الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا حال الأسرى إن آمنوا واستبدلوا بالكفر إيمانا، والأكثرون منهم كانوا كذلك، ومنهم من خانوا ما عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يدعو الجموع ضد، فمنَّ النبي صلى الله عليه وسلم من غير فداء، فعاد ورفع عقيرته بالدعوة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وألب الناس عليه داعيا لأخذ الثأر؛ ولذا قال:
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(71)
الزمخشري لَا يعد الضمير يعود على الكفار الذين يخونون العهود في المستقبل، والذي خانوا عهد الله بارتدادهم، ويذكر أنه ربما يعود على الأسرى الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكفوا ألسنتهم عنه فلم يكفوها وألبوا الناس، وهؤلاء خانوا.
ويلاحظ أن الله تعالى يقول: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ) أي وسوست لهم شياطينهم بالخيانة وأرادوها، فإن أرادوها فخذ حذرك وَلا تأس عليهم، فقد خانوا الله تعالى وكفروا به وأشركوا به الأوثان وهموا أن يقتلوك، فأمكن الله تعالى أهل الإيمان منهم، وأعلنوا بذلك كلمة الحق والإيمان.
وإن مضمون النص يجعلني أميل إلى أن الضمير لَا يعود على الأسرى، ولا يعود على من ذكر الإيمان وردده من المشركين وأظهروا أنهم يريدونه تقربا للمسلمين.
وإنما أميل إلى الذين جنحوا للسلم، وأمر الله نبيه أن يجنح ولا يمنعه أن يحاولوا خديعته؛ لأن الله حسبه، وفي هذه الآية بين الله تعالى لنبيه أنه يجب أن يستمر غير ملتفت لهم إن أرادوا خيانة بعد أن جنحوا للسلم، ولكن أرادوا خيانتك، وألا يهتم لخيانتهم في ذاتها، وألا يأسى على خيانتهم بعد أن جنحوا للسلم والله تعالى ينبه نبيه بأنهم إن أرادوا خيانتك بأن هموا بالانقضاض على المؤمنين، فإنهم قوم من طبعهم الخيانة فقد خانوا الله تعالى من قبل بأن عبدوا الأحجار والأوثان وهموا بأن يقتلوا الرسول، أو يحبسوه أو يخرجوه، وخانوا الله
تعالى بخيانة أهله فلا تأس عليهم، والله من ورائهم محيط؛ ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله:(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بخبايا نفوسهم، وما تحدثهم به خواطرهم، وبنزعات نفوسهم، وقد رتب لهم سبحانه ما يصلح لهم بمقتضى علمه وحكمته، فهو حكم من يضع الأمور في مواضعها، ويدبر لك بحكمته، فلا تخش وبالهم، والعاقبة للمتقين.
* * *
ولاية المؤمن للمؤمن وولاية الكافر للكافر.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
* * *
المؤمنون أمة واحدة، وولايتهم واحدة، فلا ولاية للمؤمنين إلا من المؤمنين، ولن يجعل الله للمؤمنين على الكافرين سبيلا، وأكد الله تعالى هذه الوِلاية ومنع غيرها، فقال تعالى:(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)، وقد نهى الله تعالى عن كل مدارة للكافر يكون فيها نصرة له، وانتصار به، أو اتخاذه بطانة يعرف منها أسراره وخفايا أموره، فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون فريقين مؤتلفين متوادين متحابين قد عقد النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخاة التي قد صارت سنة يجب اتباعها إلى اليوم.
ولقد أكد سبحانه وتعالى الولاية بينهم مع افتراق كقبائلهم وفخوذهم وبطونهم فقال تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) وصف الله المهاجرين بأنهم آمنوا إيمانا لقوا فيه الأسى والعذاب فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، وصبروا وصابروا، وبأنهم هاجروا، أي تركوا ديارهم وأسرهم وأموالهم وخرجوا من ديارهم وهي الحبيبة إليهم، فنالوا فضل الهجرة بترك الأحبة في سبيل الله، وما هاجروا للسياحة والراحة بل خرجوا ليحملوا مشقة أعظم مما يحملوا، ولذا قال تعالى فيهم:(وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) جاهدوا الهوى في النفس والركون للراحة، وحملوا السيوف مقاتلين في سبيل الله، وبذلوا أموالهم التي كسبوها بكدهم من كسبهم بعد الهجرة بعد أن فقدوا أموالهم التي كسبوها قبل الهجرة، وكان من هؤلاء من يخرج من كل ماله لله ورسوله، ومنهم من يحمل من ماله نفقات جيش، كما حمل عثمان نفقات جيش العسرة.
وكل ذلك في سبيل الله تعالى لَا يرجون إلا ما عند الله، وهؤلاء أولياء لمن يماثلون خيرا، وهم الذين آووا ونصروا وتحلوا بما تحلى به إخوانهم المهاجرون،
فآمنوا الإيمان الكامل، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم فضل الهجرة، فقد عُوِّضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
هؤلاء الأطهار قرر الله تعالى أن بعضهم أولياء فقال سبحانه وتعالى في خبر (إنَّ)(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين، والأنصار فقد اجتمعت فيها المودة، فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار وجمع الجهاد معنى النصر، والتعاون بالجهاد في سبيل الله، وإن هذه الولاية كانت تتضمن مع ما ذكرنا معنيين آخرين:
أولهما - أنهم يقتسمون الغنيمة بالسوية على النظام الذي قرره الله تعالى في الغنائم، لَا فضل لأنصاري على مهاجري، ولا فضل للمهاجر على الأنصاري، ولما أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم، وجد بعض الأنصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنها لعاعة (1) مال تألفت بها قلوب قوم، وتركتكم لدينكم "، ودعا للأنصار دعوة ختمها بأنه من الأنصار لولا الهجرة، " ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ".
ثانيهما - أن هذه الولاية التي كلَّلها رسول الله بالمؤاخاة كانت تثبت الميراث بين المهاجرين والأنصار إذا مات أحدهما من غير قريب مسلم، فالمؤاخاة تثبت الميراث، كأنها تحل محل بيت المال.
(1) اللُّعاعة: البقية اليسيرة من الشيء، ونص الرواية عند أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدري (11322).
هذه الولاية بين المهاجرين والأنصار، والإيمان وحده من غير هجرة يوجد ولاية الإيمان لَا موجد ولاية قسم الغنيمة والميراث بالمؤاخاة؛ ولذلك نفي هذا النوع من الموالاة عن الذين يؤمنون ولم يهاجروا نعمة الجهاد المشترك بين المهاجرين والأنصار ونعمة المؤاخاة؛ ولذا قال تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِن شَيْء حَتَّى يُهَاجِرُوا).
عندما شاع أمر الإسلام، وذاع في البلاد الربية مع استمرار الدعوة والجهاد قد آمن ناس ولم يهاجروا وقد رغب الإسلام في هجرتهم، ليكثر بهم جمع أهل الإيمان، وليكون الجهاد متكاملًا أمام أهل الشرك، ولكي لَا يستضعف المشركون يستخذي المؤمنون لقلتهم وضعفهم؛ ولذا قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97).
وقد ذكر الله تعالى في هذه مقدار ولايتهم، وهي ثابتة لأنها ولاية الإيمان، ولكن لَا تكون لهم ولاية قسمة الغنيمة، ولا الولاية التي تثبت بالإخاء، ولذا قال تعالى:(مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِن شَيْء) أي ليس لكم من ولايتهم في الغنائم أي شيء وهذا النص يومئ إلى أنه يحسن بهم أن ينضموا لجماعة المؤمنين ويتناصروا.
ولقد جاء في تفسير الحافظ ابن كثير ما نصه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، وقال: " اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا ديارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى
الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا - أي الإسلام - فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا - أي الإسلام والجزية - فاستعن بالله وقاتلهم " (1).
هذه رواية مسلم، وظاهر أن الولاية المنفية هي ولاية الاشتراك في قسمة الغنائم وما يترتب على الإخاء، أما الإيمان فولايته قائمة ثابتة وهي ولاية النصرة، ولذا قال تعالى:
(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ).
إن هذه ولاية الإيمان وهي توجب النصرة على أساس أن المؤمنين جميعا إخوة، كما قال تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10).
فحيثما كان المؤمن فهو في ولالة المؤمنين مهما تختلف الديار، وتتباعد الأقطار، ولذلك إذا استنصر المؤمن؛ أي طلب النصر - وجبت نصرته، فالسين والتاء للطلب أي طلب النصرة، في دفع عدوٍّ دَاهِم، أو في حرب عادلة؛ ولذا قال تعالى:(فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) والاستجابة لطلبه، وقد استثنى الله حالا واحدة، وهي أن يكون ثمة ميثاق، أي عقد موثق بمواثيق الله تعالى، وميثاق وزن مفعال من (وثق)، فأصله (مِوْثاق) قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، والمعنى عليكم النصر، أي فإن دعوكم فعليكم الإجابة إلا أن يكون النصر الذي تنصرونهم فيه يكون على قوم بينكم وبينهم ميثاق، أي لَا تنصروهم على قوم لهم ميثاق، ولكن يجب أن تدفعوا عنهم كل من يعتدى عليهم، ولو كان بينكم وبينهم ميثاق، لأنهم ينقضون الميثاق بمجرد أن يعتدوا على مؤمنين، فلا عهد مع الاعتداء على أهل الإيمان.
(1) مختصرا من حديث طويل رواه مسلم: الجهاد والسير تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته (1731)