الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال تعالى مردفا هذا الادعاء بما يدل على الدافع لهم على هذا الحلف (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَفونَ) الفَرَق: الخوف. الاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكنَّهمْ) هو استدراك من حلفهم، ويفيد عدم تصديقهم تأكيدا لقوله تعالى:(ومَا هم مِنكمْ) وخوفهم من ناحيتين، أولاهما خوفهم من المؤمنين من أن يعرفوا حالهم، وينكشف أمرهم، وهو مكشوف، وهم يظنونه مستورا، وكرارة المنافق دائما أنه يحسب دائما أن أمره مستور، وهو معلوم ولا يجهل كشفه إلا هو، والثانية أنهم يخافون أن يغامروا في جهاد مع المؤمنين، إذ يحسبون الجهاد مغامرة، لأنهم لا يؤمنون به، ولا يحسبون أن الجهاد حياة في عزة، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة، فيحسبون أن النهاية تكون عند الموت وأنهم يجعلون أنفسهم من المؤمنين، ولا يقولون أنهم معهم، بل يقولون إنهم من المؤمنين، وادعاؤهم أنهم منهم يتضمن أنهم مؤمنون، وأنهم جزء من المجتمع الكريم أو بعضه، ذلك إيغال في دعوى أن شعورهم كشعورهم، ولو مع ادعائهم ذلك يضيقون بجوارهم للمؤمنين، ويريدون أن يفارقوهم، ولذا قال تعالى:
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
(57)
الملجأ - الحصن، والمعنى لو يجدون ملجأ يتحصنون به في قمة جبل وذلك حصن طبيعي، أو قلعة يبنونها، وذلك حص صناعي، أو جزيرة يأوون إليها. (أَوْ مَغَارَاتٍ)، بفتح الميم وهناك قراءة أخرى بضمها (1)، وعلى قراءة الفتح يكون الفعل غار وعلى قراءة الضم يكون الفعل أغار، والمعنى مكان يختفون فيه عن الأنظار، ولذا قيل على الثقب في الجبل غار؛ لأنه يختفى فيه من يذهب إليه، فلا يراه السيارة.
(أَوْ مُدَّخَلًا)، وهو الطريق الخفي الذي يختفى عن الأعين، كالشِّعْبب بين جبلين، أو نحو ذلك من المسارب التي لَا يقتحمها الناس، ولا يقصدون إليها.
(1) قراءة (مغارات) بالضم، ليست في العشر المتواترة.
و (لو) في قوله تعالى: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) حرف شرط يقال له حرف امتناع لامتناع، وجواب الشرط (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)، أي لانصرفوا إليه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي لذهبوا إليه مسرعين، كالفرس الجموح، وكان التعبير بالجموح للإشارة إلى جموحه، وأنهم يشردون عن الطريق، فهم إن كانوا يجمحون هذا الجموح، موغلين في انحرافهم فكيف يؤمنون؟، ويخلعون رداء النفاق الدنس ويكونون مع المؤمنين يشعرون بشعورهم، ويحسون بإحساسهم؟.
ولماذا كانوا يتمنون أن يخرجوا؟، كانوا يتمنون ذلك لأنهم يضيقون ذرعا بالمؤمنين، يسوءهم عزهم وهو مستمر بعونه تعالى، وحياطته لهم، ولأن المؤمنين كشفوا أمرهم، ولأنهم يدعون للجهاد ولا يذهبون إليه؛ ولأن ذوي قرابتهم، وأولياءهم قد برموا بهم فضاق العيش، وما ضاق عليهم إلا لسبب ما أوتي المؤمنون من الخير. . . والله من ورائهم محيط.
* * *
قال تعالى:
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
* * *
النفاق أصناف وضروب، يعلو وينزل، وأعلاه من يظهر الإيمان بالله، ويبطن الكفر، وهؤلاء كانوا بالمدينة، وعلا شأن الإسلام، فكان من اليهود
والوثنيين هؤلاء الذين أعلنوا الإسلام خوفا، وأبطنوا الكفر، غيظا وعداوة وبغضا، ومن النفاق ألا يستقر الإيمان في قلبه كأُولئك الأعراب الذين قالوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. ومن الأعراب منِ كانوِا يأخذون ظواهر القرآن ولا يطيعون، كما قال تعالى:(الأَعْرَابُ أَشَدُّ كفْرَا وَنِفَاقَا وَأَجْدرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ. . .)، وكل هؤلاء تشملهم كلمة المنافقين، ولذلك كان الحسن البصري يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق؛ لأن عمله يناقض قوله، فكما أن من ينكر بقلبه ويؤمن بلسانه منافق، فكذلك من يعلن الإيمان، ويصدق بقلبه، ولكن يناقض عمله قوله، والإيمان كما يقول الجمهور من علماء العقائد، اعتقاد وعمل، وهو الإيمان الكامل عند جميع العلماء اتفقوا عليه.
يعد هذا نتكلم في معنى النص الكريم:
(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) اللمز: العيب فالرجل الهُمَزَة أو المرأة الُلمَزَة العيَّاب والعيَّابة، واللمز يشمل العيب باللفظ الصرِيح، ويشمل العيب بالتعريض والتلميح، والوخز في الكلام: وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، وقالوا إن اللمزة من يعيب في وجه من يعيبه ولو بلَحْن القول، والهمزة من يعيب في غيبه وفي غير محضره ولا يواجه من يعيبه.
والضمير في (مِنْهُم) يعود إلى المنافقين، و (مِن) تدل على التبعيض، وإنه عمل بعضهم، ويظهر أنه ليس من الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، بل هو من الذين يعبدون الله على حرف، الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11). وكذلك هؤلاء المنافقون الذين عابوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى فيهم:(فإِنْ أُعْطُوا منْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ).
(الفاء) تدل على أن ما بعدها بيان أو إشارة إلى نوع عينهم، وهو بيان لنفوسهم إن أعطوا من المال بحق رضوا واطمانوا، وقالوا إنها قسمة عادلة، واستقاموا على الطريقة، وإن لم يعطوا لعدم استحقاقهم سخطوا فهم طامعون في
أن يأخذوا بغير حق. و (إِذَا) - تدل على أن سخطهم أمر لَا يرتبط بمنطق الأمور، فهم فاجئوا أهل الحق به، والدليل على المفاجأة (إِذَا) فهي تدل على المفاجأة.
والمفاجأة تدل على أنه غير منطقي؛ لأن من يرضى بالحق عند العطاء، لا يصح أن يغضب إن منع بحق، ولكن النفس المنافقة تريد دائما أن تحتجز الخير لنفسها، ولا تلتفت إلى حق غيرها، فآية المؤمن أن يعرف حق غيره كما يعرف حق نفسه، ومن علامة المنافق النفسية ألا يفكر في حق غيره، فكل من لَا يلتفت إلى حق غيره فيه شعبة من نفاق.
ومما روي في معنى هذه الآية، ممن كانوا يلمزون في الصدقات أن أبا الجواظ من المنافقين في أعلى درجات النفاق قال: ألا ترون إلى صاحبكم، إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وقد فهم أنه يعيب رعاة الغنم قال له:" لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود ". فلما ذهب أبو الجواظ هذا قال صلى الله عليه وسلم: " احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون "(1).
وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لَا للدين وما فيه صلاح أهله.
وروى في الصحيحين عن أبي سلمة أن ذا الخويصرة واسمه حرقوص اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين، فقال: اعدل فإنك لم تعدل فقال صلوات الله وسلامه عليه: " قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ "، ثم قال:" إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء "(2).
(1) أشار المصنف رحمه الله: هذا المبحث مأخوذ من الكشاف للزمخشري.
(2)
رواه في البخاري: المناقب - علامات النبوة (3610) عن أبي سَعِيدِ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه، كما رواه مسلم بنحوه: الزكاة - ذكر الخوارج وصفاتهم (1046).
أبو مسلمة هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، من الطبقة الوسطى من التابعين، وهو الراوي عن أبي سعيد رضي الله عنه.