الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورابعا - وتبين أن عدوى الشر تجيء من إخوان السوء، وهم الذي يمدون في الغي ويجعلون الضال يسير شاردًا عن هداه. وقد بين سبحانه وتعالى ذلك بقوله:
(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدونَهُمْ فِي الْغَي ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ).
وخامسا - أن ضلال الضالين إنما يكون بإغوائهم بطلب آيات يريدونها ويريدون أن يجتبيها لهم، ومصداق هذا قوله تعالى:
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(203)
.
هذه آيات بينات وهي تكشف معانيها من غير تبيين مبين، ولا تفسير مفسر، فهي كتاب مبين واضح، ولكن ما نذكر من بيان ليس تفسيرا، إنما ذكر لنسق القرآن الحكيم، وضرب في ناحية من إعجازه الذي لَا تتطاول إليه الأعناق، فهي تنهد إليه وتتسامى ولا تسمو، وتحاول ولا تصل.
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
العفو هو الزائد الميسَّر الذي يسهل أخذه، ويسهل إعطاؤه، ويسهل القيام به، فالنص داع لمن يعطي بأن يعطي السهل الذي يمكن المداومة عليه من غير ضيق وتبرم، كما قال تعالى:(. . . وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. . .)، ويقبل من الناس القليل، ولا يكلفهم ما لَا يطيقون من قول أو عمل، ويفعل اليسير من العبادات الذي يمكن المداومة عليه، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ "(1). وكان يقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب الديمة من الأعمال "(2). وإن العفو السهل اليسير يسهل المداومة عليه، والاستمرار في عمله، واقبل من الناس ما يسهل عليهم ولا تكلفهم شططا، واجعل العفو دائما شعارك، لَا تشتط في الطلب، ولا تعاسر الناس بل خذهم برفق؛ فإنك إن فعلت كسبت خيرهم، واجتنبت شرهم، وكنت أليفا مألوفا.
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
سبق تخريجه.
هذا هو الأمر الأول، أما الثاني فهو قوله تعالى لنبيه:(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)، أي أمر بالأمر الحسن في ذاته الذي تألفه العقول، ويألفه الناس، ويدركونه، وإن هذا يجمع كل ما أمرت به الشرائع الإلهية في معاملات الناس، وفي اجتماعهم، ولقد روينا في عدة مناسبات قول الأعرابي الذي سئل لماذا آمنت بمحمد فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل، والعقل يقول لَا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر لَا تفعل، والعقل يقول افعل.
وإن هذا النص الكريم يدل قطعا على أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وجاء به القرآن أمر متفق مع ما تأتي به العقول، وما أمر به هو حسن في ذاته، وما نهى عنه قبيح في ذاته، وقال بعض العلماء: إن ما كان حسنا في ذاته فهو من أمر الله، وما كان قبيحا في العقل فقد نهى الله عنه.
وقد أسرف ناس على أنفسهم وعلى الله فظنوا أن ما يستحسنونه أو يقبحونه فلهم أن يمنعوه، وإن أباحه الله، ولهم أن يوجبوه، وإن منعه الله:(. . . كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5).
وقوله في الأمر الثالث: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) أي أهل الحمق والجهل، الذين لَا يهتدون بهدى، ولا يسمعون مرشدا، بل يعملون على إيذاء الداعي، ويستهزئون بالمرشد، وهؤلاء ليس لهم إلا أن يعرضوا عن هؤلاء، كقوله تعالى:(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ. . .)، وكقوله تعالى:(. . . وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).
ولما نزلت هذه الآية قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك "(1)،
(1) رواه الحاكم في المستدرك: ج، 2، ص 563 برقم (3962).
وفى الحق إن هذه الآية جمعت محاسن الأخلاق وبينت محاسن الشريعة، وحكمت بين الناس (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
النزغ الإفساد، ومن ذلك قول الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام مخاطبا أبويه:(. . . وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزغً الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ. . .)، ويظهر لي من استعمال القرآن الكريم أن النزغ يكون إفساد ما بين من يجب الارتباط بهم بالمودة، وإسناد النزغ إلى الشيطان؛ لأنه يكون من وساوسه التي تكبر السيئات وتصغر الحسنات. وقد قالوا: إن النزغ والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد، وقد قال تعالى:(وَقُل رَّبِّ أَعُوذ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ).
وإن العلاج من نزغات الشيطان هو الاتجاه إلى الله تعالى أن ينزع من النفس أضغانها، وهمزات الشيطان فيها ليرتاح نفسيا، وليكون خيرا للناس، ويفتح قلبه لهم، وينبسط بالسرور لِلِقائِهم. ومعنى استعذ بالله، أي اجعل الله تعالى معاذك وملجأك، فإن الالتجاء إليه مُطْمَأن النفوس، ومكان استقرارها، ومن علا إلى ملكوت الله تعالى أحس بعلو عن الضغن وحسك الصدر، وأحس بأنه رباني لا ينزل إلى موضع التحاسد والتباغض.
وقول تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) فيه " إن " مدغمة في " ما " الدالة على توكيد ما بعدها. والمعنى إن ينزغنك بشدة وقوة نزغ مصدره الشيطان، فاستعذ بالله، ولأن (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ) فيها توكيد ألحقت به نون التوكيد الثقيلة، وكانت في معنى القسم، وقوله:(مِنَ الشَّيْطَانِ نَزغ) بتقديم الجار والمجرور يكون تأكيد أن النزغ من الشيطان وحده، فلا يكون إلا منه، وفي ذلك حض على مقاومته، والاستعانة على مقاومته، بكل ما يدفع شره، وفي ذكر أنه من الشيطان وحده بيان أنه شر مفسد ما بين الناس دائما.
وإذا كان الشيطان ينزغ دائما، فالمعاذ به هو الله، وهو وحده الفادر على دفع الشر؛ ولذا قال تعالى:(إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أي هو وحده السميع العليم، وذلك يزكي معنى الالتجاء إليه سبحانه وتعالى وحده فهو (عَلِيمٌ) بما نخفي النفوس، وما تظهره الألسنة، وهو سميع أي عليم علم من يسمع ومن يبصر.
ومن كان له الصفات العليا فهو الجدير بأن يلجأ إليه لتطهير النفوس من أدرا نها.
وهذا النص كقوله نعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36).
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لَا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق "(1).
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
إن المؤمنين الصادقين في إيمانهم لَا تتمكن منهم نوازغ الشيطان فيقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذكَّروا) ومعنى (اتَّقَوْا) جعلوا وقاية لأنفسهم من خوف الله والحرص على طاعته، بسبب ذلك (إِذَا مَسَّهُمْ)، أي إذا أصابهم إصابة تمس إحساسهم ومشاعرهم (طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ)
(1) رواه الحاكم في المستدرك (432) ج 1، ص 212، ورواه أبو يعلى والبزار، وزاد:" وَحُسْنُ الخُلُقِ ". وانظر: مجمع الزوائد (27621).
وفى قراءة (طيف من الشيطان) أي غضب، أو خيال يمس الوجدان من الشيطان بأن همز الشيطان في نفوسهم فسرعان ما يستيقظ وجدانهم العامر بتقوى الله تعالى فيتذكرون الله ويرجون ثوابه، ويخافون عقابه سبحانه، فإذا غشاوة الشيطان تزول عنهم، ويرجعون إلى ربهم، وكما قال تعالى:(فَإِذَا هُم مُّبْصرُونَ).
والتعبير بالموصول يفيد أن الباعث على ذكر الله تعالى، وحضوره في القلب واستيلائه على الإحساس والشعور بالواجب أنشأته التقوى.
والطيف والطائف معناه الغضب، ومنهم من فسره بإلمامة الشيطان، ومنهم من فسره بالهم والذنب، ومنهم من فسره بالذنب.
وإن الطائف يحتمل كل ذلك، وربما يشملها جميعا، وهي من الشيطان.
وقد يكون طائفٌ من الرحمن كما في قصة أصحاب الجنة التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20).
فالطائف يطوف من الشيطان بالغضب أو الذنب، أو الهم بالذنب، أو نحو ذلك.
ومعنى النص الكريم أن الذين اتقوا ربهم إذا هموا بالشر أو أرادوه سرعان ما يرجعون فيتوبون فيقبل الله تعالى منهم. وينطبق عليهم قول الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ. . .).
وإن أهل التقوى لَا يكونون بعيدين من ربهم، بل هم على مقربة منه، قلوبهم عامرة بذكره، فإن أصابتهم غمزة، فغفلوا، فسرعان ما يتنبهون، وسرعان ما يبصرون ويثوبون.
وقال تعالى في التعبير عن تنبههم للمعصية عندما تساورهم أسبابها: (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) عبر أولا بالمفاجأة للناظر لحالهم، وطائف الشر يطوف بهم، فهو
يفاجأ بقطع السير إلى الرذيلة، والمفاجأة بأنهم يبصرون، والإبصار هنا هو يقظة الضمير وقوة الوجدان وسيطرة النفس على أهوائها، وشبهت هذه الحال بالبصر الدائم المستمر، الحارس على النفس أن تنفعل لداعي الشيطان، وعبر بقوله:(هُم مُّبْصِرُونَ) بالتعبير بالجملة الاسمية، للإشارة إلى دوام البصر بالحقائق بإدراكها، وتغلبها على الأهواء والمنازع.
هذه هي النفس من داخلها تدفع شرورها وتعالج أسقامها، وإن الذين يجعلونها في معركة مستمرة وهم الذين يقاومون الفطرة، حتى إبصار الضمائر المستيقظة، هم إخوان السوء، وعشراء الشر؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
أشار الله - تعالى - في الآية السابقة إلى ما في المؤمن التقي من حراسة على النفس من أن يتدلى إلى الشر تدليا، فإذا جاءها طائف تذكروا الله وعظمته، وآياته الباهرة، فيدركون بفطرتهم كما يدرك المبصر بنصره، فلا يتردى في معصية، ولا يصل إلى أقصاها.
ولكن لَا يكون العيب من ذات نفوسهم، بل يكون من إخوان السوء الذين يزينون له سوء الأفعال فيحسبها حسنة، ويكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فأولئك هم الذين يقاومون فطرة المؤمن ويحاولون طمس النور فيها، ويزيدونها سيرا في الغي إن سارت فيه، فبينما الحق يذكرهم، إخوان السوء يمدونهم في الغي، ولذا قال تعالى:(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَي).
الإخوان هم الذين يرتبطون معهم بصلة نسب، أو صلة مودة أو صلة جوار أو يتصلون بهم بأي صلة إنسانية (يَمدُّونَهُمْ)، أي يسيرون يمدونهم بكل أسباب الطغيان والعتو. ويقال مده في عمله وزينه له وحسنه، ولذا كانت قراءة الأكثرين بفتح الياء وضم الميم، (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَي) والمد التزيين والتحسين والتشجيع، والغي هو الضلال والفساد، وكل ما يؤدي إلى الوقوع في مراتع الهوى.
وإنه توجد موازنة حكيمة، بين نفس متقية مؤمنة هدايتها من نفسها إذا جاءها الشر أو طائف منه قاومته بذكر الله وبصيرة المؤمن، وبصبر الإيمان.
والنفس الأخرى نفس شقية أغواها السوء، فلما طاف عليها طائف الشر، زينته وأغرى النفس إخوان السوء وزينوه وحسنوه، فأصرت على طائف الشر بتزيينهم، وتشجيعهم ومدهم، فهم في طغيانهم يعمهون وأن يستمروا على تحسين الشر، ولا ينهون تحسينهم وتزيينهم. فهم في غمرة من الشر لَا تنتهي، ولذا قال تعالى:(ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) أقصر معناها أنهى، و (ثُمَّ) هنا للدلالة على تَراخي الزمن واستمراره، فهي في موضعها، والمعنى ثم بعد استمرارهم في غيهم وضلالهم (لا يُقْصِرُونَ)، أي لَا ينتهون بل دائمون.
وهكذا الشر يستمر مع مقاومة الفطرة باستمرار دعاة الغي وأنصاره، وكان مدهم وتزيينهم مستمرا يغذي شجرة الشر، كما يغذي الماء القذر النبات الخبيث الذي لَا يكون إلا نكدا.
فالشر يتغذى بدعاة الشر، وينمو ويغلظ سوقه بهم، والفساد لَا يستشري في جماعة ويعمها بالشر إلا بالبيئة الفاسدة وبالرأي العام الفاسد المرذول، فإخوان السوء يمدون بالغي وسواء أكانوا آحادا، أم كانوا جماعات، وكلمة إخوانهم تنطبق عليهم.
وإن من يرد إصلاح جماعة لَا يصلح آحادها ابتداء إنما يصلح نية الإخوان الذين يسيطرون على جوها العام أولا، ثم يصلحون الآحاد، فيصلحون بالجولة الأولى.
وإنك إن علوت من رذائل الأفعال إلى فساد العقول، تجد إخوان السوء هم الذين يمدون في فساد العقول بعبادة الأوثان والكفر بالآيات؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
الشيء الغائب معظم مذكور بالخير في زعم الذين يسيرون وراء الأوهام، ولا يحكمون الحقائق في ذاتها، فكل مستور تتوهم فيه الأوهام، وتحاط به، وكذلك كان إخوان السوء يجيئون إلى تضليل الناس من وراء ما يستتر عنهم، فالغيب عن الناس لم تجئ من ورائه إلا الأباطيل.
بين أيدي الناس معجزة باهرة قاهرة تحداهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بسورة فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مفتراة فعجزوا، ومع ذلك طلبوا هم وإخوان الغي فيهم أن يأتيهم بآية غائبة لم تأتهم، فما دامت لم تأتهم فلها قدسية، فقال الله تعالى عنهم:(وَإِذَا لَمْ تَأتِهِم بِآية قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا).
أي إن الذي أغراهم بطلبها أنه لم يأت بهذه الآية، ولو سايرهم بمنطق تفكيرهم لتأدى بهم أنه إذا جاءتهم الآية وصارت حاضرة مهيأة بين أيديهم طلبوا آية أخرى وقالوا لولا اجتبيتها، وهكذا تتوالى الطلبات عبثا؛ لأن من لايؤمن لا يقنعه بشيء.
والأولى الوقوف عند حال معينة فاطمة للنفس، عن متطلباتها، والوقوف عندها. وقوله تعالى:(وَإِذَا لَمْ تَأتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) لولا بمعنى هلا للحض على الإتيان باية معينة طلبوها بذاتها، (اجْتَبَيْتَهَا)، أي اخترتها، وهي آية حسية، وقد جاءت من قبلهم مثلها فكفروا، وإذا كانت الجملة شرطية فمؤداها أنهم مطالبون بما لم يأتهم آية بعد آية، وما هذا شأن المؤمنين، فالدليل إذا كان مقنعا، فهو كاف وحده.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يرد عليهم بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
هذا هو الجواب الذي أمر الله تعالى به نبيه أن يجيبهم على الطلب الذي دفع إليه أوهامهم الباطلة وهو مكون من أجزاء ثلاثة:
الجزء الأول عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقول: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي) وخلاصته أن الآية يختارها لي ربي لَا أبدى عليه، ولا أعين له، وقد قصر الآية
على ما يوحى به الله، وحصره بـ " إنما " أي ليس لي أن أقترح عليه آية لم يأت بها، وبين الدليل على وجوب الطاعة فيما اختار، فهو ربي الذي خلقني وأرسلني، وهو أعلم بما يصلح دليلا لرسالتي وما لَا يصلح، وهو وحده الذي يوحي إليَّ فليس لي أن أقترح عليه، وإن كفرتم بآياته فقد كفرتم به، وفي هذا الجزء برهان صدق الآية التي تحداهم بها.
الجزء الثاني وصف الآيات. فقال تعالى: (هَذَا بَصَائِر مِن رَّبِّكُمْ) البصائر جمع بصيرة وأصلها من البصر وهي الرؤية والنظر ثم الإدرك والفهم ثم أطلقت على ما يؤدي إلى الإدراك أو هو آلته، فإطلاق البصائر على الآيات من قبيل المجاز؛ لأنها سبب إدراك الحقائق الربانية، والسبيل إلى معرفة الله تعالى وقدرته، ورسالاته الإلهية، فهي من قبيل إطلاق اسم السبب، وإرادة المسبب، وهو إبصار الحقائق الربانية، ومعرفتها.
وإذا كانت هي بصائر آتية من قبل الله تعالى فهو الذي يجتبيها ويختارها، ويريدها، وهي من ربكم الذي خلقكم وبرأكم، وهو أعلم بمن خلق ورلت وبرأ وهو اللطيف الخبير.
والجزء الثالث قاله تعالى في وصف هذه الآيات، وهو الذي قاله بقوله تعالى:(وهُدًى وَرَحْمَةٌ لقَوْم يُؤْمِنُونَ).
هذان وصفان وصف الله تعالى آياته، وأخصها القرآن، ففيه أمران جليلان ذا شأن في الرسالات الإلهية:
أولهما - فيه هدى يهدي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فهو يبين الهدى من الضلالة، والنور من الظلمات بما اشتمل عليه، وبدلالته الذاتية، وبإعجازه، وبأنه يهدي إلى الطيب من القول، ويهدي إلى الصراط الحميد.
وثانيهما - أن فيه الرحمة بما اشتمل عليه من شريعة حكيمة تصلح أمور الناس، وتذهب عنها الفساد، فهي بما شرعت من النظم في الأسرة، ومعاملات بين الناس، ومنع لأكل أموالهم بينهم بالباطل.
وإن هذه الهداية وتلك الرحمة لقوم من شأنهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى: (لِّقَوْمٍ يُؤْمِنونَ) فوصفهم بالجملة التي يتصدرها الفعل المضارع للدلالة على إيمانهم المستمر، المتجدد آنًا بعد آنٍ على وجه الدوام.
وذلك لأن شأن المؤمن أن يتجدد إيمانه، فيقوى بالعمل المستمر والمتجدد، فإن العمل الصالح يجدد الإيمان، فلو كان العمل فهو للإيمان كالماء العذب الفرات يغذي الإيمان كما يغذي الماء الزرع.
* * *
قراءة القرآن عبادة، وجزء من أكبر عبادة
(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن الآية التي تحدى بها العرب أن يأتوا بمثلها هي بصائر مبينة للناس الحقائق الدينية، ومثبتة لصدقها، وهي هدى ورحمة، وهي القرآن، ولا يمكن أن ينتفع بها بعد إعجازها بأن ينتفع بهدايتها ورحمتها إلا إذا قاموا بحقها عند قراءتها بالاستماع إليها، والإنصات لها، وتدبر
ما جاء فيها من تكليف هو رحمة للعالمين، ومواعظ، وعبر وقصص في ذكر
الأولين؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك:
(وَإذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمعُوا لَهُ وَأَنصتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
القراءة للقرآن عبادة من القارئ؛ لأنه يتلو كلام الله تعالى، وأي منزلة في القربى إلى الله تعالى أعلى من أن يكون متحدثا بحديث الله فهو يتكلم بكلام خالق الوجود، وتجري على لسانه عباراته جل وعلا، ويرطب لسانه بأطيب كلام، فهو عبادة؛ ولذلك وجب أن يكون متطهرا من الجنابة ويحسن أن يكون على طهارة كاملة. إن قراءة القرآن سمو إلى المكان الأعلى والمقدس الأقدس لمن تدبر موقفه عند القراءة ومقامه.
والاستماع إلى القراءة عبادة، إذا استشعر بأن الله تعالى يخاطبه بالقرآن من أعلى الملكوت، وهو إن يستمع يناهد إلى مقام رب العزة فيستمع إليه، أكاد أرى أن هذا مقام طهر، لَا يستمع إليه من به نجاسة من جنابة وإذا كان الفقهاء لم يصرحوا بهذا فإني أراه مقتضى مقام الطهر لمستمع أطهر قول في الاستماع افتعل من السماع أي طلب سماعه، والإقبال عليه، وتلقيه بقوة وتقبله وتقبل معانيه؛ ولذا قال بعض المفسرين: إن الاستماع هو تدبر المعاني، والاستبصار بها، وإدراك مراميها ومغازيها، فليس المراد مجرد السماع، بل السمع في تدبر وتفهم وتذكر واعتبار.
وقال تعالى: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) الإنصات معناه السكوت للاستماع والمراعاة، والإصغاء، فمعنى (أَنصِتُوا)، أي هيئوا أنفسكم للاستماع وأعدوها وراعوا ما تسمعون، وكان الإصغاء تقدمه للاستماع، بأن يفرغ النفس له، ويقدم عليه، كأنه مقدم علمي صاحب الكلام، وهو رب العالمين، ألم تر الناس وهم يقدمون على استماع كلام عظيم من عظماء الأرض في سلطانه، يستعدون وينصتون فكيف بكلام مالك الملك ذي الجلال والإكرام والإنعام.