الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب «مشارق الأنوار على صحاح الآثار» للقاضي عِياض
(1)
مؤلفه: هو الإمام الجليل والعالم العلامة، القاضي أبو الفضل عِياض بن عمرو ابن موسى بن عِياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عِياض، الفاسي الأصل، السبتي المولد، المراكشي المدفن، اليحصبي نسبة إلى يحصب بن مالك بن زيد، الحافظ المغربي الذي ارتبط اسم بلاد المغرب باسمه.
يلتقي نسبه بنسب الإمام مالك إمام دار الهجرة، وصاحب المذهب المالكي المتبع بالديار المغربية وأفريقيا، هذا المذهب الذي انتمى إليه
(1) ترجمة القاضي عياض منثورة في بطون الكتب التي لا يمكن حصرها، ومنها على سبيل المثال:«الصلة» لابن بشكوال 2/ 660 - 661، «المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي» لابن الأبار 294 - 298، «وفيات الأعيان» لابن خلكان 3/ 483 - 485، «سير أعلام النبلاء» للذهبي 20/ 212 - 219، وغيره من كتب الذَّهبي، «الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب» لابن فرحون 2/ 46 - 51، «فهرس الفهارس» للكتاني 2/ 797 - 804، وغير ذلك من المصادر والكتب والمقالات التي ألفت حول شخصية هذا الإمام.
وقد خصصت له وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب دورة خاصة به، ضمن سلسلة ندوات الإمام مالك إمام دار الهجرة، وهي تشتمل على ثلاثة وأربعين بحثا منشورًا كلها عن القاضي وما يتعلق به وغير ذلك.
ولقد ذكر الدكتور / قاسم سعد في أول كتابه «جمهرة تراجم الفقهاء المالكية» وهي سلسلة ضمن إصدارات دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي لسنة 1423 هـ / 2002 م محاولة لحصر جميع المصادر والكتب التي ألفت، والمقالات التي ترجمت أو تكلمت عن القاضي عياض.
عِياض، ويعتبر من أشهر أعلامه البارزين المشهورين الذي خدموه بالتصنيف والإفتاء والتعليم.
فكان القاضي عِياض ذا صلة بالإمام مالك من ناحيتين:
الأولى: صلة النسب.
الثانية: صلة المذهب.
مولده: ولد القاضي عِياض ببلدة سبتة من الديار المغربية في منتصف شعبان سنة 476 هـ، وبها بدأ حياته الأولى في التعليم والقراءة، فحفظ القرآن الكريم بالروايات السبع، وانتقل إلى تعلم العلم، فحفظ الكثير من التصانيف والمتون في مختلف الفنون، وهو ما يزال صغير السن، وذلك لما حباه الله تعالى من ذكاء وقوة الذاكرة، إلى جانب الفطنة الواسعة، وهذه الصفات من شأنها أن ترفع صاحبها حتى تجعله في مصاف العلماء البارزين ذوي المراتب العالية في العلم والفضل والكمال.
ومما ساعده على ذلك ما وجده من عمق الثقافة الإسلامية في تلك البقعة التي نشأ بها، وتربى فيها، بدءًا من مسقط رأسه سبتة التي كانت ملتقى الثقافات بما حباهاالله من موقع جغرافي، مما جعلها دار ممر للعلماء الكبار القادمين من المشرق العربي، الذين يمرون بالمغرب العربي عبرها نحو ديار الإسلام بالأندلس أو العكس؛ حيث العلماء القادمون من بلاد المغرب والأندلس، الراحلون إلى المشرق العربي حيث طلب العلم وأداء فريضة الحج المباركة.
شيوخه ورحلاته: كان القاضي عِياض رحمه الله تعالى ذا منهج فريد ومتميز في طلب العلم وتلقي المرويات، سار عليه من بداية حياته وطلبه للعلم؛ حيث يرى رحمه الله تعالى أن المادة المروية إذا لم تثبت صحة نسبتها إلى صاحبها لا تصلح أن تكون أساسا في البحث والدرس، فضلا
عن أن تبنى عليها الأحكام، فهو يرى أنه لابد من التوسع في الرِّواية والقراءة المقيدة على أربابها.
هذا المنهج الفريد الذي سار عليه القاضي عِياض جعله يرحل من مسقط رأسه - بعد أن استوعب ما فيها - إلى الأندلس، وذلك في سنة 507 هـ؛ أي بعد حوالي ثلاثين عاما من ولادته، فوصل إلى قرطبة بغية تصحيح المتون التي تلقاها.
وأول ما تحمل القاضي عِياض من العلم إجازة مجردة من الحافظ أبي علي الغساني، وكان يمكنه السماع منه فقد لحق من حياته اثنين وعشرين عاما، ومن شيوخه من أهل المغرب القاضي أبو عبد الله عيسى، والخطيب أبو القاسم، والفقيه أبو إسحاق بن الفاسي وغيرهم.
ولما رحل إلى الأندلس سنة 507 هـ روى عن القاضي أبي علي الصَّدفي سُكَّرة، ولازمه، وأخذ عن أبي حبر بن العاص، وأبي عتاب، وهشام بن أحمد وعدة.
وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي، والقاضي محمد بن عبد الله المسيلي وشيوخه من كثرتهم ألف فهرسًا ذكرهم فيه وترجم لهم، وقد بلغ عددهم ثمانية وتسعين شيخًا، والكتاب مطبوع طبعة الدار العربية للكتاب بليبيا سنة 1398 هـ / 1978 م، بدراسة وتحقيق الدكتور / محمد بن عبد الدايم.
وعاد القاضي عِياض من بلاد الأندلس بعد أن رصد عن كثب مناهج العلماء الأندلسيين في التفكير، ورأى كيف كانوا يتناولون المسائل بالدرس والبحث والتمحيص، فيردون منها ما يردون ويقبلون منها ما يقبلون فعاد إلى بلده آخذًا ما ينبغي له أخذه، وتاركًا ما ينبغي له تركه، عاد وقد أصبح بحرًا لا ساحل له في العلم، عاد وهو طاقةٌ هائلةٌ من التجارب، فأصبح
صوتًا للحق مدويًا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، يقضي بين الناس كما أمر الله وكما يقضي إليه اجتهاده.
من أجل كل ذلك علا قدره ومكانته بين أهله، وذاع صيته بين أقرانه حتى تبوأ مكانًة عاليًة، يُشد إليه الرحال طلبًا للإسناد وتلقي العلم على يديه، فأصبح بحق إمام وقته في الحديث وعلومه، فقيه زمانه في الأصول واللغة والنحو والأنساب، وغير ذلك مما يدل عليه تنوع معارفه وتآليفه التي تركت علامةً بارزةً في كل لون من ألوان التصنيف دالة على ذلك.
أقوال العلماء فيه:
قال ابن بشكوال في «الصلة» (1): هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم، واستقضي بسبتة مدة طولة حمدت سيرته فيها، ثم نُقل عنها إلى قضاء غرناطة، فلم يطول بها، وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه. اهـ.
وقال فيه ابن الأبار: وكان لا يدرك شأوه، ولا يبلغ مداه في العناية بصناعة الحديث وتقييد الآثار، وخدمة العلم مع حسن التفنن فيه (2).
وقال فيه رفيقه وتلميذه أبو عبد الله محمد بن حَمّاد السبتي: جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هينا من غير ضعف، صليبًا في الحق
…
إلى أن قال: وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحدٌ قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعًا وخشيةً لله تعالى (3).
وقال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» : وهو إمام الحديث في وقته،
وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب، وآبائهم وأنسابهم (1).
وقال الذَّهبي في «السير» : الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام .. (2).
مصنفاته:
له الكثير من المؤلفات في شتى العلوم والفنون؛ فمنها في الحديث: «مشارق الأنوار على صحاح الآثار» ، «إكمال المعلم بفوائد مسلم» ، «الِإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع» ، وغير ذلك.
وله في الرجال: «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك» ، «الغنية في أسماء شيوخه» ، «المعجم في ذكر أبي علي الصَّدفي» .
وله غير ذلك الكثير مما لا يسع المجال لحصره.
وفاته: توفي رحمه الله تعالى في سنة أربع وأربعين وخمسمائة في رمضان. وقيل: في جمادى الآخرة بمراكش، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
الكتاب
كتاب «مشارق الأنوار على صحاح الآثار» ، هكذا سماه مؤلفه، اشتمل على تفسير غريب حديث «الموطأ» و «الجامع الصحيح» لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البُخارِيّ، و «الجامع الصحيح» لأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، وضبط الألفاظ والتنبيه على مواضع الأوهام والتصحيفات، وضبط أسماء الرجال.
ترتيب الكتاب:
يقول القاضي عِياض في المقدمة مبينا ترتيب كتابه (1):
رأيت ترتيب تلك الكلمات على حروف المعجم، أيسر للناظر، وأقرب للطالب، فإذا وقف قارئ كتاب منها على كلمة مشكلة أو لفظة مهملة، فزع إلى الحرف الذي في أولها إن كان صحيحًا، وإن كان من حروف الزوائد أو العلل تركه، وطلب الصحيح، وإن أشكل وكان مهملا طلب صورته في سائر الأبواب التي تشبهه، حتى يقع عليه هنالك.
فبدأت بحرف الألف، وختمت بالياء على ترتيب حروف المعجم عندنا، ورتبت ثاني الكلمة وثالثها من ذلك الحرف على ذلك الترتيب، رغبة في التسهيل للراغب والتقريب، وبدأت في أول كل حرف بالألفاظ الواقعة في المتون، المطابقة لبابه على الترتيب المضمون. اهـ.
فالكتاب مرتب على ترتيب حروف المعجم عند المغاربة، حيث يوجد نوع اختلاف بين ترتيب حروف المعجم عند المشارقة عنه عند المغاربة، وزيادة في التوضيح سأذكر ترتيب الحروف عند المغاربة ليُعلم ذلك:
فالترتيب عند المشارقة معروف وعند المغاربة هو كما يلي: الهمزة، الباء الموحدة، التاء المثناة، الثاء المثلثة، الجيم المعجمة، الحاء المهملة، الخاء المعجمة، الدال المهملة، الذال المعجمة، الراء المهملة، الزاي المعجمة، الطاء المهملة، الظاء المعجمة، ثم الكاف، اللام، الميم، النون، الصاد المهملة، الضاد المعجمة، ثم العين المهملة، الغين المعجمة، الفاء، القاف، ثم السين المهملة، الشين المعجمة، الهاء، الواو، الياء.
وهكذا رتب الكتاب على حروف المعجم بهذا الترتيب بدءًا من الألف
(1) ص: 28 - 29
وختما بالياء مع ترتيب ثاني الكلمة وثالثها من ذلك الحرف نفس الترتيب.
ثم ذكر تحت كل حرف من هذه الحروف أربعة فصول رئيسة:
الفَصْل الأول: في ضبط الألفاظ والحروف الواردة في الأصول الثلاثة، وشرح ما وقع فيها من خلل أو وهم، وبيان ما هو الصواب وغيره.
الفَصْل الثاني: ما في الحرف من أسماء المواضع والأماكن من الأرض وضبطها، وما وقع فيها من اختلاف أو وهم أو تصحيف بالنسبة للكتب الثلاثة المعتمدة.
الفَصْل الثالث: في الأسماء والكنى، مع ضبط ما التبس منها أو وقع فيه اختلاف أو وهم.
الفَصْل الرابع: ما في الحرف من الأنساب، وما استشكل فيها والتبس خلافا أو وهما، ثم ما هو خارج عن هذه الفصول مما لا يدخل في باب من أبوابها لخلل وقع فيه أو التباس أو توهم أو تأخير ذكره أو ضبطه في باب من أبواب الكتاب الأخرى، أو في فصل من فصوله السابقة أو اللاحقة.
مثال: حرف الجيم (1):
قال: حرف الجيم. فبدأ بحرف: (الجيم مع الهمزة) ثم ذكر تحته (ج ار) ثم (ج ان) ثم (ج اش) وهكذا اقتصر على ذلك، حيث لا توجد كلمات إلا في هذه المواد وذكر تحت كل مادة المفردات والألفاظ التي وردت في الأحاديث من جنس هذه المواد.
فذكر تحت مادة: (ج ار) قوله: (أو بقرة لها جوار) وتكلم عن رواياتها
(1) هذا الحرف بجميع فصوله يقع في حوالي مائة صفحة، ينظر: 1/ 371 - 469.
وذكر أن في بعضها: (خوار) بالخاء ومعنى كل منهما
…
الخ
ثم ذكر (ج ان) وذكر تحتها قوله: (كأنما أخرجها من جونة عطار)
ثم (ج اش) وذكر تحتها قوله: (فيسكن جاشه)
وبعد ذلك ذكر فصلًا بعنوان: الاختلاف والوهم من ذلك، وهذا الفَصْل يذكره عقب كل حرف، وهو الخاص باختلاف الألفاظ الناتج عن اختلاف الرُّواة للكتب الثلاثة.
يقول القاضي عِياض: فصل الاختلاف والوهم.
وقوله: (فجئث منه فرقا) بضم الجيم بعدها همزة مكسورة وثاء ساكنة مثلثة، كذا رِواية كافتهم الأصيلي والحَمُّوييّ والمُسْتَمْلِيّ والنَسَفْيّ، في كتاب الأنبياء وغيره، وكذا لأكثر رواة مسلم، وعند السمرقندي وابن الحذاء في الأول:(جثثت) بثاء مثلثة أخرى مكان الهمزة حيث وقع، وكذا عند العذري في آخر حرف منها، مثل الرِّواية الأولى، ولغيره ما للسمرقندي، وللأصيلي في التفسير الوجهان، وبالثاء فيهما لأبي زيد، ومعنى الروايتين واحد، أي: رعبت، كما جاء بهذا اللفظ أول البُخارِيّ، قال الخليل: جئث الرجل وجث: فزع.
ووقع للقابسي (فجثئت) قدم الثاء على الهمزة في كتاب الأنبياء، ولا معنى له، ووقع له في كتاب التفسير ولغيره (فحثثت) بالحاء المهملة وثاءين مثلثتين، وكذا رواه ابن الحذاء في كتاب مسلم في الثاني والثالث، وفسروه: بأسرعت، ولا معنى له؛ لأنه قال بعده: فهويت إلى الأرض، أي: سقطت. يريد من الذعر، فكيف يجتمع السقوط والإسراع.
وحكى أن بعضهم رواه (فجبنت) من الجبن ولا معنى له هنا وهو
تصحيف (1).اهـ.
ثم ذكر القاضي: الجيم مع الباء فبدأ (ج ب ب) ثم: (ج ب ذ) ثم: (ج ب ر) ثم: (ج ب ل) ثم: (ج ب ن) ثم: (ج ب هـ) ثم: (ج ب ى) يذكر تحت هذه المواد ما يناسبها من المفردات الواردة في الحديث.
ثم عقد فصل الاختلاف والوهم من هذه المادة، فذكر الاختلاف في قوله:(فقعد على جبا الركية) ثم الاختلاف في كلمة: (جيبه) في باب جيب القميص، في حديث المتصدق والبخيل:(هكذا بأصبعيه في جيبه) هل هي جيبه أو جبته؟
ثم الاختلاف في كلمة (أجبرهم) في قوله: في قريش (أني أردت أن أجبرهم) هل هي أجبرهم أو أجيزهم .. وهكذا يسرد المفردات التي وقع فيها خلاف بين الرُّواة مبينًا وجه الصواب، وحاكيا كل ما جاء فيها كما وقعت له الرِّواية.
ثم بعد ذلك ينتقل إلى حرف الجيم مع الثاء، فيسرد مفرداته ثم الجيم مع الحاء .. إلى آخر الحروف بترتيب المغاربة، وهو في كل ذلك يعقد فصلا للمختلف فيه من قبل الرُّواة عقب كل مادة كما سبق، وكل ذلك يعتبر في القسم الأول من هذا الحرف.
والقسم الثاني: خصصه لأسماء المواضع، فذكر في هذا الحرف:(الجمرة) و (الجعرانة) و (جرباء) و (الجحفة) .. الخ.
ثم ينتقل إلى القسم الثالث: وقد خصصه لمشكل الأسماء والكنى من هذا الحرف، ثم يذكر عقبه فصلا للمختلف فيه من قبل الرُّواة.
ثم القسم الرابع: وقد خصصه لمشكل الأنساب، ويتبعه بفصل
(1)«مشارق الأنوار» 1/ 372.
الاختلاف والوهم منه وهكذا ثم ينتقل إلى الحرف الذي يليه وهو الحاء بجميع أقسامه مثل تقسيم حرف الجيم.
ويلخص القاضي عِياض عمله في الكتاب فيقول (1):
فتولينا إتقان ضبطها، بحيث لا يلحقها تصحيف يظلمها، ولا يبقى بها إهمال يبهمها، فإن كان الحرف مما اختلفت فيه الروايات نبهنا على ذلك، وأشرنا إلى الأرجح والصواب هنالك، بحكم ما يوجد في حديث آخر رافع للاختلاف، مزيح للإشكال، مريح من حيرة الإبهام والإهمال، أو يكون هو المعروف في كلام العرب، أو الأشهر أو الأليق بمساق الكلام والأظهر، أو نص من سبقنا من جهابذة العلماء وقدوة الأئمة على المخطئ والمصحف فيه، أو أدركناه بتحقيق النظر، وكثرة البحث على ما نتلقاه من مناهجهم، ونقتفيه.
وترجمنا فصلا في كل حرف، على ما وقع فيها من أسماء أماكن من الأرض، وبلاد يشكل تقييدها، ويقل متقن أساميها ومجيدها، ويقع فيها لكثير من الروايات تصحيف يسمج، ونبهنا معها على شرح أشباهها من ذلك الشرج (2)، ثم نعطف على ما وقع في المتون في ذلك الحرف بما وقع في الإسناد من النص على مشكل الأسماء والألقاب، ومبهم الكنى والأنساب، وربما وقع منه من جرى ذكره في المتن، فأضفناه إلى شكله من ذلك الفن
…
ثم قال:
وذكرنا في آخر كل فصل من فصول كل حرف ما جاء فيه من
(1) ص: 28 - 29
(2)
الشَّرْجُ: الضرب، يقال: هما شَرْج واحد أي ضرب واحد. ينظر «تهذيب اللغة» 2/ 1849، «لسان العرب» 4/ 2227 مادة: شرج.
تصحيف، ونبهنا فيه على الصواب والوجه المعروف. اهـ.
الباعث على تأليفه:
يذكر القاضي عِياض الباعث على تأليف هذا الكتاب مبينًا قصور الدراسات التي سبقته وأن كتابه هذا أراد به أن يستكمل الخلل السابق فيقول (1): ولم يؤلف في هذا الشأن كتاب مفرد، تقلد عهدة ما ذكرناه على أحد هذه الكتب أو غيرها، إلا ما صنعه الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في «تصحيف المحدثين» وأكثره مما ليس في هذه الكتب، وما صنعه الإمام أبو سليمان الخطابي في جزء لطيف، وإلا نكتًا مفترقة وقعت أثناء شروحها لغير واحد، لو جمعت لم تشف غليلًا، ولم تبلغ من البغية إلا قليلًا، وإلا ما جمع الشيخ الحافظ أبو علي الحسن بن محمد الغساني شيخنا رحمه الله في كتابه المسمى: بـ «تقييد المهمل» ، فإنه تقصى فيه أكثر ما اشتمل عليه الصحيحان، وقيده أحسن تقييد، وبينه غاية البيان، وجوده نهاية التجويد، لكن اقتصر على ما يتعلق بالأسماء والكنى والأنساب وألقاب الرجال، دون ما في المتون من تغيير وتصحيف وإشكال، وإن كان قد شذ عليه من الكتابين أسماء واستدركت عليه فيما ذكر أشياء، فالإحاطة بيد من يعلم ما في الأرض والسماء. اهـ.
(1) 1/ 27 - 28.
الروايات التي اعتمد عليها:
ساق القاضي عِياض في أول الكتاب أسانيده للكتب الثلاثة، فذكر أسانيد الصحيح بعد ذكر أسانيده إلى الموطأ قائلا (1):
وأما الكتاب الجامع المسند الصحيح المختصر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل، البُخارِيّ المولد والمنشأ والدار، الجعفي النسب بالولاء، فقد وصل إلينا من رِواية أبي عبد الله محمد بن يوسف الفَرَبْريّ، وأكثر الروايات من طريقه، ومن رِواية إبراهيم بن معقل النَسَفْيّ عن البُخارِيّ، ولم يصل إلينا من غير هذين الطريقين عنه، ولا دخل المغرب والأندلس إلا عنهما، على كثرة رواة البُخارِيّ عنه لكتابه.
فقد روينا عن أبي إسحاق المُسْتَمْلِيّ أنه قال: عن أبي عبد الله الفَرَبْريّ أنه كان يقول: روى الصحيح عن أبي عبد الله تسعون ألف رجل ما بقي منهم غيري.
فأما رِواية الفَرَبْريّ فرويناها من طرق كثيرة:
منها: طريق الحافظ أبي ذر عبد بن أحمد الهَرَويّ.
وطريق أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي.
وطريق أبي الحسن علي بن خلف القابسي.
وطريق كريمة بنت محمد المَرْوَزيّة.
وطريق أبي علي سعيد بن عثمان بن السكن البغدادي.
وطريق أبي علي إسماعيل بن محمد الكُشّانيّ.
وأبي علي محمد بن عمر بن شبوية.
وأحمد بن صالح الهمداني.
وأبي نعيم الحافظ الأصبهاني.
(1) 1/ 36 - 39
وأبي الفيض أحمد بن محمد المَرْوَزيّ، وغيرهم
فأما رِواية أبي ذر: فإني سمعتها، بقراءة غيري بجامع مدينة مرسية، لجميع الصحيح بها، على القاضي الشهيد أبي علي الحسين بن محمد الصَّدفي، وحَدَّثَنا بها عن القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، عن أبي ذر عبد بن أحمد الهَرَويّ، عن شيوخه الثلاثة: أبي محمد بن حموية السَّرْخَسي، وأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المُسْتَمْلِيّ، وأبي الهيثم محمد بن المكي الكُشْمِيهَني، كلهم عن الفَرَبْريّ، عن البُخارِيّ.
وأخبرني به الشيخ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن غلبون بمدينة أشبيلية، عن أبي ذر الهَرَويّ إجازة.
وأما رِواية الأصيلي: فإني قرأت بها جميع الكتاب على الفقيه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب بمدينة قرطبة، وحدثني به، عن أبيه، عن أحمد بن ثابت الواسطي وغيره، عن الأصيلي، عن أبي زيد محمد بن أحمد المَرْوَزيّ وأبي أحمد محمد بن محمد بن يوسف الجُرْجانيّ كلاهما، عن الفَرَبْريّ، قال لي أبو محمد بن عتاب: وأجازنيها الفقيه أبو عبد الله بن نبأت عن الأصيلي.
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله: وكتب إلي بها إجازة بخط يده الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجَيّانيّ، وحدثني بها مشافهة الكاتب أبو جعفر أحمد بن طريف حدثاني به جميعا عن القاضي سراج بن محمد بن سراج عن الأصيلي.
قال الجَيّانيّ: وحدثني بها أيضا أبو شاكر عبد الواحد بن موهب عنه، وعارضت كتابي بأصل الأصيلي، الذي بخطه حرفا حرفا، وكذلك عارضت مواضع إشكاله بأصل عبدوس بن محمد الذي بخطه أيضا، وروايته فيه عن المَرْوَزيّ.
وأما رِواية القابسي: فحدثني بها سماعا وقراءة وإجازة أبو محمد بن عتاب، وأبو علي الجَيّانيّ وغير واحد قالوا: نا أبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي، عن أبي الحسن القابسي، عن أبي زيد المَرْوَزيّ، عن الفَرَبْريّ.
وأنا بها أحمد بن محمد عن الفقيهين أبي عمران موسى بن عيسى الفاسي، وأبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الحضرمي، بالإجازة عن القابسي.
ولنا فيه أيضا رِواية من طريق القاضي أبي القاسم المهلب بن أبي صفرة عنه
وأما رِواية أبي علي بن السكن: فحدثني بها أبو محمد بن عتاب، عن أبيه، عن أبي عبد الله بن نبأت، عن أبي جعفر بن عون الله ومحمد بن أحمد بن مفرج، عن أبي علي بن السكن، عن الفَرَبْريّ.
قال أبو محمد بن عتاب: وأجازنيها ابن نبأت المذكور
قال القاضي رحمه الله: حَدَّثَنا بها الشيخ أبو علي الجَيّانيّ، فيما كتب إلينا به.
وحَدَّثَنا به القاضي أبو عبد الله بن عيسى سماعا لأكثره عنه قال: حَدَّثَنا بها القاضي أبو عمر بن الحذاء، وأبو عمر بن عبد البر الحافظ قالا: حَدَّثَنا أبو محمد عبد الله بن أسد، عن ابن السكن.
قال القاضي رحمه الله: وحَدَّثَنا به أبو محمد بن عتاب، عن أبي عمر بن الحذاء، إجازة منه له.
وأما رِواية كريمة فحدثني بها الشيخ أبو الأصبغ عيسى بن أبي البحر الزهري، والخطيب أبو القاسم خلف بن إبراهيم المقري، والشيخ أحمد بن خليفة بن منصور الخزاعي إجازة، وغير واحد كلهم عن كريمة بنت محمد سماعا عن أبي الهيثم الكُشْمِيهَني، عن الفَرَبْريّ.
وأما رِواية أبي علي الكُشّانيّ فإن القاضي الحافظ أبا علي حَدَّثَنا بها عن أبي الحسن علي بن الحسين بن أيوب البزاز سماعه منه ببغداد، عن أبي عبد الله الحسين ابن محمد الخلال، عن أبي علي الكُشّانيّ، عن الفَرَبْريّ
وأما رِواية أبي إسحاق النَسَفْيّ فكتب إلي بها الشيخ الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الغساني، وسمعت على القاضي أبي عبد الله التميمي كثيرًا مما قيد منها عنه قال: حدثني بها أبو العاصي حكم بن محمد الجذامي عن أبي الفضل بن أبي عمران الهَرَويّ، عن أبي صالح خلف بن محمد الخيام البُخارِيّ، عن إبراهيم بن معقل النَسَفْيّ، عن البُخارِيّ إلا أن النَسَفْيّ فاته من آخر الكتاب شيء من كتاب الأحكام، إلى باب قوله تعالى:«يريدون أن يبدلوا كلام الله» فإنه إجازة من البُخارِيّ للنسفي، ثم ما بعده لم يكن في رِواية النَسَفْيّ، إلى آخر الكتاب، وذلك نحو عشرة أوراق لم يرو منها إلا تسعة أحاديث أول الكتاب آخرها طرف من حديث الإفك.
التعليق على الروايات:
أولًا: روى الصحيح عن البُخارِيّ من روايتين رِواية الفَرَبْريّ ورِواية النَسَفْيّ.
ثانيًا: رِواية الفَرَبْريّ وقعت له من طريق سبعة رواه وهم:
1 -
المُسْتَمْلِيّ.
2 -
الكُشْمِيهَني.
3 -
السَّرْخَسي.
هؤلاء الثلاثة من رِواية أبي علي الصَّدفي، عن أبي الوليد الباجي، عن أبي ذر الهَرَويّ عنهم.
كما وقعت له رِواية الكُشْمِيهَني من طريق كريمة المَرْوَزيّة عنه.
4 -
أبو زيد المَرْوَزيّ من طريقين: من طريق الأصيلي، ومن طريق القابسي، كلاهما عنه.
5 -
أبو أحمد الجُرْجانيّ من طريق الأصيلي.
6 -
ابن السكن من طريق أبي محمد عبد الله بن أسد الجهني وغيره عنه.
7 -
أبو علي الكُشّانيّ من طريق أبي عبد الله الخلال عنه.
أما رِواية النَسَفْيّ فوقعت له من طريق أبي العاصي حكم بن محمد الجذامي عن أبي الفضل بن أبي عمران الهَرَويّ، عن أبي صالح خلف بن محمد الخيام البُخارِيّ عنه.
ثالثًا: كل هذه الروايات وقعت له سماعًا وبعضها وقعت له إجازة أيضًا كرِواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة، ورِواية الأصيلي، ورِواية ابن السكن، ورِواية النَسَفْيّ.
قيمة الكتاب من حيث الروايات:
الكتاب يعد بحق من أهم ما ألف لبيان الاختلاف بين الروايات، والتمييز بينها مع بيان وجه الصواب فيها.
- وتبرز قيمته في نسبة اختلافات كثيرة، وخاصة إذا لاحظنا عدد الروايات التي اعتمد عليها القاضي عِياض.
- يشتمل على الاختلافات التي وقعت من قبل الرُّواة في السند والمتن، حيث لم يقتصر على ألفاظ السند فقط كما فعل أبو علي الجَيّانيّ في تقييد المهمل.
- أنه مرتب على حروف المعجم مما يسهل الوصول إلى الكلمة المراد الوصول إليها، حتى ولو كان الترتيب على طريقة المغاربة.
- أن مؤلفه لديه صناعة حديثية ودقة علمية ومنهج في الرِّواية فريد مما جعله يقارن بين هذه الروايات مُنزلًا كل رِواية منزلتها من حيث الصحة
وعدمها ومبينًا ما كان سببه التصحيف أو غيره.
- أنه يحكي الاختلاف في أصح ثلاثة كتب، وأكثر الكتب خدمة من العلماء المسلمين، وهي موطأ مالك والصحيحين.
- أن مؤلفه يأتي بما يعضد رِواية الحديث بالروايات الأخرى له، أو صحيح لغة العرب أو غير ذلك.
- أن صنيعه هذا يكاد يكون بطريقة الحصر، بحيث يستطيع الباحث الوقوف على جل الاختلافات في الكتب الثلاثة، مما يعطي تصورًا جزئيًا للروايات، وخاصة تلك الروايات التي لا توجد لها نصوص كاملة.
كل ذلك وغيره جعل كل الشراح أمثال ابن الملقن، وابن حجر (1) والقَسْطَلّانِيّ، وغيرهم ينقلون من أقوال القاضي في «المشارق» فيما يتعلق بهذا الباب أو غيره.
وبالجملة: الكتاب له قيمة كبيرة لمن أراد أن يحرر رِواية معينة من الروايات التي اعتمد عليها.
وأختم بهذه الكلمات التي قالها مؤلف الكتاب، وهو يبين لنا منزلة الكتاب يقول القاضي عِياض في المقدمة (2):
رجوت ألا يبقى على طالب معرفة الأصول المذكورة إشكال، وأنه يستغني بما يجده في كتابنا هذا عن الرحلة لمتقني الرجال، بل يكتفي بالسماع على الشيوخ، إن كان من أهل السماع والرِّواية، أو يقتصر على درس أصل مشهور الصحة، أو يصحح به كتابه ويعتمد فيما أشكل عليه
(1) نقل منه ابن حجر في مواضع كثيرة منها على سبيل المثال: 1/ 408، 414، 415، 4/ 82، 5/ 41، 334، 340، 8/ 38، 64، 9/ 145، 241، 373، 10/ 281، 11/ 211، 12/ 306، 13/ 414.
(2)
1/ 31 - 32.
على ما هنا، إن كان من طالبي التفقه والدراية.
فهو كتاب يحتاج إليه الشيخ الراوي، كما يحتاج إليه الحافظ الواعي، ويتدرج به المبتدئ كما يتذكر به المنتهي، ويضطر إليه طالب التفقه والاجتهاد، كما لا يستغنى عنه راغب السماع والإسناد، ويحتج به الأديب في مذاكرته، كما يعتمد عليه المناظر في محاضرته.
وسيعلم من وقف عليه من أهل المعرفة والدراية قدره، ويوفيه أهل الإنصاف والديانة حقه، فإني نخلت فيه معلومي، وبثته مكتومي، ورصعته بجواهر محفوظي ومفهومي، وأودعته مصونات الصنادق والصدور، وسمحت فيه بمضنونات المشائخ والصدور، مما لا يبيحون خفى ذكره لكل ناعق، ولا يبوحون بسره في متداولات المهارق، ولا يقلدون خطير دره إلا لبات أهل الحقائق، ولا يرفعون منها راية إلا لمن يتلقاها باليمين، ولا يودعون منها آية إلا عند ثقة أمين.
وقد ألفته بحكم الاضطرار والاختيار، وصنفته منتقى النكت من خيار الخيار، وأودعته غرائب الودائع والأسرار، وأطلعته شمسا يشرق شعاعها في سائر الأقطار، وحررته تحريرا تحار فيه العقول والأفكار، وقربته تقريبا تتقلب فيه القلوب والأبصار، وسميته بمشارق الأنوار على صحاح الآثار.
طبعات الكتاب
وقفت للكتاب على طبعتين:
الأولى: طبعة سنة 1333 من الهجرة النبوية، طبع ونشر المكتبة العتيقة بتونس، ودار التراث بالقاهرة، وهي في مجلدين من القطع الكبير.
والطبعة الثانية: سنة 1402 هـ طبعتها وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، بدولة المغرب بأمر من الملك الحسن الثاني.
وهي في مجلدين من القطع الصغير، بتحقيق البلعمشي أحمد يكن.