المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(سُورَةُ التَّوْبَةِ) تمهيد: وهي مدنية وعدد آياتها 129 ويقولون إلا الآيتين الأخيرتين - زهرة التفاسير - جـ ٦

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌(25)

- ‌(27)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌31)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(35)

- ‌(36)

- ‌(37)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(41)

- ‌(43)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(47)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(50)

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(58)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(64)

- ‌(66)

- ‌(67)

- ‌(69)

- ‌70)

- ‌(71)

- ‌(72)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(76)

- ‌(77)

- ‌(80)

- ‌(82)

- ‌(83)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(90)

- ‌(92)

- ‌(95)

- ‌(96)

- ‌(97)

- ‌(98)

- ‌(99)

- ‌(100)

- ‌(102)

- ‌(104)

- ‌(105)

- ‌(106)

- ‌(107)

- ‌(109)

- ‌(111)

- ‌(113)

- ‌(115)

- ‌(116)

- ‌(117)

- ‌(118)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(124)

- ‌(126)

- ‌(128)

- ‌(129)

- ‌(131)

- ‌(132)

- ‌(133)

- ‌(134)

- ‌(135)

- ‌(141)

- ‌(143)

- ‌(146)

- ‌(147)

- ‌(149)

- ‌(151)

- ‌(152)

- ‌(153)

- ‌(156)

- ‌(158)

- ‌(160)

- ‌(161)

- ‌(162)

- ‌(164)

- ‌(165)

- ‌(166)

- ‌(168)

- ‌(169)

- ‌(170)

- ‌(172)

- ‌(173)

- ‌(174)

- ‌(177)

- ‌(178)

- ‌(180)

- ‌(181)

- ‌(183)

- ‌(184)

- ‌(185)

- ‌(186)

- ‌(188)

- ‌(190)

- ‌(191)

- ‌(193)

- ‌(194)

- ‌(196)

- ‌(197)

- ‌(198)

- ‌(200)

- ‌(201)

- ‌(203)

- ‌(205)

- ‌(سُورَةُ الْأَنْفَالِ)

- ‌(4)

- ‌(6)

- ‌(10)

- ‌(12)

- ‌(13)

- ‌(14)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(19)

- ‌(21)

- ‌(23)

- ‌(24)

- ‌(25)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(35)

- ‌(36)

- ‌(37)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(42)

- ‌(45)

- ‌(46)

- ‌(47)

- ‌(49)

- ‌(50)

- ‌(51)

- ‌(53)

- ‌(54)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(60)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(64)

- ‌(66)

- ‌(68)

- ‌(69)

- ‌(70)

- ‌(71)

- ‌(73)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(سُورَةُ التَّوْبَةِ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(6)

- ‌(7)

- ‌(8)

- ‌(10)

- ‌(11)

- ‌(12)

- ‌(15)

- ‌(17)

- ‌(20)

- ‌(22)

- ‌(24)

- ‌(26)

- ‌(27)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌(31)

- ‌(33)

- ‌(35)

- ‌(40)

- ‌(41)

- ‌(43)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(47)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(54)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(59)

- ‌(60)

- ‌(63)

الفصل: ‌ ‌(سُورَةُ التَّوْبَةِ) تمهيد: وهي مدنية وعدد آياتها 129 ويقولون إلا الآيتين الأخيرتين

(سُورَةُ التَّوْبَةِ)

تمهيد:

وهي مدنية وعدد آياتها 129 ويقولون إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان.

وفى المصحف أنها نزلت بعد المائدة، ولكن الثابت أن آية (. . . الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا. . .)، نزلت في عرفة في حجة الوداع، وأن براءة نزلت في حجة الصديق رضي الله عنه، وصلى بها علي بن أبي طالب، فهي قبل المائدة، وقالوا: إنها نزلت في تبوك، وفيها أخبار المسلمين والمنافقين في هذه الغزوة مما يدل على أنها مقارنة لها في الزمان، وتسمى " الفاضحة "؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى " البَحُوث؛ لأنها بحثت أسرار المنافقين وكشفتها، ولم تبدأ بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كغيرها من السور.

وقالوا في ذلك: إن الصحابة لم يفصلوا بينها وبين سورة الأنفال بالبسملة، وذلك لأن القرآن الكريم كتب ما كتب فيه بالتوقيف لَا بالرأي، ووضعت آياته وسوره بالتوقيف، وقد اتبع زيد بن ثابت والجماعة الذين كانوا معه ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سوره ونزل عليه من آياته ووضع كل آية في موضعها من سورتها، ولم يضع " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " بين الأنفال وبين براءة، والكتابة سنة متبعة ثابتة بالتوقيف، هذا لَا مجال للريب فيه فقد ثبت بالتواتر.

وقالوا في الحكمة في عدم كتابة البسملة: فمنهم من قال إن البراءة امتداد للأنفال فموضوعهما في الحرب والعهود، وتلك حكمة واضحة بينة، وقال بعضهم إن الرحمة والسلام اللذين تدل عليهما البسملة، لَا يتناسبان مع ما اشتملت سورة براءة من نقض للعهود، وتهديد بالحروب، وكشف للنفاق.

ص: 3211

ونحن نرتضي التعليل الأول؛ لأن الحرب بكلِ صوِرها ما دامت إسلامية عادلة، فهي رحمة بالناس، (. . . وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. . .).

والسورة الكريمة قد اشتملت على العهود الموثقة، ونقض المشركين لها والبراءة ممن ينقضونها، وبيان أن الجهاد سياحة المؤمن، كما صرح الرسول صلى الله عليه وسلم (1) ولذا قال في الفراغ من الجهاد (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر. . .)، وإعلان البراءة من الشرك وأهله، وأوجب سبحانه مع هذه البراءة الوفاء للمشركين الذين لم ينقصوكم شيئا من عهودكم.

وإن القتال محرم في الأشهر الحرم، فإذا انسلخت كان القتال لغير أهل العهد، وتتبع المشركين في كل مكان، وكل ذلك مع ملاحظة النجدة، وإجارِة من يريد الجوار، وقال تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6).

ثم بين سبحانه أنه لَا يصح الاعتماد على عهود المشركين، لأنهم لَا يبرون بعهودهم، واستثنى سبحانه الذين تفرض فيهم الاستقامة على أحد الاحتمالين، ولذا قال تعالى:(. . . فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. . .).

وإن استقامتهم المفروضة تكون والمسلمون أقوياء (. . . وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. . .)، وإن ماضيهم ينبئ عن حاضرهم إذ كانوا يصدونكم عن المسجد الحرام.

وأنهم إذا تابوا فإخوانكم في الدين، وإن أستمروا على الكفر ونكثوا الأيمان فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لَا أيمان لهم، وأمر سبحانه وتعالى وقد استمروا على عداوتهم والنكث على عهودهم أن على المؤمنين أن يقاتلوهم، وقال تعالى:

(1) عَنْ أبِى أمَامَةَ أن رَجُلا قَالَ: يَا رَسولَ اللَّه ائْذَنْ لِى فِى السًيَاحَة، قَالَ النَبِى صلى الله عليه وسلم:. إِنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ". رواه أبو داود: الجهادَ - النهي عن السياحة (2486).

ص: 3212

(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14).

وإن هذا الخزي يذهب غيظ قلوبهم، والهزيمة تجعله يتبدد. وإن الجهاد فريضة محكمة يعلم الله تعالى به المجاهدين علم واقع يرونه.

بعد ذلك اتجه سبحانه وتعالى إلى عمَّار البيت المشركين وبيان أنهم ليس لهم

أجر؛ لأن عمارة المساجد شرطها الإيمان (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18).

وذلك إشارة إلى عمارتهم المساجد، فإنه لايفيدهم ما داموا مشركين، ولذا قال تعالى:(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاج وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

بعد أن بين الله أنه لَا يستوي المؤمن والكافر. بيَّن جزاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم.

ثم بيَّن سبحانه أن هؤلاء يجب أن يكونوا لله سبحانه وتعالى، فبين أنه يجب عليهم ألا يتخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء من دون الله إن استحبوا الكفر على الإيمان، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24).

وذكَّرهم سبحانه وتعالى بنصرهم في مواطن كثيرة، وذكَّرهم سبحانه بيوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تغنِ عنهم شيئا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت،

ص: 3213

ثم ولوا مدبرين (ثمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنودًا لَّمْ تَروْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).

قد كسرت الأصنام، ولكن كان المشركون يدخلون المسجد، فأمر الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28).

وقد أمر سبحانه من بعد ذلك بقتال الكافرين سواء أكانوا يهودا أم نصارى أم - مشركين حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وبيَّن أن اليهود قالوا عزير ابن الله فكانوا كالمشركين، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله فكانوا مثل المشركين في أن أشركوا في عبادة الله المخلوقات.

وزادوا بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم وسائط في العلمِ عن الله فاتخذوهم أربابا، (. . . وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدَا لَا إِلَهَ إِلَّا هُو سُبْحَانهُ عَمَّا يُشْرِكونَ) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). وبين سبحانه مساوى الأحبار والرهبان في أكلهم أموال الناس بالباطل.

ثم ذكر سبحانه مآل هؤلاء يوم القيامة: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35).

بعد ذلك ذكر سبحانه عدة الشهور وهي اثنا عشر منها أربعة حرم، لَا يحل فيها القتال لأنها أشهر الحج أو الانتقال إلى بيت الله الحرام، وكذلك العُمرة، وهي ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب (مُضَر) الذي بين جمادى وشعبان فهو شهر عمرة مُضَر. فأُلحق بأشهر الحج.

وحرم الله تعالى النسيء (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. . .) وإن ابتداء الحرب في الأشهر الحرم لَا يجوز، ولكن إذا كان القتال (. . . فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36).

ص: 3214

بعد ذلك أمر الله تعالى بالقتال، ولامهم على التثاقل عنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38).

وبين سبحانه وتعالى عذاب من لَا ينفرون في سبيل الله فإنه يستبدل قومًا غيرهم، وبيَّن أنهم إن لم ينصروا النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله ناصره:(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) وصرح الله تعالى بوجوب النفور إلى القتال خفافا وثقالا.

بعد ذلك أشار الله سبحانه وتعالى إلى تخذيل المنافقين للمؤمنين كما فعلوا في غزوة تبوك، فقد عوَّقوا وخذلوا، ولم ينفروا مع المؤمنين وقال تعالى في ذلك:

(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42).

ولقد عفا الله جل جلاله عن نبيه أن أذن لهم بالتخلف، ولو لم يأذن لتبين نفاقهم (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45).

وأخذ سبحانه وتعالى يبين أحوال المنافقين فهم لنفاقهم وريبهم لم يستعدوا للقتال، وأن الله كره انبعاثهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين، وإن قعودهم فيه خير لأهل الإيمان:(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ

ص: 3215

الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49).

إنهم يخذلون النبي فيأمر الله نبيه بأن يقول لهم: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51).

وبين الله تعالى لنبيه أنهم يتربصون للمؤمنين الموت والخذلان (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52).

وقد منع الله نبيه أن يقبل منهم نفقة في حرب؛ لأن مالهم سحت، ولا يجدي في الحرب إلا المال الطيب الذي ليس فيه خبيث، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)، َ وبين سبحانه وتعالى حالهم في أيمانهم الكاذبة، ويبين أنهم يخافون ويفرقون، (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57).

وإن منهم لمن يعرض بالنبي في الصدقات ليعطي منها (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)،

ولقد بين الله سبحانه وتعالى مصارف الصدقات فقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60).

ولقد كان المنافقون يؤذون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكل أنواع الأذى، فكانوا من إيذائهم قولهم:(. . . أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61).

ص: 3216

ومن اختلاق المنافقين الكذب أنهم يحلفون ليرضوا المؤمنين، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين، يحادون الله ورسوله ومن يحاد الله فله نار جهنم، هم يرون أدلة قائمة ويعلمونها، ولكن لَا يذعنون للحق إذا تبين لهم، ويحذرون أن تنزل سورة تخبرهم بما في قلوبهِم، (. . . قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65).

وقد ذكر سبحانه وتعالى ضلال المنافقين وأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.

ثم بين الله تعالى العذاب الشديد الذي يلقاهم، وأنهم كالذين من قبلهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم وخاضوا في الفتن كما خاضوا، ثم بين لهم العبرة في قوم عاد وثمود، وقوم إبراهيم وأصحاب الأيكة والمؤتفكة أتتهم رسلهم بالبينات، ونزل بهم ما نزل، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ثم بين سبحانه وتعالى علاقات المؤمنين في مقابل علاقات الكافرين وِالمنافقين فقال: (وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71).

وبين من بعد ذلك ما وعد الله به المؤمنين من جنات ونعيم خالدين فيها ورضوان من الله أكبر وذلك هو الفوز العظيم.

وأمره الله بأن يجاهد هؤلاء المنافقين والكافرين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73).

ولقد كان المنافقون يفترون على النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الفتنة بالقول على المؤمنين، (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74).

ص: 3217

وبيَّن سبحانه وتعالى أخلاق النفاق، إذ يعاهدون الله لئن آتاهم من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به، وتولوا وهم معرضون، وبذلك زادوا نفاقا لأن نفوسهم تمرست به.

وإن أولئك المنافقين حياتهم سخرية بالمؤمنين، فالذين يطوعون أنفسهم في الجهاد والذين لَا يجدون إلا جهدهم يلومونهم، ويسخرون منهم، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ككل رسول يطلب لهم الهداية، وككل قائد يستغفر لهم لكي يقربوا بدل أن تبعد نفوسهم. ولكن الله تعالى بين أنه لن يغفر الله لهم (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80).

وإذا خرج النبي لجهاد عام، كما في غزوة تبوك تخلفوا وفرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، (. . . وقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشدّ حَرًّا لَّوْ كَانوا يَفْقَهُونَ).

بعد ذلك كشف الله أمر النفاق وأمر الله تعالى نبيه أن يقول: (. . . لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84).

وإنهم كلما نزلت سورة تدعو إلى الجهاد (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87).

وقد بين الله سبحانه وتعالى حال الرسول والذين معه يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وبيَّن حكم ذوي الأعذار فقال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى

ص: 3218

الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92).

وقد بيَّن بعد ذلك أن الذي يؤاخذ الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم فهم لَا يعلمون (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94).

ومن مظاهر النفاق كثرة الحلف ولذا قال الله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96).

بعد ذلك بيَّن الله تعالى أحوال الأعراب، وهم الذين وجد المنافقون فيهم مرتعا خصبا، فذكر أنهم (. . . أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98).

وقد أنصف الله تعالى بعض الأعراب وهم الذين آمنوا، (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99).

وقد ذكر سبحانه وتعالى السابقين من المهاجرين والأنصار الذين كانوا دعامة الإسلامِ وقوته (. . . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100).

عاد سبحانه وتعالى إلى حديث المنافقين فذكر أن أكثرهم حول المدينة وفي المدينة الذين مردوا على النفاق وتربوا عليه، وعلىٍ رأسهم عبد الله بن أُبي (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ

ص: 3219

نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102).

وقد أمر الله تعالى بعد ذكر المنافقين أن تؤخذ الزكاة، فهي كاشفة النفاق، ونماء المؤمنين وطهارتهم. ثِم فتحِ باب التوبة للآثمين وحث على العمل:(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105).

وبيَّن سبحانه وتعالى أن من الذين خوطبوا بالدعوة مرجون لأمر الله إما أن يعذبهم دماما أن يتوب عليهم والله عليم حكيم، وأن المنافقين الذين حول المدينة قد اتخذوا مسجدا يتلقون المعلومات من أعداء الله والرسولِ، والذي سمي مسجد الضرار، وقال الله تعالى فيه:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110).

وبعد هذه الآيات التي ذكرت المنافقين، ومن يدورون حول فلكهم، ومن يتقربون منهم - ذكر الله تعالى المؤمنين الصادقين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (. . . يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111).

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أوصافهم البرة، فقال سبحانه:

(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112).

ص: 3220

وقد ذكر الله تعالى أنه ما كان لنبي أن يستغفر للمشركين، ولو كانوا أُولي قربى، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، وإن الذين اهتدوا ما كان الله ليضلهم بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم.

وقد بيَّن سبحانه سلطانه في ملك السماوات والأرض، ثم بين سبحانه توبته على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والمهاجرين الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم.

وكان من المؤمنين الصادقين من تخلفوا في غزوة تبوك من غير عذر من الأعذار التي ذكرها القرآن فرباهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو خير المربين - بالإعراض عنهم حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لَا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم.

وقد أمر الله المؤمنين الصادقين بأن يلتزِموا. وقد وضع سبحانه وتعالى مبدأ ثانيا مقررا فقال: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121).

وإن الله خفف على المؤمنين بألا ينفروا جميعا، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.

ثم أمر بجهاد الذين يلونهم من الكفار؛ لأنهم يحادونهم فقال: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

ص: 3221

وقد ميز الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين عند نزول آيات الله تعالى فقال سبحانه: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126).

يقول سبحانه في المنافقين (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127).

وختم الله تعالى السورة بأنها رحمة في جهادها، وكشف المنافقين بهاتين الآيتين اللتين قيل عنهما أنهما نزلتا بمكة، وهما قوله تعالى:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129).

* * *

معاني السورة الكريمة

قال تعالى:

(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

ص: 3222