الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالعذرة فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنعا به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر، ثم يعود لمثل ما صنعوا، ويعود لمثل صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:
تالله لو كنت إلها مُسْتَدَنْ
…
لم تك والكلب جميعا في قَرَن
هذه صورة من صور الوثنية.
ولقد أدرك عمرو بن الجموح الدين الحق فأسلم وحسن إسلامه واستشهد يوم أحد.
تدرج الله تعالى مستنكرا لعبادتهم من أدنى حال متصورة لهم إلى أعلاها، فذكر أنها أحجار لَا تضر ولا تنفع ولا تستطيع لأحد نصرا ولا تنصر نفسها، ثم صور لهم أنها تُنادَى فلا تجيب لأنها لَا حياة فيها، إنما يجيب النداء للأحياء ولو كانت تنعق، ثم تدرج إلى تصور أنها من الأحياء، فإنها لَا تستجيب للدعاء، فقال تعالت كلماته:
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(194)
الخطاب للمشركين من أول الحديث في عبادتهم الأوثان، والله سبحانه وتعالى يتدرج في تصويره لما يعبدون من أحجار لَا تنفع ولا تضر ولا تسمع، وليس فيها حياة إلى فرض أن فيها حياة، وفي هذا الفرض البعيد لَا يعلون عليكم معشر المشركين، بل ينهدون إلى أن يكونوا عبادا مثلكم والمعبود يجب أن يكون أعلى منكم لتسجدوا له، فكيف تعبدون مثلكم، ولماذا تختارونه للعبادة وهو على أكثر تقدير له - مثلكم؟!.
والحق أنه دونكم لأنه أصم لَا يسمع، أبكم لَا يتكلم، قد محيت منه آية الإبصار فلا يرى. ولقد تحداهم أن يدعوهم، فإن استجابوا كان لكم أن تدعوا ما تدعون زورا وربما تعدون في العقول، ولذا قال تعالى:(فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) دعواكم الألوهية. والأمر للتحدي أو للتعجيز لَا للطلب ولا الإباحة.
وهنا ملاحظات بيانية:
الأولى - أنه سبحانه وتعالى قال عن الأحجار: (عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) وكيف يقال إنها عباد، وكيف يقال: إنها مثل المشركين، وكيف يتحدث عنها كأنها جمع مذكر سالم؟. والجواب عن هذا أن الواضح هو بيان مثليتها في أنها مخلوقة مثلهم، وعلى الأقل هي متماثلة مع المشركين في أنها خلق لله لَا تُعبد كما لا يعبدون، فكيف يعبدونها، وهذا القدر كاف لاستنكار عبادتها، وتسميتها عبادا من حيث إنها خاضعة لله، فلله يسجد طوعا أو كرها كل ما في السماء والأرض من أجرام.
والبعض يزعم أن للجماد روحًا (. . . وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. . .). وعود الضمير عليها كضمير جمع العقل مجاراة لهم في تفكيرهم، إذ جعلوها من العقلاء فعبدوها.
الثانية - لام الأمر في قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ما موضعها من القول؟ نقول: إن موضعها أنها لام الأمر، يطلب إليهم رب العزة أن يأمروهم ليستجيبوا، أي أن الأمر بالاستجابة ليس من الله تعالى، لأن الله تعالى لَا يطلب الاستجابة ممن لَا يجيب، بل الأمر يكون من غيره ممن يعبدها وليكون التعجيز والتحدي كاملا.
وبهذا التخريج يكون طلب الاستجابة من المشركين لَا من الله تعالى.
الثالثة - أن سياق القول يدل على أن الاستجابة غير ممكنة، ولذا كانوا غير صادقين، وبذلك ينتهي التحدي بالتعجيز والعجز، فعجزوا أن يثبتوا صدقهم.
ولقد بين الله من بعد ذلك أنها أدنى خلقا ممن يعبدونها فقال تعالى:
* * *
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
* * *
إن الآية السابقة، ذكرت أنهم عباد أمثالهم، وقد خرجنا معناها على ذلك، ويكون قوله:
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا) وتكون الآية هنا تنزيلا لهم عن مقام المماثلة إلى ما دونها، فأنتم لكم أجسام مصورة، لكم أرجل تمشون بها، وأيد تبطشون بها ولكم آذان.
وأُنسينا عند الكلام في معاني الآية السابقة أن نذكر قراءة (إنْ) بالتخفيف بمعنى النفي، ويكون المعنى:" ليس الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " فتكون لنفي المماثلة بينهم، بل إن المشركين في الخلق والتكوين أكمل وأعلى فكيف يعبد الأعلى من هو أدنى منه مقاما، وأقرب منه إلى الإكرام. ويكون قوله تعالى:(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا)، الآية بيانا لهذه الأفضلية، ومنع المماثلة. وأن قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) الاستفهام كله للإنكار بمعنى نفي الوقوع، أي ليست لهم أرجل، ولا أيد، ولا آذان. وجاء النفي بصيغة الاستفهام لتأكيده بالدعوة إلى الالتفات لهم، ثم الحكم ينفي هذه الجوارح عنهم، ومن عنده هذه الجوارح أكمل بلا ريب في الخلق والتكون والآخر أدنى منه.
وقد ذكر المشي بالنسبة للرجل، والبطش بالنسبة لليد، والسماع بالنسبة للأذن مع أنه إذا انتفى وجود الرجل انتفى المشي لَا محالة، وكذا السمع واليد، فلماذا ذكرت هذه الصفات مع أن نفي الأصل ينفيها، ذكرت للدلالة على قوة العابدين لهم، وضعف هذه المعبودات، فكيف يعبد القوي الضعيف، وكيف يعبد القادر غير القادر، وكيف يعبد من أوتي الحركة الجماد الذي لَا يتحرك، ولا يستطيع أن يدفع الباطش به أن يبطش.
ومع هذا الضعف الدال على الزراية بمن يعبدونها، كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم
منهم، كما خوف من قبل قوم نوح وعاد وثمود أنبياءهم. فقد قال تعالى عن هود إذ هددوا عاد:(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56).
كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم منها، كما كانوا هم يخافون، ولقد تحداهم الله تعالى أن ينزلوا هم وأوثانهم بالنبي ما يخوفون فيكون ذلك بيان لعجزهم؛ ولذا قال تعالى:(قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرونِ).
إن كنتم تخافونهم، وتخوفون محمدا فقل يا محمد: ادعوا شركاءكم، أي من جعلتموهم شركاء لله، فالإضافة لأدنى ملابسة، أي الشركاء الذي هم شركاء في زعمكم أي هم شركاء في زعمكم أنتم (ثُمَّ كِيدُونِ)، أي دبروا لي وأعلنوا الحرب، وقد يطلق الكيد ويراد به الحرب. تقول كتب السيرة في بعض سرايا النبي صلى الله عليه وسلم -