الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
نسخة أبي علي الصَّدفي (454 - 514) ه
ـ (1)
تمهيد:
يعتبر الإمام الصَّدفي علمًا من أعلام رواة الحديث وحفاظه في العصور الأولى للإسلام، فإنك لا تكاد تجد مؤلفًا أو مؤرخًا أرخ أو ألف بعد وفاته إلا وقد نال حظًّا من ذكر أخباره وتراجمه.
ولعل أشمل تعريف وأوفاه بالحافظ أبي علي الصَّدفي هو ما قام به عَلَمان عظيمان من أعلام التاريخ والحديث، وهذان العَلَمان هما:
القاضي عِياض المتوفى سنة (544 هـ)، الذي خصه بكتابه «المعجم» ضَمَّنه أخباره وأخبار شيوخه الذين بلغوا نحوًا من مائتي شيخ (2).
والآخر هو المحدِّث العلامة محمد بن عبد الله أبي بكر القضاعي، المعروف بابن الأبار المتوفى سنة (658 هـ)، حيث خصه بنوع آخر يكمل عمل القاضي عِياض، تناول فيه ذكر تلامذة الحافظ الصَّدفي.
ويتضح من صنيع هذين الإمامين تلك المكانة العالية التي كان يتبوأ بها أبو علي الصَّدفي.
وإذا كانت الأقدار لم تُوفِّق العلماء إلى العثور على معجم القاضي عِياض - حيث قد عُني به كثير منهم وتقفوا آثاره، ولكن لم يعرف له ذكر حتى الآن - فإنها لحسن الحظ قد وضعت بين أيدينا المعجم الحافل الذي عني بجمعه ابن الأبار حيث خرج للنور (3).
(1) سأتكلم بالتفصيل عن هذه النسخة نظرًا لأهميتها وتفرع كثير من نسخ بلاد المغرب عنها فشهرتها في بلاد المغرب شهرة نسخة اليُونِينِيّ عند المشارقة.
(2)
كما ذكر الكتاني في كتابه «فهرس الفهارس» 2/ 705.
(3)
وقد طبع في مدريد سنة 1885 م، وقد اعتمدت فيه على طبعة دار الكتاب العربي بالقاهرة، المطبوعة سنة 1387 هـ / 1968 م.
وقد ذكر فيه ابن الأبار ثلاثمائة وخمس عشرة شخصية من كبار المحدثين وغيرهم في مختلف الفنون، كلهم تتلمذوا على يد أبي علي الصَّدفي.
وهذا المعجم يكفي في إبراز المكانة العلمية التي تميز بها هذا الإمام، ومع ذلك فإنه لمن المفيد أن نتلمس أهم أخبار هذا الإمام من خلال بعض المصادر التي ترجمت له، وبخاصة كتاب «الغنية» للقاضي عِياض.
اسمه ونسبه (1): هو القاضي الحافظ أبو علي الحسين بن محمد بن فيرة بن حيون الصَّدفي، المعروف بابن سُكّرة.
أصله من سرقسطة من قرية على أربعة أميال منها، كانت تعرف بمنزل محمود بالثغر الأعلى، وكانت ولادته بها سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
نشأته: نشأ أبو علي في بلدته التي ولد بها، فأخذ عن شيوخها، ودرس على مقرئيها، وسمع من أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، وابن الصواف، وغيرهم.
(1) ينظر ترجمته في «الصلة» لابن بشكوال 1/ 144 - 146، و «الغنية» للقاضي عياض ص: 192 - 201، و «الفهرسة» لابن خير الإشبيلي (477، 497، 511)، و «تاريخ الإسلام» 35/ 367 (70)، و «سير أعلام النبلاء» 19/ 376 (218)، و «تذكرة الحفاظ» 4/ 1253 - 1255، و «المعين في طبقات المحدثين» ص: 150 (1633)، و «الوافي بالوفيات» 13/ 43 - 44 (41)، و «مرآة الجنان» 3/ 210، و «الديباج المذهب» 1/ 330 - 332، و «غاية النهاية» 1/ 250 - 251، و «طبقات الحفاظ» (455)، و «نفح الطيب» للمقري 2/ 90 - 93، و «شذرات الذهب» 4/ 43، و «شجرة النور الزكية» 1/ 128 - 129، و «الرسالة المستطرفة» (165)، و «الأعلام» 2/ 255، «معجم المؤلفين» 1/ 641 (4837).
ودرس في بلنسية تحت إشراف أبي العباس العذري، ثم سمع بالمرية من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي وأبي عبد الله بن المرابط وغيرهما.
وقد رحل إلى بلاد المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
التقى بمصر بأبي إسحاق الحبال مسند مصر الذي أعطاه إجازة، والقاضي أبي الحسن علي بن الحسين الخلعي، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي وغيرهم.
كما التقى بالإسكندرية بأبي القاسم مهدي بن يوسف الوراق وغيره.
والتقى بمكة بأبي عبد الله الحسين بن علي الطبري إمام الحرمين، وأبي بكر الطرطوشي وغيرهم، وبالبصرة بأبي القاسم بن شعبة، وأبي يعلى المالكي، وأبي العباس الجُرْجانيّ، وسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الأصبهاني وغيره.
ودخل بغداد في السادس عشر من جمادى الآخرة لسنة اثنتين وثمانين وأربعمائة فمكث بها خمس سنين كاملة، وسمع من عدد من محدثيها، منهم: أبو الحسن الطيوري وأبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون مسند بغداد، والإمام أبو بكر الشاشي وغيرهم، ودخل الشام فسمع بها من الشيخ أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وأبي الفرج سهل بن بشر الإسفراييني وغيرهما.
وبعد هذه الرحلة الطويلة التي مر فيها بكل هذه البلاد المشرقية عاد إلى بلاد الأندلس، وذلك في سنة تسعين وأربعمائة، ورحل إليه الناس من كل مكان وكثر الآخذون عنه.
ثم ارتحل بعد ذلك إلى مدينة سبتة مرتين، فأخذ عنه إذ ذاك جماعة
من المشايخ والأصحاب كان منهم القاضي عِياض رحمه الله تعالى.
واستوطن بعد ذلك مدينة مرسية وسمع منه جمهور كبير من الناس إذ ذاك؛ منهم من كان من عداد مشايخه الذين أخذ عنهم، وذلك لتمكنه في الحديث والرجال بعد رحلته المشرقية.
وقد وُلِّيَ القضاء في مدينة مرسية سنة خمس وخمسمائة أيام حكم أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين، فحُمدت سيرته إلى أن استعفى فلم يُعفَ.
وهنا اختفى عن الأنظار عددًا من الشهور إلى أن قُبِل طلبُه بمساعدة عبد الله اللخمي سنة ثمان وخمسمائة، وطلب بعد ذلك لقضاء إشبيلية وامتنع، ولم يخرج إليها حتى عُوفي.
ومن الجدير بالذكر أن أبا علي الصَّدفي كان يتمتع بمكانة كبيرة لدى دولة المرابطين، وقد كان شيخًا لأبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين، وقد كان واليًا على مرسية من قبل أخيه أبي الحسن علي بن يوسف أمير المغرب (1).
وقد خرج رحمه الله تعالى للغزو سنة أربع عشرة وخمسمائة مع الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين، وحضر يوم قُتُندَة بالثغر الأعلى يوم الخميس لست بقين في ربيع الآخر في تلك السنة، فكان فيمن فُقد رحمه الله تعالى، وختم له بالشهادة، وكان يومئذٍ ابن الستين.
ولقد كان القاضي أبو علي علما من أعلام المعرفة في زمانه، وفضله على الثقافة العربية في بلاد الأندلس والديار المغربية أمر لا يقبل المناقشة، حتى إنك تجد أن جل الأعلام الذين تخرجوا بعده من بلاد الأندلس كان
(1)«المعجم لابن الأبار» ص: 54، 55 (40).
له عليهم فضل من التلمذة على يديه أو الاستفادة من تلاميذه الذين ربّاهم على يديه.
قال أبو علي الصَّدفي لبعض الفقهاء: خذ «الصحيح» فأذكر أي متن أردت تدقيقه أذكر لك سنده، وأي سند أردت أذكر لك متنه.
وكان مما يتميز به رحمه الله أنه مع كثرة مشاغله ووفرة أعماله يعتمد على خط يده هو في كتابة العلم الكثير، وفي كتابة الإجازات العلمية لطلبته التي كان منها ما زكى به نسخة البُخارِيّ التي احتفظ بها ابن سعادة، التي كانت خزانة القرويين تحتضنها، ونسخة الترمذي لأبي الفضل مبارك التي كانت بخزانة الجامع الأعظم بمدينة تازة (1).
نسخة أبي علي الصَّدفي من «الصحيح» .
لقد كان مما حرره أبو علي الصَّدفي بخطه الجميل جيد الضبط صحيح الإمام البُخارِيّ في سفر واحد.
وأبو علي يروي «الصحيح» في نسخته هذه عن شيخه أبي الوليد الباجي عن أبي ذر عن شيوخه الثلاثة، عن الفَرَبْريّ، عن البُخارِيّ.
وكان يعتني بها، وبها كان يسترشد سائر تلامذته، وكانت أول ما يطلبه السامعون على يد أبي علي.
وقد ظل الناس يعتقدون فقدانها فيما فقد مع ضياع بلاد الأندلس، وأصبح العلماء يعتبرون الكلام عليها من قبيل الوصف المنقول عن بعض من اطلع عليها، ولا يكاد يأتي ذكر أبي علي الصَّدفي إلا ويتمنى المشتغلون بالحديث الوقوف على هذه النسخة، وخاصة المغاربة الذين يعدون روايته أولى بالاعتناء.
(1)«فهرس الفهارس» 2/ 110 - 130.
ولقد عثر المتأخرون بطرابلس الغرب عام 1211 هـ على أصل عظيم من «الصحيح» بخط الحافظ الصَّدفي وقد أسهبوا في وصفه ونعته، وها أنا ذا أنقل النصوص التي وردت فيما يتعلق بذلك، ثم اتبعه بتعليق إن شاء الله تعالى.
منها ما جاء عن الحافظ العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام الناصري الدرعي المتوفى سنة 1239 هـ، بمناسبة رحلته الثانية عام 1211 هـ إلى البقاع المقدسة المسماة الرحلة الصغرى، واجتماعه في ليبيا بالعلامة الشيخ أحمد بو طبل قال ما نصه: "ومن الكنوز التي وقفت عليها بيد أبي الطبل المذكور نسخة من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البُخارِيّ في مجلد بخط الحافظ أبي علي الصَّدفي شيخ القاضي عِياض، قال: إنه اشتراها بثمن بخس - في عدة كتب بمدينة إسطنبول - وراودته على بيعها عازمًا على إعطائه مائة دينار ذهبا فيها، فامتنع، ويأبى الله إلا ما أراد، وما هي إلا مضيعة بهذه البلدة، وقد كانت تداولتها الأيدي بالأندلس ومصر في سالف القرون، وعليها من سماعات العلماء - عِياض ممن دونه إلى الحافظ ابن حجر - العجب، وكتب عليها الحافظ السخاوي ما نصه: هي الأصل الذي يعتمد عليه ويرجع عند الاختلاف إليه.
ولقد اعتمد عليها شيخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر حالة شرحه لـ «الجامع» الذي سماه «فتح الباري» (1).
وعليها أيضا ما نصه: لكاتبه ابن العطار في الشيخ الإمام الحافظ أبي علي حسين بن محمد بن عيسى الصَّدفي كاتب هذا البُخارِيّ، وهو شيخ القاضي عِياض صاحب كتاب «الشفاء» رضي الله عنهم:
(1) سيأتي فيما بعد ما يدل على نقل ابن حجر منها.
قد دام بالصَّدفي العلم منتشرًا مبتشرا
…
وجل قدر عِياض الطاهر السلف السلف
ولا عجيب إذا أبدى لنا دررًا
…
ما الدر مظهره إلا من الصدف
قال ابن العطار: وقلت أيضا في سيدنا ومولانا قاضي القضاة برهان الدين ابن جماعة الكناني الشافعي أدام الله أيامه وأعز أحكامه، وقد حملت له هذه النسخة لمجلسه بالصالحية في العشر الأول من رجب الفرد سنة اثنتين وثمانمائة فنظر فيها وقال:
لو كتبت نسخة واضحة بخط حسن، وقوبلت على هذه لكانت أحسن، فإن كاتبها رجل جليل القدر رضي الله عنه:
رأى البُخارِيّ بخط الحافظ الصَّدفي
…
قاضي القضاة إمام النبل والسلف
جمال واسطة العقد الثمين له
…
ولا عجيب بميل الدر للصدف
وقال: مقيد الرحلة سامحه الله: وقد قلت في ذلك وإن لم أكن هنالك:
هذا سماع الإمام الحافظ الصَّدفي
…
بخطه وعليه رونق الصدف
تداولته يد الحفاظ من خلف
…
عن سالف فرماه الدهر بالتلف
وموجب قول ابن جماعة ما ذكر من أن خط الصَّدفي أندلسي، دقيق غير منقوط، إلا أنه يشكل المشكل على عادته وعادة بعض الكتاب، نعم عليها تصحيحات واختلاف الروايات ورموز وتخريجات لا ينتفع بها إلا الماهر في الفن المتدرب على الروايات. انتهى بلفظه ومن خطه المبارك (1).
وبعد تسجيل هذا الحديث عن مخطوطة الصَّدفي في رحلته الصغرى يعود ابن عبد السلام الناصري إلى الحديث عنها في كتابه المسمى بـ «كتاب
(1)«فهرس الفهارس» 2/ 708.
المزايا فيما حدث من البدع بأم الزوايا» عند ذكره للبدعة الثالثة عشرة.
وفي هذا النص يفيد الشيخ الناصري بعد وصفه لهذه المخطوطة بمثل ما ذكره في رحلته الصغرى أن الغيرة حملته على ألَاّ يسمح بترك هذا الأثر العظيم الذي يعرف هو قيمته ضائعا في طرابلس، فأخبر بوجوده السلطان المولى سليمان عاهل المملكة المغربية آنذاك المعروف بهوايته لنوادر المخطوطات، فيقول كما نقله عنه الكتاني في «فهرس الفهارس»:
ولقد بذلت لمن اشتراه بثمن تافه - في عدة كتب - من أهل طرابلس المغرب من إسطنبول صرة ذهب فأبى بيعه، وبقي ضائعًا في ذلك القطر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم حملتني الغيرة والمحبة على أن أبلغت خبره لإمامنا المنصور أبي الربيع سيدنا سليمان بن محمد أدام الله ملكه وأنجح أمره، فوجه إليه - حسبما شافهني به - ألف مثقال أو ريال - الشك مني - فأجابه من هو بيده: أنه يقدم به لحضرته، وما منعه إلا فتنة الترك فيما بين تونس والجزائر، ثم لما طال الأمر أعاد الكتب بذلك، وإلى الآن لم يظفره الله به، ولقد داعبته ذات مرة قائلا على سماع الصَّدفي المذكور: وماذا لمبلغ هذه الخصلة؟ فوعدني - ووعد الملوك تحقيق - أنه إن ظفر به جرد منه فرعًا، وأعطاني أحدهما على اختياري. اهـ.
وممن أفاض في وصف هذه النسخة الفقيه المدرس أبو العباس أحمد بن محمد ابن أحمد بن محمد بن الشيخ أبي محمد عبد القادر الفاسي في رحلته الحجازية الواقعة عام 1211، قال: لطيفة: وقفت بمحروسة طرابلس على نسخة من البُخارِيّ في سفر واحد في نحو من ست عشرة كراسة، وفي كل ورقة خمسون سطرًا من كل جهة، وكلها مكتوبة بالسواد لا حمرة بها أصلا، وهي مبتدأة بما نصه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه، كيف كان
بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند تمام كل حديث صورة. (اهـ).
ولا نقط بها إلا ما قل، وبآخرها عند التمام ما صورته: آخر «الجامع الصحيح» الذي صنفه أبو عبد الله البُخارِيّ رحمه الله والحمد لله على ما منَّ به، وإياه أسأل أن ينفع به.
وكتبه حسين بن محمد الصَّدفي من نسخة بخط محمد بن علي بن محمود مقروءة على أبي ذر رحمه الله وعليها خطه.
وكان الفراغ من نسخه يوم الجمعة 21 محرم عام ثمانية وخمسمائة، والحمد لله كثيرا كما هو أهله، وصلواته على محمد نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم كثيرًا أثيرًا.
وعلى ظهرها:
كتاب «الجامع الصحيح» من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تصنيف أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البُخارِيّ رضي الله عنه رِواية أبي عبد الله محمد ابن يوسف الفَرَبْريّ عنه رحمه الله، لحسين بن محمد الصَّدفي.
أوقفني على هذه النسخة المباركة محبنا الفقيه الناسك ذو الأخلاق الحسنة سيدي الحاج أحمد بوطبل، وذكر لي - حفظه الله - أنه اشتراها من إسطنبول، وحيث اشتراها اجتمع علماؤها وقالوا له: أخليتَ إسطنبول. ثم قال: وعليها إجازة الصَّدفي للقاضي عِياض في جملة الفقهاء بسماعهم له في المسجد الجامع بمرسية. وعلى ظهرها أيضا:
هذه النسخة جميعها بخط الإمام أبي علي الحسين بن محمد الصَّدفي شيخ القاضي عِياض، وهي أصل سماع القاضي عليه كما ترى في الطبقة المقابلة لهذه، وهي الأصل الذي يعتمد عليه ويرجع عند الاختلاف إليه،
وقد اعتمد عليها شيخنا الحافظ ابن حجر حالة شرحه «الجامع» الذي سماه «فتح الباري» اهـ كلام الرحلة الفاسية (1).
هكذا جاء وصف هذه النسخة لأبي علي الصَّدفي، وأنها بخطه نقلها من نسخة بخط محمد بن علي بن محمود، بينما توجد نسخة محفوظة بالمكتبة الحسنية رقم (5053) وهي في مجلد ضخم بخط أندلسي دقيق مدموج مليح، مكتوب بالمداد الباهت مع تلوين - عند الاقتضاء - بالأحمر والأزرق والذهب المصور بالمداد على ورق متين عتيق.
ودون تحديد مكان الانتساخ جاء في آخر المخطوط: في الرابع من جمادى الثانية عام خمسة وعشرين وثمانمائة.
وفي هامش هذا الموضع وردت فقرة هكذا: بلغت المقابلة على جهد الاستطاعة، والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد. من نسخة الصَّدفي بخطه التي نسخ من نسخة القاضي الباجي بخطه، وعلى الأول
…
خطوط الشيوخ نحو خمسين ..
وأسفل فقرة تاريخ الانتساخ يقع إطار مربع مزخرف، غير أن كتابة داخله انقطع موضعها بالمرة (2).
وبملاحظة فقرة المقابلة الآنفة الذكر يتبين لنا أن الأصل الذي وقعت المعارضة به هو بخط الصَّدفي نفسه نقله - بدوره - من نسخة بخط أبي الوليد الباجي.
بينما الأصل الذي سبق ذكره يفيد أنه نقله بخطه من نسخة بخط محمد بن على ابن محمود.
وهكذا يتبين أن الصَّدفي كتب بخطه من «صحيح البُخارِيّ» نسختين كانتا معًا معروفتين، إحداهما من أصل الباجي والأخرى من أصل محمد بن علي بن محمود، غير أن التي اشتهرت الثانية، ولاسيما بعد انتقالها إلى طرابلس بليبيا، بينما استمرت الأولى مجهولة حتى كشفت عنها نسخة المكتبة الحسنية المتفرعة عنها دون أن نعرف عن أصل الصَّدفي الأول أية معلومات أخرى ونجهل مصيره بالمرة.
وعلى كلٍّ تم استقرار النسخة المكتوبة من خط محمد بن علي بن محمود في طرابلس، وهكذا كانت طريقة الإتيان بها من إسطنبول إلى طرابلس، ويبقى الإجابة على سؤال وهو: كيف انتقلت هذه النسخة من بلاد الأندلس إلى إسطنبول عاصمة العثمانيين؟
يبدو أن انتقال هذا الأصل من الأندلس إلى بلاد المغرب ثم إلى العاصمة التركية، شأنه شأن كثير من المخطوطات التي حملت إلى العاصمة، سواء بطريق الفداء أو طريق المجاملة.
فلقد ظل همُّ الملوك المغاربة مركزًا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك التراث الذي وقع بأيدي القشتاليين.
على أن هناك مسلكًا آخر يمكن أن يكون الكتاب أخذه في الالتحاق بالمغرب، هو الطريق العائلي؛ حيث توجد بفاس منذ القرن السادس الهجري أسرة تحمل اسم: ابن حيون الصَّدفي، وقد اشتهرت من بينهم شخصية كبيرة هو أبو مروان عبد الملك ابن حيون (ت559 هـ) كما عرف منهم القاضي الحيوني (ت687 هـ) قاضي فاس المشرف على القرويين.
وقد اشتهر ابن حيون بالأعمال الإحسانية الكثيرة وبأياديه الكبرى على جامع القرويين، ومن المعقول جدا أن تكون المخطوطة قد صارت إلى خديجة أو فاطمة بنت الشيخ أبي علي الصَّدفي، لاسيما وقد كانت على
جانب كبير من الاعتزاز بتراث أبيها، وربما بكون الكتاب قد انتقل لفاس بواسطة أحد السادة الذين لهم صلة بالسيدة الصالحة كابنها مثلا.
ومن فاس انتقلت بعد ذلك إلى إسطنبول عن طريق وفادة علمية أو سفارة سياسية؛ فقد كان هناك جسر يربط بين المغرب وبين الأستانة، وبخاصة أيام السعديين.
ولهذا فمن المحتمل أن ينقل الكتاب للعثمانيين بطريق ما من الطرق.
ونعود مرة أخرى إلى طرابلس حيث الإفادات التي سبق نقلها عن الناصري والفاسي، والتي تدل على استقرار المخطوطة حتى عام 1211 هـ في طرابلس، حيث البذل الذي أعطاه السلطان المولى سليمان إلى الشيخ أبي العباس أحمد بوطبل.
وينقل عبد الحي الكتاني المتوفى سنة 1388 هـ عن بعض طلبته أنه التقى بالشيخ أحمد الشريف بن محمد الشريف السنوسي، المتوفى 1351 هـ، وصحبه، وأعلمه أن الأصل المذكور بخط الصَّدفي موجود في كتب السيد الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المعروف في مسقط رأسه بابن السنوسي شيخ الطريقة السنوسية المتوفى سنة 1276 هـ.
ثم يقول عبد الحي الكتاني: ثم كتبت له أسأله عن ذاك - أي: أحمد الشريف - فأجابني بما نصه: نسخة البُخارِيّ التي بخط الصَّدفي عندي في الكتب التي بجغبوب يحفظها الله. اهـ (1).
ويذكر الدكتور عبد الهادي التازي أنه ذهب إلى ليبيا ممثلًا لبلاده، وذلك في صيف سنة 1976 م، وفي حديث مع الملك الإدريسي بن المهدي بمدينة طبرق تكرر الحديث حول مخطوط الحافظ الصَّدفي،
(1)«فهرس الفهارس» 2/ 709.
ويذكر أنه زار واحة الجغبوب، وذلك في 22 أبريل 1968 م، بعد البحث عنها في العاصمة.
وبعد البحث عنها ساعات كثيرة وأيام متعددة، وبعد سؤال كثير طلب الوقوف على أوراق توجد في درج سير المكتبة، فوقف على إيصال استعارة للمخطوط في 18 سبتمبر سنة 1956 م بمناسبة الذكرى المائة لوفاة ابن السنوسي؛ حيث دعي كثير من العلماء والوجهاء، وكان منهم الشيخ الفاضل ابن عاشور، حيث كان بصدد تأليف في الحديث الشريف.
وهذا الإيصال يفيد استعارة الشيخ ابن عاشور المخطوط من مكتبة الأوقاف لبنغازي، وكانت تحمل رقم 2159 لتبقى في خزانة المكتبة العبدلية بجامع الزيتونة الأعظم؛ لتصحح عليها نسخة «الصحيح» ثم توجه إلى مقرها الأصلي.
فذهب الدكتور التازي وأحضر المخطوط وعاد به إلى الدار البيضاء حيث الملك الإدريسي بعد أن عبر عن فرحته بالحصول على هذا المخطوط الذي كان مطمح الملوك والأمراء، وذلك أن المغرب يعد جديرًا بهذا المخطوط، وأنه وحده الذي يستحق شرف امتلاكه، ورغب من الدكتور التازي أن يقوم بنشره وتصويره على غرار ما فعل لافي بروفنسال في نسخة ابن سعادة، إلا أن الله لم يقدر ذلك حتى الآن.
وختم مقالته هذه بأن المخطوط مازال بطبرق محل إقامة الملك (1).
(1) ومن مظاهر الاهتمام برحلة هذا المخطوط التي تكاد لا تتكرر لأي مخطوط آخر بكل هذه التفاصيل كتابة هذه الرحلة والتنقلات التي مر بها هذا الأثر، وقد كتب غير واحد عن هذه الرحلة، ومنهم:
عبد الحي الكتاني في رسالته المشهورة التي طبعت ونشرت كمقدمة لنسخة ابن سعادة، والتي تسمى «التنويه والإشادة بمقام رِوَاية ابن سعادة» ، كما كتب عنها في «فهرس الفهارس» في ترجمة أبي علي الصَّدفي.
كما كتب في التعريف بها وبأصلها الباقي في ليبيا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مفتي الجمهورية التونسية على ما جاء في رسالة «صحيح البُخَارِيّ في الدراسات المغربية من خلال رواته الأولين» للأستاذ محمد المنوني، وذكر أنها نشرت في أخبار التراث العربي، العدد 22 ص: 5 - 8.
كما كتب عن هذا المخطوط دراسة قيمة استفدتُ منها كثيرا الدكتور عبد الهادي التازي بعنوان: «صحيح الإمام البُخَارِيّ بخط الحافظ الصَّدفي» وهي منشورة بمجلة معهد المخطوطات العربية العدد التاسع عشر الجزء الأول، وأفاد الأستاذ محمد المنوني أن هذه الدراسة في مجلة دعوة الحق العدد الثامن السنة الخامسة عشرة ص: 18 - 24.
وينظر أيضا: مقالة للأستاذ محمد المنوني: «صحيح البُخَارِيّ في الدراسات المغربية» وهي ضمن مجموعة مقالات عن «صحيح البُخَارِيّ» ص: 137 - 139.
وعن أصل أبي علي الصَّدفي تفرعت نسخ كثيرة:
منها من النسخ الموجودة، والتي ترجع إلى أصل أبي علي الصَّدفي نسخة موجودة بخزانة القرويين، وهي نسخة عشرينية مسجلة تحت رقم (956) وقع محو في تحديد تاريخ نسخها ومقابلتها، وهي نسخة عتيقة مقابلة على أصل أبي علي الصَّدفي وعلى أصل بخط أبي علي الغساني، وقد قرئت على الشيخ أبي عبد الله القصار.
وقيمة هذه النسخة ترجع إلى كونها مقابلة على أصلين عتيقين: أصل الصَّدفي من جهة، وأصل أبي علي الغساني من جهة أخرى (1).
ومن النسخ الموجودة والتي ترجع إلى أصل أبي علي الصَّدفي: نسخة للقاضي عِياض عن أبي على الصَّدفي، وقد كانت معروفة بالمغرب خلال
(1) مخطوطات «صحيح البُخَارِيّ» بخزانه القرويين ص: 169.
النصف الثاني من القرن الثاني عشر، حيث وقف عليها عبد السلام بن الخياط القاوري الفاسي لدى أستاذه الشارفي المحدث أبي العلاء إدريس بن محمد بن حمدون الحسيني الفاسي المتوفى بها عام 1183 هـ، كما نقله في «التحفة القادرية» وعنه الكتاني في «فهرس الفهارس» (1).
وعن القاضي عِياض انتشرت نسخًا أخرى، ومن الجدير بالذكر أن إحدى روايات اليُونِينِيّ في نسخته الشهيرة، عن طريق أبي طاهر السلفي، عن القاضي عِياض، عن أبي علي عن الباجي، عن أبي ذر الهَرَويّ (2) حيث يرويها اليُونِينِيّ عن شيخه أبي جعفر الهمداني عن أبي طاهر السلفي عنه.
ومن النسخ الموجودة والتي ترجع إلى أصل أبي علي الصَّدفي النسخة التي كتبها بخطه صهره وراوي «صحيح البُخارِيّ» عنه، والعمدة فيه عند المغاربة بعد أبي علي الصَّدفي، والتي سيأتي التعريف بصاحبها، ثم الكلام عليها تفصيلًا لما لها من الأهمية.
(1) 2/ 368
(2)
ينظر مقدمة اليُونِينِيّ