الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويحتمل أن المعنى أنها تكون في الدنيا صادرة عن نفوس طيبة مؤمنة، وتكون خالصة لله تعالى، وخالصة من كل إثم، أما غير المؤمنين فإن تناولهم لهذه الطيبات قد يكون إثم مبطئ من الخير، فحبطت أعمالهم، والاحتمالان جائز جميعهما، فيكون المعنى خالصة يوم القيامة لهم، وخالصة من الآثام في الدنيا، وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته:
(كَذَلِكَ نُفَصَلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، أي كهذا البيان الذي بينه تعالى في هذا الشأن يفصل، أي يبين الآيات القرآنية والكونية لقوم من شأنهم أن يعلموا، فلا تغطي غواشي الأوهام والأهواء قلوبهم، فيدركون الحق ويعلمون بنور بصائرهم، ومن شأنهم أن يعلموا؛ ولذا عبر بالفعل المضارع والله تعالى أعلم.
* * *
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(33)
* * *
حرم أركون أو بعضهم اللبس في الطواف، وحرموا بعض الأطعمة، وأباح الله تعالى ذلك للمسلمين في غير إسراف ولا لتفاخر، بل بتجمل وتستر، بعد ذلك بين الله ما حرمه على الناس، وتحريمه مستمد من الفطرة؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ما حرم والفطرة تحرمه. قال عز من قائل:(قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (قلْ)؛ لأنه مبين شريعة القرآن، والمبلغ لها، وبين لهم قصر التحريم على الفواحش والإثم والبغي، والشرك والكذب على الله.
و (إِنَّمَا): للقصر، أي أن التحريم مقصور على هذه المحرمات كلها، وأهل الشرك ما كانوا يتحرجون عنها بل ارتكبوها كلها، وقال سبحانه:(حَرَّمَ رَبِّيَ) للإشارة إلى أن المحرِّم هو رب الوجود ورب الإنسان الذي يعلم الفطرة، وفى ذلك إشارة إلى أن الذي حرم هذا، إنما حرمه متسقا مع الفطرة التي فطر الناس عليها، وهو رب كل شيء، والفواحش هي الأمور التي تفحش وتزيد على
الفطرة، وهي تشمل كل المعاصي، وخصوصا كبائر الذنوب فتشمل كل الموبقات المفسدة للنفوس والجماعات، وبذلك كل ما يجيء من إثم وبغي يدخل في عمومها، ويكون ذكر الإثم والبغي، تخصيص بعد تعميم، فيكون العطف عليها من عطف الخاص على العام.
وقد نقول: إذا اجتمعنا خصص كل واحد بمعنى، فتخصص الفواحش بالمعاصي الصارخة التي تفسد النفس والمجتمع كالزنى، والخمر، والربا، وغير ذلك، وبعضهم خصصها بالزنى وما يتصل به من قذف للمحصنات وغير ذلك والفواحش على معناها العام والخاص يحرم ما ظهر منها وما بطن، وما يظهر منها وما يعلن، وجريمته جريمتان جريمة الفعل، وجريمة الإعلان، وما بطن ما استتر كاتخاذ الأخدان، ويشمل ما بطن فسق القلوب وذلك بالعزم على فعل هو شر في ذاته، ولكن يحول دون تنفيذه أمر فوق إرادته فهذا يكون معصية، ولا يدخل في ضمن حديث النفس الذي تجاوزه الله عن أمة محمد؛ لأنه حدث ونوى واعتزم التنفيذ ولكن حيل بينه وبينه بغير إرادته وعلى رغمه، وقد تكلمنا في ذلك فيما مضى والإثم ذنب لَا يتجاوز أذاه فاعله، فهو يبطئه عن فعل الخير، وآثامه على نفسه كشرب الخمر، وتناول الآفات التي تضر نفسه، ولا تتعدى إلى غيره، وإن كانت التفرقة بينهما في بعض المجتمعات عسيرة، والبغي هو المعصية التي تتعدى إلى غيره، ووصفه سبحانه بقوله:(وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ولا يكون البغي إلا بغير الحق، وهو تنبيه إلى ما يتضمنه البغي فهو يتضمن إثم التعدي، وإثم أنه فعل غير الحق فهو تصريح بما هو قبيح في ذاته.
ومن البغي أكل أموال الناس بالباطل في الربا، والرشوة والسحت ومن البغي أكل مال اليتيم، ومن البغي النميمة والغيبة، وأشد البغي الحكم بغير ما أنزل الله، والحكم بين الناس بالباطل ومن أفحش البغي ظلم الحكام للرعية والغلظة عليها، وإرهاقها، وإيذاؤها في حرياتها، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم مَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق
به " (1) هذا هو القسم الأول مما حر مه الله تعالى وهذا القسم الآتي داء الشر، ولذا قال تعالى:(وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).
هذا أشد المحرمات، وهو محرم بأمر الله، ومحرم ببديهة العقول، حتى لقد قال العلماء: إن وحدانية الله تعالى أمر تصل إليه العقول بالبديهة أو النظر القريب.
قال تعالى: (وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ)، أي أن تجعلوا شريكا لله تعالى في العبادة شيئا، أو جحرا، أو شخصا، لم ينزل الله به سلطانا، ويقول العلماء: إن السلطان هنا الحجة أو الدليل.
وأرى ما رأوا، ولكن في التعبير عن الحجة بـ " سلطان " إشارة إلى معنى أن هذه الأوثان وما شابهها لَا قدرة لها، ولا تثبت أن لها قوة تنفع وتضر، ومهما يكن، فإنهم يعبدونها بالأوهام المسلطة من غير سلطان من حجة أو دليل، ومن غير أن يعرفوا بالعيان أن لها سلطانا في الأفعال أو التوجيه في الكون، إنما هي الأوهام التي تصورها صالحة للعبادة مع الله تعالى لَا شريك له.
إن من الأمور التي حرمها الله تعالى أن نقول على الله مفترين؛ ولذا قال تعالى: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
هذا ثالث نوع من أنواع المحرمات، وهو الافتراء بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون أن الله حكم به وقاله أو شرعه، كتحريم بعض الأحكام، وتحريم لبس اللباس في الطواف، ويقولون أنه من عند الله، وما هو من عند الله. وكما قال الله - تعالى - في الآية السابقة:(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّه أَمَرَنَا بِهَا)، فذلك افتراء، وهو من أشد الافتراء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّه كذِبًا. . .).
* * *
(1) رواه مسلم: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1828)، وأحمد: باقي مسند الأنصار - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24101).
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
* * *
لقد فعل الناس ما فعلوا في الدنيا منكرين ما أنكروا من بعث ونشور وحساب وعقاب، ومنهم من آمن بالله وبالبعث، وبإرادة الله تعالى الذي يختار ما يشاء، ويبتدئ من بعد ذلك بيان الحقائق لمن آمن واهتدى ولمن ضل وغوى كتابا منشورا ويبتدئ ذلك من البعث، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الجميع إلى نهاية ومن بعدها البعث فقال تعالى:
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، هذا بيان نهاية كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، فهو يعيش إلى أجل محدود قد عينه الله تعالى له، لَا يتأخر ولا يتقدم، وأجل الإنسان هو نهاية حياته.
وقال سبحانه وتعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ)، ولم يقل لكل إنسان أجل مع أنه لكل إنسان أجل فعلا فلماذا اختار جل جلاله ذكر أجل الأمة تلك حكمة الله تعالى فيما يختار من بيان في الذكر الحكيم، ونتلمس الحكمة في ذلك، نقول: إنه سبحانه وتعالى ذكر الأمة، دون الآحاد بآحادها أولا - لأنه إذا كان للأمة بآحدها وجماعاتها أجل فأولى أن يكون للآحاد آجالها، ثانيا - ولأن الأمة