الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول تعالى في إثبات أنهم لَا يصدقون في عهد ما داموا ينكثون:
(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
(8)
(كيف) هنا للاستفهام الإنكاري مع التعجب، وهي داخلة على ما دخلت عليه (كيف) السابقة. أي كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله والحال أنهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً). . .
يقال ظهر عليه إذا غلبه وانتصر عليه، وظَهَر الحائط أعلاه، وكقوله تعالى في السَّد في سورة الكهف:(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97).
و (الإل) يطلق بمعنى الحلف والعهد، ويطلق بمعنى الرحم والقرابة، ومعنى قوله تعالى:(وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بأن ينتصروا عليكم لَا يراعوا رحما ولا قرابة، ولا جامعة بينكم وبينهم، (وَلا ذِمَّةً)، أي عقدا تربطون به دينكم، فهم يرضونكم بأفواههم لَا بقلوبهم.
والمعنى الجملي، كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله وحالهم أن ذلك عهد لكم وأنتم أقوياء غالبون ظاهرون عليهم، فإن يظهروا عليكم لَا يرقبوا فيكم رحما واصلة، ولا عهدا عاهدوه، فإن ذلك العهد كان لإرضائكم لَا للوفاء، وهم ينقضون ذلك العهد عند أول فرصة يفترصونها، ويحسون فيها القوة، ولا عهد لذليل، وهذا عهد الأذلاء يعقدونه للإرضاء لَا للوفاء، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى، وتعالت كلماته (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) فما أعدل الله تعالى في كلماته، نسب الفسق وعدم انضباط النفس وانحلالها بحيث لَا تصبر على العهد - إلى أكثرهم لَا إلى كلهم، ولكن هذا أثر هو الغالب فيهم الذي أفسدهم وجعل فيهم رأيا عاما فاسدا، لَا وفاء فيه ولا إيمان بحق ولا بعهد.
ولقد وصف الله تعالى عهدهم بوصف يدل على أنه عهد لَا يبعث عليه إلا النفاق، فيقول عز من قائل:(يُرْضُونَكُم بِأفْوَاهِهِمْ وَتَأبَى قُلُوبُهُمْ) وهذا معنى
مصور لما انبعث به عهدهم، فهو عهد للإرضاء بالقول الذي ينقصه القلب ولا يؤيده، فهم يحاولون فيه الإرضاء بالأفواه فقط، وتأبى قلوبهم أي تمتنع عن الموافقة على ما تنطق ألسنتهم، وكيف يكون هذا عهدا عند الله علام الغيوب، وعند رسوله الذي يعرف قلوبهم من لحن القول، ولقد وصفهم تميم بن مقبل في شعره، فقال:
أفسد الناس خلوف خلفوا
…
قطعوا الإل وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وجدناهمو كاذبا إلُّهُم
…
وذو الإل والعهد لَا يكذب
* * *
أوصاف المشركين في عهودهم
قال تعالى:
(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
* * *
إن الصفة العامة في المشركين أنهم غرتهم الحياة الدنيا والأماني فيها، والأهواء ومتاع الحياة الدنيا، فكان الوصف العام أنهم اشتروا بآيات الله ثمنا
قليلًا، وآيات الله تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته، إذ هو الذي خلق كل شيء بديع السماوات والأرض، وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وأنه وحده الجدير بأن يعبد ولا معبود بحق سواه، وقد بعث الله تعالى محمدا رسولا، مبشرا ونذيرا، ومعه القرآن الحجة الكبرى القائمة إلى يوم القيامة، كانت هذه الآيات كونية ومتلوة تدعوهم للإيمان، وعدم الشرك، ولكنهم تركوها، ولم يلتفتوا إليها، واستبدلوا بها هواءهم، ومتعهم من سلطان غرَّهم، وذلك ثمن بخس قليل لَا يساوي شيئا بجوار ما تركوه من حق خالد.
وهذا معنى قوله تعالى:
(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)، أي باعوها بثمن هو عرض من أعراض الدنيا وهو قليل بجوار الحقائق الخالدة التي فيها الصلاح في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: (فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ)، أي إنهم بسبب اختيارهم ذلك الثمن القليل، وتركهم ذلك الحظ الوفير من الحق وسلامة الفكر، والهداية والرشاد، قد عدلوا عن الطريق، وصدوا أنفسهم عنه، وصرفوا غيرهم منه، فصدوا عن السبيل القويم والهدى المستقيم.
ولقد بين سبحانه وتعالى الحكم الصادق عليهم، فقال تعالت كلماته:
(إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنهم بهذا العمل الذي تركوا فيه الآيات التي تلوح بالحق وتبينه قد ساء فعلهم الذي استمروا عليه، وهو يتجدد آنًا بعد آنٍ فهو فعل مستمر. ونلاحظ هنا ثلاثة أمور.
أولها: أن قوله تعالى: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) فيه استعارة تمثيلية إذ شبه حالهم في تركهم الحق الواضح البين الذي يأتي بأطيب النتائج والثمرات، بمن يترك بضائع قيمة في مقابل ثمن بخس لَا يجدي ولا يغني.
ثانيها: بيان أن ترك الوفاء بالعهد لاتباع الهوى والخيانة وهو خسارة لا كسب فيها.