الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنه إذا كانت التقوى قوية، تكون إرادتها للحق، وعزيمتها في الخير عزيمة صادقة، لَا يقوى الشيطان على قهرها، أما النفوس المضطربة بالباطل التي فسدت فطرتها، فإن الشيطان يجد السبيل لبث شروره وإغرائه وفتنته وخديعته فيها؛ فإنها لفساد فطرتها واضطراب فكرهم - تجد فيها الشياطين داعيتهم، وهذا معنى جعلهم أولياء للشياطين، فمعنى قوله تعالى:(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي أنهم لإفساد فطرتهم المستقيمة وجعلها معوجة، والاعوجاع دائما، يفتح ثغرات لهذا الشر، وتلك الوسوسة التي بها يكون الشياطين أولياءهم، وإنما جعل الله تعالى الولاية ليست في النفوس الإنسانية، وإنما جعلها للشياطين أنفسهم، فقال سبحانه:(إِنَّا جَعَلْنَا الشيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)؛ لأن الشياطين يفعلون والنفوس الإنسانية تتقبل، واعوجاجها يسهل دخول الشر فيها، والولي هنا هو الموالي والنصير المتصل، فالله - سبحانه - جعل الشياطين موالى وأحباء وأصدقاء للذين لَا يؤمنون، الذينِ ليست قلوبهم مؤمنة مذعنة للحق؛ ولذا ذكر الفعل المضارع بقوله:(لِلَّذِين لَا يُؤْمِنُونَ)، أي لمن ليس من شأنهم الإيمان والإذعان للحق، فالكافرون أولياؤهم الشياطين والطاغوت.
وإن من إغواء الشياطين لبني آدم، أن ينسبوا أفعالهم إلى الله، وإلى أتباع آبائهم؛ ولذا قال تعالى:
* * *
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
…
(28)
* * *
أشرنا إلى ما كان يفعله المشركون في الحج، وما كانوا في هذا إلا متبعين لما كان عليه آباؤهم، وفي هذا يتبين ما جاء عن مفسري التابعين في هذا الموضوع.
الفاحشة: الأمر الزائد عما تقبله العقول المستقيمة، والاحتشام الإنساني والحياء الخلقي، ولا شك أنهم بطوافهم عراة، يرتكبون أفحش الأعمال الخارجة عن حدود العقل، والاتزان، والحياء الفطري.
ولقد روى مجاهد في ذلك، أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فكانوا يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، وكانت المرأة تضع على قُبُلها شيئا تستره به،
فأنزل الله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) وقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك: وكانت العرب ما عدا قريشا، لَا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لَا يطوفون في ثياب عصوا الله تعالى فيها، وكانت قريش، وهم الحمس (جمع أحمس) يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه لئلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوبا جديدا، ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئا يستره بعض الستر فتقول:
اليوم يبدون بعضه أو كله
…
وما بدا منه فلا أحله
" وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئا ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ".
وإن هذا الكلام يدل على أمرين خطيرين:
أولهما - أن ذلك كان يحدث من العرب مخالفا كل عرف، ومخالفا لكل تفكير سليم فما كان ليرضى أحدًا مثل هذا، وهو أشد أحوال الفحش في الأفعال! ثانيهما - ما يزعمون من أنهم لَا يطوفون بثياب ارتكبت فيها معاص لهم.
وكأن قريشًا لَا معاصي لهم، مع أن بعضهم ما كان يتحاشى المفاخرة بالمعاصي، فقد كان منهم من هو رجس في رجس. وإذا كان منهم من كان يمتنع من التدلي فيما يخدش مروءته كعبد المطلب، وأبي طالب، والعباس، فقد كان منهم أيضا من لَا يمتنعون عن بعض المعاصي، كالربا ونحوه.
وإنهم إذ يفعلون هذه الفاحشة يبررونها بأمرين:
أولهما - أمر يتفق مع العقل الجاهلي، وهو أنهم يقولون:(وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا)، ولو كانت فحشا، ولو كان آباؤهم لَا يعقلون شيئا ولا يهتدون.