الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملك المغرب، فأقام به رسما عظيما، وأمرا جسيما، وأورثه بنيه من بعده، والله يؤتي ملكه من يشاء.
حاله: كان، رحمه الله، شهما شجاعا، جريئا، بعيد الهمّة، نافذ العزيمة، قويّ الشكيمة، لبيبا، كاتبا أديبا، فصيحا، بليغا، أبيّا، جوادا، حازما. وذكره ابن عسكر المالقي في تاريخ بلده؛ قال: دخل مالقة من قبل أخيه، فوصل إليها في الحادي عشر من محرم، وهو شاب حدث، فكان منه من نباهة القدر وجلالة النفس، وأبّهة الملك ما يعجز عنه كثير من الملوك. ولحين وصوله عقد مجلس مذاكرة، استظهر له نبهاء الطلبة، وكان الشيخ علي بن عبد المجيد يحضره. وكان يبدو منه، مع حداثة سنّه، من الذكاء والنّبل والتفطّن، ما كان يبهت الحاضرين، وكانوا ينظرون منه إلى بدريّ الحسن، وأسديّ الهيبة، وكهليّ الوقار والتؤدة؛ واشتغل بما يشتغل به الملوك من تفخيم البناء، كبنيان رياض السيّد الذي على ضفة الوادي «1» بمالقة المعروف باسمه، لله ورسوله، وكان عرفاء البنّائين لا يتصرفون إلّا بنظره؛ واستمرّت ولايته مفخّم الأمر، عظيم الولاية، إلى أن نقل منها إلى قرطبة، ثم نقل إلى إشبيلية وفيها بويع الخلافة «2» .
تصيّر الأمر إليه، وجوازه إلى العدوة:
قام على أخيه العادل بين يدي مقلعة، ببمالأة أخيه السيد أبي زيد، أمير بلنسية وتحريكه إياه، فتمّ له ذلك؛ وعقدت له البيعة بمرّاكش والأندلس. ثم إن الموحدين في مراكش بدا لهم في أمره، وعدلوا عنه إلى ابن عمّه أبي زكريا بن الناصر؛ واتصل به خبر خلعهم إياه فهاجت نفسه، ووقدت جمرته، واستعدّ لأخذ ثأره، ورحل من إشبيلية، واستصحب جمعا من فرسان الروم، واستجاز البحر سنة ست وعشرين وستمائة، قاصدا مراكش؛ وبرز ابن عمّه إلى مدافعته، والتقى الجمعان فكانت الهزيمة على يحيى بن الناصر، وفرّ إلى الجبال، واستولى القتل على جيشه، ودخل المأمون مراكش فأمر بتقليد شرفاتها بالرؤوس فعمّتها على اتّساع السّاحة؛ واستحضر النّاكثين لبيعته وبيعة أخيه، وهم كبار الدولة، واستفتى قاضيه «3» بمرأى منهم، واستحضر
خطوطهم وبيعاتهم، فأفتى بقتلهم، فقتل جماعتهم، وهم نحو مائة رجل «1» ، واتّصل البحث عمّن أفلت منهم، وصرف عزمه إلى محو آثار دولة الموحّدين، وتغيير رسمها، فأزال اسم مهديها عن الخطبة والسّكّة والمآذن، وقطع النداء عند الصلاة «تاصليت الإسلام» وكذلك «منسوب رب» «وبادرى» «2» ، وغير ذلك، مما جرى عليه عمل الموحّدين؛ وأصدر في ذلك رسالة حسنة، من إنشائه، يأتي ذكرها في موضعه.
وعند انصرافه من الأندلس، خلا للأمير أبي عبد الله بن هود الجوّ، بعد وقائع خلت بينهما، وانتهز النصارى الفرصة؛ فعظمت الفتنة، وجلّت المحنة.
دخوله غرناطة: لم يصحّ عندي أنه دخل غرناطة، مع غلبة الظن القريب من العلم بذلك، إلّا طريقه إلى مدافعته المتوكل بن هود بجهة مرسية؛ فإنه تحرك لمعالجة أمره في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد، والي بلنسية، بعد هزائم جرت بصقع الشرق لابن هود؛ فتحرك المأمون إليه، واحتلّ غرناطة، في رمضان من عام خمسة وعشرين وستمائة، وأنفذ منها كتابه إلى أخيه، يقوّي بصيرته، ويعلمه بنفوذه إليه؛ والتفّ عليه جيش غرناطة وما والاها، واتصل سيره إلى الشرق، فبرز ابن هود إلى لقائه، فكان اللقاء بخارج لورقة، فانهزم ابن هود، وفرّ إلى مرسية، وعساكر الموحدين في عقبه؛ واستقصاء مثل هذا يخرج عن الغرض.
وخاطب لأول أمره، وأخذ الناس ببيعته من بأقطار الأندلس، صادعا بالأمر المعروف، والنّهي عن المنكر، والحضّ على الصلوات وإيتاء الزكاة، وإيتاء الصدقات، والنهي عن شرب الخمر والمسكرات والتحريض على الرعاية، فمن كتابه:
«الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر أصلين يتفرّع منهما مصالح الدنيا والدين، وأمر بالعدل والإحسان، إرشادا إلى الحق المبين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد النبي الكريم، المبعوث بالشريعة التي طهرت الجيوب من الأدران، واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان، طورا بالشدة، وتارة باللّين؛ القائل، ولا عدول عن قوله: «ومن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه» تنبيها على ترك الشكّ لليقين؛ وعلى آله أعلام الإسلام، الملقين راية الإسلام باليمين، الذين مكّنهم الله في الأرض، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفاء بالواجب لذلك التمكين.
ومن فصل: «وإذا كنّا نوفي الأمة تمهيد دنياها، ونعنى بحماية أقصاها وأدناها، فالدين أهمّ وأولى، والتهمّم بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها، أحقّ أن يقدّم وأحرى، وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع، ونتبع السّنن المشروعة ونذر البدع.
ولنا أن لا ندّخر عنها نصيحة، ولانغبنها أداة من الأدوات مريحة، ولنا عليها أن تطيع وتسمع» .
ومن فصل: «وأول ما يتناول به الأمر النافذ، الصلاة لأوقاتها، والأداء لها على أكمل صفاتها، وشهودها إظهارا لشرائع الإيمان في جماعتها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أحبّ الأعمال إليّ الصلاة لأوقاتها» . وقال: «أول ما ينظر فيه من أعمال العيد الصلاة» . وقال عمر: إن أهمّ أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع. وقال:«لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وهي الركن الأعظم من أركان الإيمان، والسور الأوثق لأعمال الإنسان، والمواظبة على حضورها في المساجد، وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزية على صلاة الواحد، أمر لا يضيّعه المفلحون، ولا يحافظ عليها إلّا المؤمنون. قال ابن مسعود، رضي الله عنه: لقد رأينا، وما يتخلّف عنها إلّا المنافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى يتهادى بين الرّجلين، حتى يقام في الصّف. وشهود الصبح، وعشاء الآخرة شاهد بمحضر الإيمان. ولقد جاء: حضور الصبح في جماعة يعدل قيام ليلة، وحسبكم بهذا الرّجحان. ومن الواجب أن يعتنى بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدين، ويأخذ بها في جميع الأمصار الصغير والكبير من المسلمين، ونيط في إلزامها قوله عليه الصلاة والسلام: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين» . وهي طويلة في معاني متعددة.
نثره ونظمه: ولمّا غيّر رسوم الموحّدين وأوقع بأرباب دولتهم خبر النكث ببيعته وبيعتي أخيه وعمّه، كتب إلى الأقطار عن نفسه، ولم يكمل إنشاءه بكتابة رسالة بديعة اشتملت على فصول كثيرة تنظر في كتاب «المغرب» و «البيان المغرب» وغير ذلك.
وكتابا بخطّه إلى أهل أندوجر «1» : «إلى الجماعة والكافّة من أهل فلانة، وقاهم الله عثرات الألسنة، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة؛ أما بعد فإنّه قد وصل من قبلكم كتابكم الذي «2» جدّد لكم أسهم الانتقاد، ورماكم من السّهاد «3» ، بالداهية النّاد «4» ؛
أتعتذرون من المحال بضعف الحال، وقلّة «1» الرجال؟ إذا نلحقكم بربّات الحجال.
كأنّا لا نعرف مناحي أقوالكم، وسوء «2» منقلبكم وأحوالكم؛ لا جرم أنكم سمعتم بالعدوّ قصمه الله، وقصده إلى «3» ذلك الموضع عصمه الله؛ فطاشت قلوبكم خورا، وعاد صفوكم كدرا، وشممتم ريح الموت وردا وصدرا؛ وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب «4» ، وأن الفضاء قد غصّ بالتفاف القنا واصطفاف المناكب «5» ، ورأيتم غير شيء فتخيّلتموه «6» طلائع الكتائب. تبّا لهمّتكم «7» المنحطّة، وشيمتكم «8» الرّاضية بأدون خطّة؛ أحين «9» ندبتم إلى حماية إخوانكم، والذبّ «10» عن كلمة إيمانكم، نسّقتم الأقوال وهي مكذوبة، ولفّقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة؛ لقد آن لكم أن تتبدلوا جلّ الخرصان «11» ، إلى مغازل النّسوان؛ وما لكم ولصهوات الخيول، وإنما على الغانيات جرّ الذيول. أتظهرون العناد «12» تخريصا، بل تصريحا وتلويحا، ونظنّ أن لا يجمع لكم شتّا، ولا يدني منكم نزوجا. أين المفرّ وأمر الله يدرككم، وطلبنا الحثيث لا يترككم؟ فأزيلوا «13» هذه النزعة النّفاقيّة من «14» خواطركم قبل أن نمحو بالسيف أقوالكم وأفعالكم، ونستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم، ونحن نقسم بالله لو اعتسفتم كل بيداء سملق، واعتصمتم بأمنع معقل، وأحفل فيلق، ما ونينا عنكم زمانا، ولا ثنينا عن استئصال العزم منكم «15» عنانا فلا يغرّنكم الإمهال، أيّها الجهّال» . وهي طويلة. وقال عند الإيقاع بالأشياخ أولي الفساد على الدول، وصلبهم في الأشجار والأسوار، مما كلف السّلمي بحفظها واستظرافها «16» :[الكامل]
أهل الحرابة والفساد من الورى
…
يعزون في التشبيه بالذّكّار «17»
ففساده فيه الصلاح لغيره
…
بالقطع والتّعليق في الأشجار
ذكّارهم ذكري إذا ما أبصروا
…
فوق الجذوع وفي «1» ذرى الأسوار
لو عمّ عفو «2» الله سائر «3» خلقه
…
ما كان أكثرهم من اهل النّار
توقيعه: قال ابن عسكر: وكانت تصدر منه توقيعات نبيلة، فمنها أن امرأة رفعت رقعتها بأحد من الأجناد ممّن نزل دارها، وصدر لها أمر ينكر؛ فوقّع على رقعتها:«يخرج هذا النازل، ولا يعوّض بشيء من المنازل» . وغير ذلك مما اختصرناه.
بنوه: أبو محمد عبد الواحد وليّ عهده، وأمير المؤمنين بعد وفاته، الملقّب بالرشيد؛ وعبد العزيز، ومان؛ وأبو الحسن علي، الملقّب بالسعيد، الوالي بعد أخيه الرشيد.
بناته: ابنة العزيز، وصفية، ونجمة، وعائشة، وفتحونة؛ وأمّهات الجميع روميّات، وسرّيّات مغربيات.
وزراؤه: وزر له الشيخ أبو زكريا بن أبي الغمر وغيره.
كتّابه: كتب له جملة من مشاهير الكتّاب، منهم أبو زكريا الفازازي، وأبو المطرّف بن عميرة، وأبو الحسن الرّعيني، وأبو عبد الله بن عيّاش، وأبو العباس بن عمران، وغيرهم. وما منهم إلّا شهير كبير.
وفاته: توفي، رحمه الله، بوادي أم الربيع، وقد طوى المراحل من ظاهر سبتة، مقلعا عن حصارها، مبادرا إلى مرّاكش، وقد اتصل به دخول يحيى بن الناصر إياها، فأعدّ السير وقد اشتدّ حنقه على أهلها، وأقسم أن يبيح حماها للرّوم، ويذهب اسمها ومسمّاها، فهلك عند دنوّه منها فجأة، فكانت عند أهل مراكش من غرر الفرج بعد الشدة؛ وكتمت زوجه حبابة الرومية، أم الرشيد ولده، خبر وفاته إلّا عن الأفراد من قوّاد النصارى وبعض الأشياخ، واتفق القول على مبايعة ابنها المذكور، بيعة خاصّة ثاني يوم وفاته؛ ثم جعل في هودج وأشيع أنه مريض، وزحفت الجيوش على تعبئته؛ وبرز يحيى بن الناصر من مراكش إلى لقائه، والتقى الجمعان فانهزم يحيى، واستولى الرشيد عليه، ودخل مراكش فاستقام الأمر؛ وكانت