الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الواو هنا عاطفة ما بعدها على ما قبلها، فهي عاطفة كلام نوح عليه السلام الأخير على ما قبله، ولكنها أخرت في الذكر عن الهمزة، وهو بهذا ينبههم إلى ما يزيل عجبهم واستغرابهم، فهو استفهام في معنى النفي، أي لا يصح أن تعجبوا من ذلك فإن الله لَا يَنزل، ويكلم الناس، ولا يُنزل الملائكة، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9).
ولقد أزال عجبهم، وأمرهم بألا يعجبوا.
وموضع العجب الواهم هو (أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَّبِّكُمْ)" أن " تذكير بالحقيقة المستكنة في قلوبهم التي يطمسونها طمسا، حتى لَا يذكروا، (عَلَى رَجُلٍ منكمْ)، أي على لسان رجل منهم، أو أن " على " بمعنى " مع " أي: مع رجل منهم، وكذلك قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم:(. . . أَبَعَثَ اللَّه بَشَرًا رَّسولًا)، (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسولِ يَأكل الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .)، وقد بين الله الغاية من الرسالة التي جاء بها نوح عليه السلام وهي غاية الرسل أجمعين فقال:(لِيُنذِرَكمْ) بهذا الذكر الذي يثير العلم الذي تطمسونه فيذكركم به منذرا من عذاب، ومبشرا بثواب (وَلِتَتَّقُوا) ولتعملوا على أن تتخذوا من عملكم وقاية لكم من العذاب، (وَلَعَلَّكُمْ ترْحَمُونَ)، أي ولترجوا أن يرحمكم الله باتباع ما أمركم به من توحيد، وإصلاح، فإن ذلك هو الرحمة الحقيقية بكم.
قال نوح ذلك متوددا متحببا، مخاطبا بما يجمعهم من مودة، ولكنهم نفروا من دعوته، ومن هدايته فكذبوه.
* * *
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ
(64)
* * *
الفاء: هنا للإفصاح، أو للترتيب، أي أنه ترتب على هذا الذكر، وهذه الدعوة الهادية الباعثة على العبرة أن كذبوه، وكان لَا بد بعد هذا التكذيب القاطع للحق، والهادم لكل صالح أن يكون العذاب لمن طغى، والنجاة لمن هدى، أمره الله تعالى بأن يصنع الفلك، لينجى فيه من آمن من قومِ نوح، وأن يغرق من عاند وكفر، فقال:(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي بسبب تكذيبهم؛ لأن الصلة في الموصول هي سبب الحكم،
وقد أكد - سبحانه تعالى - وصفهم بالضلال، فقال:(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) عمين جمع عم، وهو صفة مشبهة من عَمِي، فهم ضالون قد أعمى الله تعالى بصائرهم. وإنها لَا تعمى الأبصار، ولكن تعمى الأفئدة التي في الصدور.
هذا ما ذكره الله تعالى في هذا الموضع من قصة نوح عليه السلام ونكتفي بالكلام هنا، ونتكلم في باقي قصة نوح مع قومه في مواضعها من القرآن الكريم، فلكل جزء منها عظة قائمة بذاتها.
وسيدنا نوح عليه السلام هو أبو الأنبياء بعد آدم، وقيل: إن إدريس أكبر منه، ولكن الظاهر من سياق القرآن للأنبياء، أنه أبو البشرية بعد آدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
من قصة هود عليه السلام
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
* * *
يدل ما ذكره سبحانه وتعالى هنا من قصة هود عليه السلام أنه جاء من بعد نوح عليهما السلام فقد قال تعالى: (وَاذْكرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نوحٍ) إلى آخر الآية الكريمة. يقول تعالى:
(وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)، الواو عاطفة على قوم نوح، وهي على نية تكرار العامل أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، وقدم قوم هود، وهم عاد؛ لأنهم كانوا في عتو شديد. قال لهم هود الهادي المرشد:(يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقونَ).
ابتدأهم بدعوة النبيين إلى التوحيد، وهي دعوة نوح من قبل، ودعوة من بعد عاد إلى أن تكون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم (قَالَ) لهم:(اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُة)، فـ " من " هنا لاستغراق النفي وانحصار الألوهية في الله تعالى وحده، وحذرهم من الكفر كما حذر نوح إذ قال:(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم)، وقال هود محذرا ومحرضا على أن يجعلوا لأنفسهم وقاية بينهم وبين العذاب، فقال:(أَفَلا تَتَّقُونَ) والفاء للترتيب والتعقيب، وموضعها مقدم على الهمزة، ولكن الاستفهام له الصدارة، والمعنى، أنه يترتب على المطالبة بعبادة الله وحده أن تتقوا عذابه، وتخافوه، فهي تتضمن ذكر الخوف والتحذير من عذاب الله تعالى، وأن يجعلوا لأنفسهم منه وقاية، فأجابوه إجابة المتعنت المستخف.
* * *