الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذهب موسى - كليم الله تعالى - إلى الجبل في الميقات الذي وقته الله تعالى، وقيل: إنه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والله أعلم بالميقات. قال تعالى:
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
…
(143)
استأنس كليم الله بربه
وطمع الكليم في أن يرى حبيبه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، أي افتح بصري بالرؤية لأنظر إليك، أو تبين لي أنظر إليك.
قال الله الذي كلم موسى، وحسب موسى أن الرؤية كالكلام، وإن كان الكلام من وراء حجاب، وقد شجعه على طلب الرؤية أنه سمع الكلام، ومن سمع الكلام الجميل الجليل طمع في رؤية من يكلمه.
قال الله - تعالى - له: (لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
لن للنفي، المؤكد، وقال الزمخشري: إنها للنفي المؤبد، أي لن تراني أبدا، وهذا على مذهبه من أن رؤية الله تعالى غير ممكنة، ونحن إذا قلنا: إنها لتأبيد النفي، فإن ذلك موضوعه في الدنيا، أما في الآخرة، فأمرها عند علم الله وهو العليم بما فيها، والحياة فيها غير الحياة في الدنيا، وما يكون مستحيلا في الدنيا، أو ما يُرى كذلك لَا يكون مستحيلا في الآخرة والله بكل شيء عليم، وفسر بعضهم قوله تعالى:(لَن تَرَانِي)، أي لن تستطيع رؤيتي.
وفد استدل الجماعة على أن رؤية الله ممكنة وإلا ما طلبها موسى، وقد علقها الله تعالى على استقرار الجبل وهو أمر ممكن فهي ممكنة.
ولنترك الأقوال في ذلك، فليس القرآن موضع جدل، وهو منزه عن ذلك، وفوق جدال المتجادلين.
قال تعالى: (لَن تَرَانِي) وقد علمت قول الناس في ذلك، ثم كان الاستدراك تلطف لموسى، وتقريب له لمعنى نفي الاستطاعة، فقال:(وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، والجبل أقوى وأشد وأضخم من موسى فإن استقر حين تجلى الله وبزوغ النور الإلهي فسوف تراني، ولكنه إن لم يستقر فإنك لن تراني.
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أي فلما ظهر نور الله على الجبل متجليا له (جَعَلَهُ دَكًّا)، أي مستويا بالأرض، وكان لذلك ما يثير الفزع في نفس موسى (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)، كأنما أصابته صاعقة، وغشى، (فَلَمَّا أَفَاقَ) أحسَّ بأنه طلب ما ليس له، وما هو فوق طاقته البشرية، وما لَا يتحقق في الدنيا - استغفر ربه، وسبحه، فقال:(سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).
تاب موسى من هذا الطلب الذي تبين له أن الله لَا يجيبه في الدنيا، وما كان ذلك خطيئة ارتكبها، ولكنه خطأ لَا ذنب، ولكن النفس المؤمنة التي تحس تستكثر خطأها، وتستقل صوابها، أحس أنه ذنب يتاب منه، وما هو بذنب، وكذلك استتابة المرسلين تكون من أخطاء تغتفر، بل لَا حساب عليها، ولكن يعظم أمرها في نفوسهم فيتوبون.
وأكد عليه السلام استغفاره، وكمال إيمانه فقال:(وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، أي ببعدك عن الشبيه، وأنك منزه عن كل نقص، وأول المؤمنين بأنك لَا تُرَى في هذه الدنيا.
وقد استجاب الله تعالى لاستغفاره وتوبته النصوح وقال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
نادى الله تعالى نبيه موِسى، ويبين ما ميزه به على أهل جيله، وعلى كثير من الأنبياء ناداه (يَا مُوسى) وفي النداء بالاسم نوع إدناء وتقريب، وإبداء للمحبة، والدنو منه. (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)، أي اخترتك مفضلا لك على الناس، فـ (اصْطَفَيْتُكَ) متضمنة معنى التفضيل، ولذا تعدى بـ (عَلَى)، وقوله:(بِرِسَالاتِي)، وهي جمع رسالة، وجمعت لشمول شريعة التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام من عقائد التوحيد والتنزيه وشرائع الزواجر الاجتماعية من قصاص وحدود، وشرائع مدنية في معاملات الناس وتحريم الربا، وأحكام الأسرة؛ وبعبارة أعم في التوراة شرائع كثيرة جامعة ضمت رسالات. وقوله تعالى:(وَبِكَلامِي)، أي بكوني اختصصتك من بين الأنبياء بأن كلمتك من وراء حجاب، وليس ذلك دليلا على فضله المطلق عليهم، بل هو من هذه الناحية وليس فضلا من كل النواحي.
وقال تعالى بعد بيان اختصاص موسى بأنه كليم الله، واختياره للرسالات كاملة وإن لم تكن النهائية (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ)(الفاء) هنا فاء الإفصاح، أي فإذا كنت قد اخترتك من بين الناس بالرسالات وبكلامي، فخذ ما أعطيتك، واقنع به، (وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) الذين تظهر النعم عليهم، ولا تطلب الزيادة على ذلك بالرؤية، فإن هذا ليس لك.
* * *
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى ما أرسله الله لموسى من رسالات فقال:
(وَكتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ) الألواح هي ما اشتملت عليه التوراة.
وقوله تعالى: (وَكتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ)، فسر بعض رواة الحديث بأن الله تعالى كتب على هذه الألواح، فقد ذكر الترمذي أنه قبض عليه جبريل بجناحه فمر به في العلا وأدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله تعالى له الألواح.
وإنا لَا نرد خبرا إذا ثبتت صحته عن الرسول، ولا نعلم مقدار صحة هذا، وإن الذي نراه في هذا أن (كَتَبْنَا) معناه فرضنا وشرعنا شرعا ثابتا مقررا ومفروضا في الألواح، وقد تكون قد ألقيت عليه مكتوبة في الألواح.
وقوله: (مِن كلِّ شَيْءٍ)" مِنْ " فيها بيانية، أي كتبنا له كل شيء في أمر الشرع من حيث العقيدة، ومن الشرائع المختلفة. وتكون موعظة، وتفصيلا لكل شيء فيها بيان لنوع ما في هذا الذي كتب وفرض، ففيه العظة والاعتبار بما فيها من أصل التكوين، والإخبار عن الأنبياء الذين سبقوه، وفيه تفصيل أحكام الشرائع تفصيلا مبينا موضحا، لَا يخفى على الذين يدركون، ويطلبون الحق.
وقوله تعالى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأخذُوا بِأحْسَنِهَا) أي يختاروا أحسنها، وكل حسنٌ، وأحسن، أي اطلبوا الأحسن فيها، فإذا كان واجبا فيه تخيير، فاختاروا الأحسن، فإذا خيرتم بين العقاب والعفو فاختاروا العفو، أو نقول: إن الأحسن وصف للتكليفات كلها، إذ كلها بلغ الأفضل في ذاته، وأفعل التفضيل ليس على بابه بل المراد الأخذ بها كلها، لأن كلها أحسنها، كقوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا