الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أكد هذا المعنى بقوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْق وَالأَمْر تَبَارَكَ اللَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ).
" ألا " للتنبيه، وهي كثمرة، لما ذكر سبحانه وتعالى من أمر خلق الكون، وما يسير عليه فله وحده الخلق ولو الإنشاء والتكوين، والآمر فيه والسلطان عليه والمسير له والمدبر لبقائه، لَا إله إلا هو الحي القيوم.
فتبارك الله تعالى وعلت بركته سبحانه وتعالى على هذا الوجود، وهو أحسن الخالقين. وأفعل التفضيل ليس على بابه، أي أنه سبحانه وتعالى خلقه خلقا هو الكمال في الحسن والتنسيق، ولا خالق سواه حتى يقال أن خلق الله تعالى أحسن من خلقه! إنه عزيز حكيم.
* * *
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
(55)
* * *
كان الأمر بالدعاء بعد أن بين أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأن الله صاحب السلطان فيها، والأمر بالدعاء يشمل دعاء الله تعالى وعبادته وحده سبحانه، فقال تعالى:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
ادعوا ربكم: اعبدوه، فالدعاء مخ العبادة. ادعوه وحده؛ لأنه ربكم الذي خلقكم، ويربكم ويربيكم، ويدبر أموركم، ولا تدعوا مع الله أحدا، وادعوه تضرعا، أي في ضراعة وخضوع وتذلل إلى الله سبحانه وتعالى وخُفية " أى في خفاء مستترين غير مجاهرين، ولا معلنين، فإن الإعلان قد ترفقه برياء، وإن الله لَا يقبل الدعاء إلا أن يكون له وحده، فالعبادة له سبحانه وتعالى وحده لا يشاركه فيها أحد.
والدعاء كما قلنا يشمل العبادات من صلاة وصوم وأدعية فيها ذكر الله كثيرا، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر الله تعالى بأن يكون الدعاء خفية، وإن جهر لا يكون بإعلان وضجة، فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا،
فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ "(1).
وإن المأثور عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يدعون الله تعالى، ويعبدونه متسترين إلا ما يكون في جماعة، ولقد كانوا وهم في أعمالهم يدعون الله تعالى بالتوفيق والعمل الصالح، حتى وهم في المجاهدين يدرعون بالصبر، والالتجاء إلى الله تعالى ورجاء رحمته ونصرته، وهم في خيرهم يتسترون ولا يجهرون، لأن الستر يجعله خالصا لله، مخلصين له الدين، روي عن الحسن البصري أنه قال: " إن كان الرجل قد جمع القرآن وما يشعر به أحد، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْرُ وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان مع الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا، ولقد يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله يقول:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)؛ وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا وحكى عنه فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا).
وكان الدعاء " خفية " ذا فضل عظيم، لأنه مناجاة الله، وكأنه يُودع ربه سرَّه وعلانيته، وهو مظهر المحبة، وهو بعيد عن كل رياء، ولأن النية مطلوبة قالوا: إن الإشارة في الدعاء إلى السماء ليست مطلوبة، ونحن نقول:
إن الدعاء الخفي أفضل من الدعاء الجلي، بيد أن الدعاء بالجهر قد يكون مطلوبا كالتلبية، وفي هذه الحال تجوز الإشارة بالأيدي لأن ذلك انفعال ضارع. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويشير بيديه (2)، وقالوا: إنه كان يدعو وهو
(1) متفق عليه؛ رواه بهذا اللفظ البخاري: الجهاد والسير - ما يكره من رفع الصوت في التكبير (3992)، ومسلم بنحوه: الذكر والدعاء (2704). عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
من ذلك ما رواه البخاري: الحج - إذا رمى الجمرتين (1751).
على ناقته، فإذا مالت أخذ بزمامها بيد، واستمرت يده الثانية الكريمة ممتدة بالدعاء (1).
ويختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
إنه سبحانه وتعالى لَا يحب الذين يعتدون، أي يتجاوزون الحدود المحدودة عليهم، فيعتدون على غيرهم، أو يتجاوزون الأمور المفروضة عليهم، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، فتعدى الحدود أمر لَا يحبه الله تعالى، وقد يكون حراما، كالاعتداء على حق غيره، وقد ذكروا أن ذكر الاعتداء عقب طلب الدعاء يدل أن الاعتداء قد يكون في الدعاء.
والاعتداء في الدعاء كأن يقضي وقته كله في دعاء، ولا يقوم بواجب الحياة، كأولئك الذين ينقطعون للعبادة ويتركون أمر الحياة ولا يدبرون أمرها، فذلك اعتداء في الدعاء، وقد جىء برجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا عابدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ومن يؤكله، قالوا: أخوه يؤكله، فقال صلى الله عليه وسلم: أخوه خير منه. وكأولئك الذين ينقطعون في الزوايا، أو ما يسمونه الخانقاه، بحسبان أنهم يدعون الله تعالى ويعبدونه، فإن ذلك اعتداء في الدعاء وتجاوز لحد المطلوب، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سيكون قوم يعتدون في الدعاء "(2). ولعله سبحانه ينبئ بهؤلاء.
ولقد ذكر القرطبي وجوها في الاعتداء في الدعاء منها:
الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط، ومنها أن يدعو طالبا معصية، ومنها أن يدعو ما ليس في الكتاب والسنة.
(1) رواه النسائي: مناسك الحج - رفع اليدين بالدعاء في عرفة (3011).
(2)
رواه أحمد: مسند العشرة - مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (1486)، وأبو داود: الصلاة - الدعاء (1480).