرفاق رفاقي
من لي وقد شحط «14» المزار بنازح
…
أدنى لقلبي من جوى أشواقي
إن غاب عن عيني فمثواه الحشا
…
فسراه «15» بين القلب والأحداق
جارت عليّ يد النّوى بفراقه
…
آها لما جنت النّوى بفراق
أحباب قلبي هل لماضي عيشنا «16»
…
ردّ فينسخ بعدكم بتلاق؟
أم هل لأثواب التجلّد راقع
…
إذ ليس من داء المحبّة راق
ما غاب كوكب حسنكم عن ناظري
…
إلّا وأمطرت الدّما آماقي
إيه أخيّ أدر عليّ حديثهم
…
كأسا ذكت عرفا وطيب مذاق
وإذا جنحت لماء او طرب فمن
…
دمعي الهموع «1» وقلبي الخفّاق
ذكراه راحي، والصّبابة حضرتي «2»
…
والدمع ساقيتي «3» ، وأنت الساقي
فليله «4» عنّي من لحاني إنني
…
راض بما لاقيته وألاقي
وقال «5» : [البسيط]
وقفت والرّكب «6» قد زمّت ركائبه
…
وللنفوس مع النّوى «7» تقطيع
وقد تمايل نحوي للوداع وهل
…
لراحل «8» القلب صدر الرّكب توديع؟
أضمّ منه كما أهوى «9» لغير نوى
…
ريحانة في شذاها الطّيب مجموع
تهفو «10» فأذعر خوفا من تقلّصها «11»
…
إنّ الشّفيق بسوء الظنّ مولوع
هل عند من قد دعا بالبين مقلته «12»
…
أنّ الرّدى منه مرئيّ ومسموع؟
أشيّع القلب من «13» رغم عليّ وما
…
بقاء جسم له للقلب تشييع
أري وشاتي أنّي لست مفتقرا «14»
…
لما جرى وصميم القلب مصروع
الوجد طبع «15» وسلواني مصانعة
…
هيهات يشكل مصنوع ومطبوع «16»
«إنّ الجديد إذا ما زيد في خلق
…
تبيّن النّاس أنّ الثّوب مرقوع»
وقال أيضا «1» : [الكامل]
لولا حيائي من عيون النّرجس
…
للثمت خدّ الورد بين السّندس
ورشفت من ثغر الأقاحة ريقها
…
وضممت أعطاف الغصون الميّس
وهتكت أستار الوقار ولم أبل «2»
…
للباقلا «3» تلحظ بطرف أشوس
ما لي وصهباء الدّنان مطارحا
…
سجع القيان مكاشفا وجه المسي
شتّان بين مظاهر ومخاتل
…
ثوب الحجا ومطهّر ومدنّس
ومجمجم بالعذل باكرني به
…
والطير أفصح مسعد بتأنّس
نزّهت سمعي عن سفاهة نطقه
…
وأعرته صوتا رخيم الملمس
سفّهت في العشّاق يوما إن أكن
…
ذاك الذي يدعى الفصيح الأخرس «4»
أعذول وجدي ليس عشّك فادرجي «5»
…
ونصيح رشدي بان نصحك فاجلس
هل تبصر الأشجار والأطيار وال
…
أزهار تلك الخافضات الأرؤس؟
تالله وهو أليّتي وكفى به
…
قسما يفدّى برّه بالأنفس
ما ذاك من شكو ولا لخلالة «6»
…
لكن سجود مسبّح ومقدّس
شكرا لمن برأ الوجود بجوده
…
فثنى إليه الكلّ وجه المفلس
وسما بساط الأرض فيه «7» فمدّه
…
ودحا بسيط «8» الأرض أوثر مجلس
ووشى بأنواع المحاسن هذه
…
وأنار هذي بالجواري «9» الكنّس
وأدرّ أخلاف «1» العطاء تطوّلا
…
وأنال فضلا من يطيع ومن يسي
حتى إذا انتظم الوجود بنسبة
…
وكساه ثوبي نوره والحندس «2»
واستكملت كلّ النّفوس كمالها
…
شفع العطايا بالعطاء الأنفس
بأجلّ هاد للخلائق مرشد
…
وأتمّ نور للخلائق مقبس
بالمصطفى المهدي إلينا رحمة
…
مرمى الرّجاء «3» ومسكة المتيئّس
نعم يضيق الوصف عن إحصائها
…
فلّ الخطيب بها لسان الأوجس «4»
إيه فحدّثني حديث هواهم
…
ما أبعد السّلوان عن قلب الأسي
«5»
إن كنت قد أحسنت نعت جمالهم
…
فلقد سها عني العذول بهم وسي «6»
ما إن دعوك ببلبل إلّا لما
…
قد هجت من بلبال هذي الأنفس
سبحان من صدع الجميع بحمده
…
وبشكره من ناطق أو أخرس
وامتدّت الأطلال ساجدة له
…
بجبالها من قائم أو أقعس
فإذا تراجعت الطيور وزايلت
…
أغصانها بان «7» المطيع من المسي
فيقول ذا: سكرت لنغمة منشد
…
ويقول ذا: سجدت لذكر مقدّس
كلّ يفوه بقوله «8» والحقّ لا
…
يخفى على نظر اللّبيب «9» الأكيس
وقال «10» : [الكامل]
زارت على حذر من الرّقباء
…
والليل ملتحف «11» بفضل رداء
تصل الدّجى بسواد فرع فاحم
…
لتزيد ظلماء إلى ظلماء
فوشى «12» بها من وجهها وحليّها
…
بدر الدّجى وكواكب الجوزاء
أهلا بزائرة على خطر السّرى
…
ما كنت أرجوها ليوم لقاء
أقسمت لولا عفّة عذريّة
…
وتقى عليّ له رقيب رائي
لنقعت غلّة لوعتي برضابها
…
ونضحت ورد خدودها ببكائي
ومن ذلك ما قاله أيضا «1» : [الخفيف]
أرسلت ليل شعرها من عقص
…
عن محيّا رمى البدور بنقص
فأرتنا الصباح في جنح ليل
…
يتهادى ما بين غصن ودعص «2»
وتصدّت برامحات نهود
…
أشرعت للأنام من تحت قمص
فتولّت جيوش صبري انهزاما
…
وبودّي ذاك اللقاء وحرصي
ليس كلّ الذي يفرّ بناج
…
ربّ ظعن «3» فيه حياة لشخص
كيف لي بالسّلو عنها وقلبي
…
قد هوى حلمه بمهوى لخرص»
ما تعاطيت ظاهر الصّبر إلّا
…
ردّني جيدها بأوضح نصّ
ومن ذلك قوله أيضا «5» : [الخفيف]
أنا بين الحياة والموت وقف
…
نفس خافت ودمع ووكف
حلّ بي من هواك ما ليس ينبي
…
عنه نعت ولا يعبّر وصف
عجبا لانعطاف صدغيك والمع
…
طف والجيد ثم ما منك عطف
ضاق صدري بضيق حجلك «6» واستو
…
قف طرفي حيران ذاك «7» الوقف
كيف يرجى فكاك قلب معنّى
…
في غرام قيداه قرط وشنف «8»
ومن ذلك قوله أيضا «9» : [البسيط]
رقّ «10» السّنا ذهبا في اللّازورديّ
…
فالأفق ما بين مرقوم وموشيّ
كأنما الشّهب والإصباح ينهبها
…
لآلىء «11» سقطت من كفّ زنجيّ
ومن شعره في الحكم قوله «1» : [الطويل]
هو الدّهر لا يبقي على عائذ به
…
فمن شاء عيشا يصطبر لنوائبه
فمن لم يصب في نفسه فمصابه
…
لفوت «2» أمانيه وفقد حبائبه
ومن ذلك قوله «3» : [الوافر]
ملاك الأمر تقوى الله، فاجعل
…
تقاه عدّة لصلاح أمرك
وبادر نحو طاعته بعزم
…
فما تدري متى يمضي «4» بعمرك
ومن ذلك أيضا «5» : [الوافر]
دماء فوق خدّك أم خلوق «6» ؟
…
وريق ما بثغرك أم رحيق؟
وما ابتسمت ثنايا أم أقاح
…
ويكنفها شفاه أم شقيق «7»
وتلك سناة نوم ما تعاطت
…
جفونك أم هي الخمر العتيق
لقد أعدت معاطفك انثناء
…
وقلبي سكره ما إن يفيق
جمالك حضرتي وهواك راحي
…
وكأسك مقلتي فمتى أفيق؟
ومن شعره في الأوصاف «8» : [الخفيف]
أرسل الجوّ ماء ورد رذاذا
…
سمّع «9» الحزن والدّمائث رشّا
فانثنى حول أسوق الدّوح حجلا
…
وجرى فوق بردة الرّوض رقشا
وسما في الغصون حلي بنان
…
أصبحت من سلافة الطّل رعشا
فترى الزّهر ترقم الأرض رقما
…
وترى الريح تنقش الماء نقشا
فكأنّ المياه سيف صقيل
…
وكأنّ البطاح غمد موشّى
وكتب عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصّه «1» : «ممّا قلته بديهة عند «2» الإشراف على جنابكم السعيد، وقدومي «3» مع النّفر الذين أتحفتهم السيادة «4» سيادتكم «5» بالإشراف عليه، والدخول إليه، وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة لديه، وإن كان يوما قد غابت شمسه، ولم يتّفق أن كمل أنسه؛ وأنشده حينئذ بعض من حضر، ولعلّه لم يبلغكم، وإن كان قد بلغكم «6» ففضلكم يحملني في «7» إعادة الحديث «8» :[الطويل]
أقول وعين الدّمع «9» نصب عيوننا
…
ولاح لبستان الوزارة جانب
أهذي سماء أم بناء سما به
…
كواكب غضّت عن سناها الكواكب
تناظرت الأشكال منه تقابلا
…
على السّعد وسطى عقده والجنائب «10»
وقد جرت الأمواه فيه مجرّة
…
مذانبها شهب لهنّ ذوائب
وأشرف من علياه «11» بهو تحفّه
…
شماسي زجاج وشيها متناسب
يطلّ على ماء به الآس دائرا
…
كما افترّ ثغر أو كما اخضرّ شارب
هنا لك ما شاء العلى من جلالة
…
بها يزدهي بستانها والمراتب
ولما أحضر الطعام هنا لك، دعي شيخنا القاضي أبو البركات «12» إلى الأكل، فاعتذر بأنه صائم، قد بيّته من الليل، فحضرني أن قلت «13» :[المتقارب]
دعونا الخطيب أبا البركات
…
لأكل طعام الوزير الأجلّ
وقد ضمّنا في نداه جنان
…
به احتفل الحسن حتى كمل «1»
فأعرض عنّا لعذر «2» الصّيام
…
وما كلّ عذر له مستقلّ
فإنّ الجنان محلّ الجزاء
…
وليس الجنان محلّ العمل
وعندما فرغنا من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا البركات، فقال «3» : لو أنشدتنيها، وأنتم بعد لم تفرغوا منه «4» لأكلت معكم، برّا بهذه الأبيات، والحوالة في ذلك على الله تعالى.
ولما «5» قضى الله، عز وجل، بالإدالة، ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة، واشتهر عني ما اشتهر من الانقباض عن الخدمة، والتّيه على السلطان والدولة «6» ، والتّكبّر على أعلى رتب الخدمة، وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة، ورغبت في تفويت «7» الذمّة، ونفرت عن الأندلس بالجملة، خاطبني بعد صدر بلغ من حسن الإشارة، وبراعة الاستهلال الغاية، بقوله:
«وإلى هذا يا سيدي، ومحلّ تعظيمي وإجلالي، أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم! وضاعف في العزّ درجات ارتقائكم! فإنّه من الأمر الذي لم يغب عن رأي المقول «8» ، ولا اختلف فيه أرباب المحسوس «9» والمعقول؛ أنّكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها، وواسطة سلكها، وطراز ملكها، وقلادة نحرها، وفريدة دهرها «10» ، وعقد جيدها المنصوص، وكمال «11» زينتها «12» على المعلوم والمخصوص «13» ؛ ثم أنتم مدار أفلاكها، وسرّ سياسة أملاكها، وترجمان بيانها، ولسان إحسانها، وطبيب مارستانها، والذي عليه عقد إدارتها، وبه قوام إمارتها؛ فلديه «14» يحلّ المشكل، وإليه يلجأ في الأمر المعضل؛ فلا غرو أن تتقيّد بكم الأسماع والأبصار، وتحدّق نحوكم الأذهان والأفكار؛ ويزجر عنكم السانح والبارح «15» ،
ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتختلج الجوارح، استقراء «1» لمرامكم، واستطلاعا لطالع اعتزامكم، واستكشافا لمرامي «2» سهامكم، لا سيما مع إقامتكم على جناح خفوق، وظهوركم في ملتمع بروق، واضطراب الظّنون فيكم مع الغروب والشروق؛ حتى تستقرّ بكم الدّار «3» ، ويلقي عصاه التّسيار؛ وله العذر في ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل «4» ، وسرورها بلقائكم لم يكتمل؛ فلم يبر «5» بعد جناحها المهيض «6» ، ولا جمّ ماؤها المغيض، ولا تميّزت من داجيها لياليها البيض؛ ولا استوى نهارها، ولا تألقت أنوارها «7» ، ولا اشتملت نعماؤها، ولا نسيت غمّاؤها؛ بل هي كالنّاقه «8» ، والحديث العهد بالمكاره، تستشعر «9» نفس العافية، وتتمسّح «10» منكم باليد الشافية؛ فبحنانكم «11» عليها، وعظيم «12» حرمتكم على من لديها، لا تشربوا لها عذب المجاج بالأجاج، وتقنطوها «13» مما عوّدت من طيب المزاج، فما لدائها، وحياة قربكم غير طبّكم من علاج. وإني ليخطر بخاطري محبة فيكم، وعناية بما يعنيكم، ما نال جانبكم صانه الله بهذا الوطن من الجفاء، ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء، وأنّ الوطن إحدى المواطن الأظآر التي يحقّ لهنّ جميل الاحتفاء، وما يتعلّق بكم من حرمة أولياء القرابة وأولي «14» الصّفاء، فيغلب على ظني أنكم لحسن العهد أجنح، وبحقّ نفسكم على أوليائكم أسمح، والتي «15» هي أعظم قيمة في «16» فضائلكم أوهب وأمنح «17» ؛ وهب أنّ الدّرّ لا يحتاج في الإثباب إلى شهادة النّحور واللبّات، والياقوت غني المكان، عن مظاهرة القلائد والتّيجان؛ أليس أنّه أعلى للعيان، وأبعد عن مكابرة البرهان، تألقها في تاج الملك أنوشروان؟ والشمس «18» وإن
كانت أمّ الأنوار وجلا الأبصار، مهما أغمى مكانها من الأفق قيل: أليل «1» هو أم نهار؟ وكما في علمكم ما فارق ذوو الأحلام «2» ، وأولو الأرحام، مواطن استقرارهم، وأماكن قرارهم، إلّا برغمهم واضطرارهم، واستبدال دار هي «3» خير من دارهم، ومتى توازن الأندلس بالمغرب، أو يعوّض عنها إلّا بمكة أو يثرب؟ ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعبّاد، وما فوقه مرابط جهاد، ومعاقد ألوية في سبيل الله، ومضارب أوتاد؛ ثم يبوّئ «4» ولده مبوّأ أجداده، ويجمع له بين طرافه «5» وتلاده؛ أعيذ أنظاركم المسدّدة من رأي فائل «6» ، وسعي طويل لم يحل منه بطائل، فحسبكم من هذا الإياب السعيد، والعود الحميد، وهي طويلة.
فأجبته عنها بقولي «7» : [السريع]
لم في الهوى العذريّ أو لا تلم
…
فالعذل لا يدخل أسماعي
شأنك تعنيفي وشأني الهوى
…
كلّ امرئ في شأنه ساعي
«أهلا بتحفة القادم، وريحانة المنادم، وذكرى «8» الهوى المتقادم، لا يصغّر «9» الله مسراك! فما أسراك، لقد جلبت «10» إليّ من همومي ليلا، وجبت «11» خيلا ورجلا، ووفّيت من صاع الوفاء كيلا، وظننت بي الأسف على ما فات، فأعملت الالتفات، لكيلا «12» ، فأقسم لو أنّ الأمر «13» اليوم بيدي، أو كانت اللّمّة السوداء من عددي، ما أفلتّ أشراكي المنصوبة لأمثالك «14» ، حول المياه
وبين المسالك، ولا علمت «1» ما هنا لك، لكنك طرقت حمى كسحته «2» الغارة الشّعواء، وغيّرت ربعه الأنواء، فخمد «3» بعد ارتجاجه، وسكت «4» أذين دجاجه، وتلاعبت الرياح الهوج «5» فوق فجاجه «6» ، وطال عهده بالزّمان «7» الأول، وهل عند رسم دارس من معوّل «8» وحيّا الله ندبا إلى زيارتي ندبك، وبآدابه الحكيمة «9» أدّبك:[الوافر]
فكان وقد أفاد بك الأماني
…
كمن أهدى الشّفاء إلى العليل
وهي شيمة بوركت من شيمة، وهبة الله قبله من لدن المشيمة، ومن مثله في صلة رعي، وفضل سعي، وقول «10» ووعي:[مجزوء الخفيف]
قسما بالكواكب الز
…
زهر والزّهر عاتمه
إنما الفضل ملّة
…
ختمت بابن خاتمه
كساني حلّة وصفه «11» ، وقد ذهب زمان التجمّل، وحمّلني ناهض «12» شكره، وكتدي «13» واه عن التحمّل، ونظرني بالعين الكليلة عن العيوب «14» فهلّا أجاد التأمّل، واستطلع طلع نثّي «15» ، ووالى في مركب «16» المعجزة حثّي، نَّما أَشْكُوا بَثِّي
«17» :
[الوافر]
ولو ترك القطا ليلا لناما
وما حال شمل وتده «1» مفروق، وقاعدته فروق، وصواع «2» بني أبيه مسروق، وقلب «3» قرحه من عضّة الدهر دام، وجمرة حسرته ذات احتدام، هذا وقد صارت الصّغرى، التي كانت الكبرى، لمشيب لم يرع «4» أن هجم، لمّا نجم، ثم تهلّل عارضه وانسجم:[الكامل]
لا تجمعي هجرا عليّ وغربة
…
فالهجر في تلف الغريب سريع
نظرت فإذا الجنب ناب «5» ، والنّفس فريسة ظفر وناب، والمال أكيلة انتهاب، والعمر رهن ذهاب، واليد صفر من كل اكتساب، وسوق المعاد مترامية، والله سريع الحساب:[الوافر]
ولو نعطى الخيار لما افترقنا
…
ولكن لا خيار مع الزمان
وهب أنّ العمر جديد، وظلّ الأمن مديد، ورأي الاغتباط بالوطن سديد، فما الحجّة لنفسي إذا مرّت بمطارح جفوتها، وملاعب هفوتها، ومثاقف «6» قناتها، ومظاهر عزّاها «7» ومناتها، والزمان «8» ولود، وزناد الكون غير صلود «9» :[الكامل]
وإذا امرؤ لدغته أفعى مرّة
…
تركته حين يجرّ حبل يفرق «10»
ثم أن المرغّب قد ذهب، والدهر قد استرجع ما وهب، والعارض قد اشتهب، وآراء «11» الاكتساب مرجوحة مرفوضة، وأسماؤه على الجوار مخفوضة، والنّيّة مع الله على الزّهد فيما بأيدي الناس معقودة، والتوبة بفضل الله عز وجل شروطها «12» غير معارضة «13» ولا منقودة، والمعاملة سامريّة، ودروع الصبر
سابريّة، والاقتصاد قد قرّت العين بصحبته، والله قد عوّض حبّ الدنيا بمحبّته، فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق، وقد رقى لدغتها ألف راق، وجمعتني بها الحجرة، ما الذي تكون الأجرة؟ جلّ شاني، وقد «1» رضي الوامق وسخط «2» الشاني، إني إلى الله تعالى مهاجر، وللغرض «3» الأدنى هاجر، ولأظعان السّرى زاجر، لأحد «4» إن شاء الله وحاجر، ولكن دعاني إلى «5» الهوى، لهذا «6» المولى المنعم هوى، خلعت نعلي الوجود وما خلعته، وشوق «7» أمرني فأطعته، وغالب والله صبري فما استطعته، والحال والله أغلب، وعسى أن لا يخيب المطلب؛ فإن يسّره «8» رضاه فأمل «9» كمل، وراحل احتمل، وحاد أشجى النّاقة والجمل؛ وإن كان خلاف ذلك، فالزمان «10» جمّ العوائق «11» ، والتسليم بمقامي لائق:
[البسيط]
ما بين غمضة «12» عين وانتباهتها
…
يصرّف «13» الأمر من حال إلى حال
وأما تفضيله هذا الوطن على غيره «14» ، ليمن طيره، وعموم خيره، وبركة جهاده، وعمران رباه ووهاده، بأشلاء عبّاده وزهّاده «15» ، حتى لا يفضله إلّا أحد الحرمين، فحقّ بريء من المين، لكنّي «16» للحرمين جنحت، وفي جوّ الشوق إليهما سرحت «17» ، فقد «18» أفضت إلى طريق قصدي محجّته، ونصرتني والمنّة لله حجّته، وقصد سيدي أسنى قصد، توخّاه الشكر «19» والحمد، ومعروف عرف به النّكر، وأمل «20» انتحاه الفكر، والآمال والحمد لله بعد تمتار، والله يخلق ما يشاء ويختار، ودعاؤه يظهر الغيب مدد، وعدّة وعدد، وبرّه حالي الظّعن 2»