الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رهبانية، ورهبانية أمتي في الجهاد " (1) وإنه، كقوله تعالى:
(1) سبق تخريجه.
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
(24)
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم آمرا أمته بالجهاد محرضا على التجرد له، والانقطاع له، لا يشغله قلبه إلا أن ينتصر لله ورسوله ويعتز بأهل الإيمان (إِن كَانَ أَبْنَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) والعشيرة هي الجماعة المتناصرة المتوالية، وهم الأقربون، ومن يدانونهم، (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) أي اكتسبتموها مقتطعين لها؛ لأن الاقتراف معناه الأطماع (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا)، أي ثمينة لها أوقات تخشون ألا تروج في وقتها، (وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا)، أي ترضون مناخها، وحدائق ترعونها، (أَحَبَّ إِلَيْكم مِّنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ)، أي تؤثرون المعيشة الرافهة الفاكهة عن طاعة الله ورسوله (وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِه) في سبيل الله تنالون به العزة، وتبعدون به الذلة (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي ترقبوا، حتى تنزل المذلة إن استرخيتم تحت ظل النعيم، وعند الاسترخاء والاستنامة للراحة يكون القعود عن الجهاد، ولقد توقع خليفة رسول الله ذلك، إذ قال رضي الله عنه:" لتألمن على الصوف الأزربي كما يتألم أحدكم من النوم على - حَسْك السَّعدان "، ولقد كان ذلك عندما وجدوا الدمقس والحرير، وجلسوا على عرش كسرى، وجاءتهم غنائم من الأندلس والصين، عندئذ كان الترفه والتنعم، والارتماء في أحضان القيان، وكثرت الأغاني، ورق الذوق، وحين كان ذلك لَا تكون عزيمة، ولقد قال الزمخشري في ذلك: هذه آية شديدة وهي قوله: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة لهذا الدين، واضطراب حال اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله أم يزوى الله
عنه أحقر شيء منها لمصلحة، فلا يدري أي طرفيه أطول، ويغريه الشيطان عن أجلِّ حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيَّره.
هذه حال الناس في عهد الزمخشري، يوم تقاتل المسلمون، واستبدل الملوك بالجهاد في سبيل الله القتال بينهم فصار بأسهم بينهم شديدا، ونسوا الجهاد حتى جاءهم من لَا يرحمهم. جاء الصليبيون من أوروبا وجاءهم التتار من الصين ففرقوهم شذر مذر.
ولقد توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال:" يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها!، قالوا أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؛ قال: " بل أنتم كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة، وليرزقنكم الوهن " قالوا: وما الوهن؛ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت " (1) اللهم حبب إلى قلوبنا الإيمان، وأن يكون الله ورسوله وجهاد في سبيله أحب إلينا من آبائنا، وأبنائنا، وإخواننا وأزواجنا وعشيرتنا، وأموالنا، وتجارتنا، ومساكننا، وكل حظوظنا، فإن ذلك إن كان، فقد وُهبت العزة وصارت تحت أقدامنا حظوظ الدنيا.
* * *
يوم حنين
قال تعالى:
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا
(1) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - ومن حديث ثوبان رضي الله عنه (21891)، ورواه أبو داود في الملاحم - تداعي الأمم على الإسلام (4297) ولفظه:" وليقذفن في قلوبكم الوهن ".
رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
* * *
المواطن جمع موطن، وهو مكان الحرب، الذي توطن فيه النفوس على القتال، وهو كما قال الزمخشري: ومواطن الحرب، مقاماتها، ومواقفها، قال الشاعر:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى
…
بأجرامه من قلة النيق منهوِي (1)
والمواطن الكثيرة: بدر، وجلاء بني قينقاع والنضير، وقريظة والأحزاب، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة، وذكر أيضا أحد، فما انهزم المسلمون ولكن أصابهم قرح، ومؤتة، فالمسلمون فيها قتلوا من الرومان مقتلة عظيمة، وما فروا، ولكن عادوا ليستعدوا أمام مائتي ألف، ثم عاودوهم من بعد في تبوك فمنَّ الله تعالى على المسلمين، أو بالأحرى المؤمنين - بالنصر في هذه المواطن، وقد هداهم الله تعالى إليه وأمدهم بالملائكة، لأن قلوبهم كانت مستعدة لتجلي الملائكة، وإمدادهم بهم.
وذكر سبحانه يوم حنين، لأن قلوب الكثرة من المسلمين لم تكن مستعدة لهذا التجلي الملائكي، وعبر سبحانه بيوم حنين، ولم يعبر بغزوة حنين، لأن هذه الغزوة كان لها دوران: دور يوم حنين وهو الذي جرح فيه المسلمون، والدور الثاني الذي انفرد به المهاجرون والأنصار فكان النصر وكان تأييد الملائكة.
(1) قلة النيق: سفح الجبل.
والعبرة كانت في يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم، أي أدخلت في نفوسهم العجب كثرتهم، وقالوا لن نغلب اليوم، وقد حسبوا أن النصر بالكثرة العددية؛ ولذا قال تعالى:
(فَلَمْ تُغْن عَنكُمْ شَيْئًا) أي فلم تغن عنكم شيئا من النصر، بل.
كانت الكثرة سببًا في الهزيمة، وإن لم تكن هي النهاية، وصور الله سبحانه وتعالى هذه الهزيمة المؤقتة بقوله تعالى:(وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي أنه سدت عليكم المسالك إذ نزلوا بوادي حنين، ولم يستطيعوا، وتسلط مع ضيق المسالك الخوف، إذ كان فيهم من لم يمرسوا بقتال الإيمان، وربما كان منهم من أسلم ولما يدخل الإيمان قلبه، قال تعالى:(ثُمَّ وَلَيْتُم مُّدْبِرِينَ) والخطاب للمجموع فإن الذين فعلوا ذلك ليسوا هم المؤمنين من المهاجرين والأنصار، إنما أكثر من فعل ذلك من الطلقاء وأبناء الطلقاء، الذين بلغ عددهم في ذلك الجيش نحو ألفين، وفيهم من أسلم بعد الحديبية ولم يكن فيهم إيمان الأنصار والمهاجرة. والتعبير بـ (ثُمَّ) للإشارة إلى البعد المعنوي بين إرادة النصر والفرار، وقوله تعالى:(وَلَّيْتُم) إشارة إلى أنهم عند الصدمة الأولى أعرضوا عن القتال، وفروا مدبرين تاركين أقفيتهم للعدو، تعمل فيها سيوفهم.
هذه إشارات إلى يوم حنين، ولنذكره ببعض التفصيل ليعلم مَن الذين ولوا، ويتبين مَن الذين أجرى الله تعالى النصر على أيديهم.
" حنين " واد بين مكة والطائف، وأساس القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد فتح الله عليه مكة، وأسلم الأكثرون وأطلق الطلقاء بلغه أن هوازن وثقيفا تعد العدة لقتاله؛ لأنهم توقعوا أنهم الأدنون الذين يجيء إليهم جيش الحق، وجمعوا جيشا كثيفا، عدته أربعة آلاف على أرجح الروايات، من هوازن وثقيف، وانضم إليهم بنو سعد ابن بكر، وأوزاع من بني (هلال)، وقد أقبلوا ومعهم النساء، والولدان، والأموال من النعم والشاة وجاءوا بقضهم وقضيضهم.
خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش الذي كان معه لفتح مكة، وانضم إليهم من الطلقاء ألفان فكانت عدته اثنا عشر ألفا.
ولم يكونوا جميعا من المؤمنين أمثال الذين قاتلوا في بدر وأحد، والمغازي الإسلامية التي قاتل فيها المؤمنون، بل كان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين دخلوا في الإسلام وهم حديثو عهد به.
جاءت هوازن مدفوعة بحمية الدفاع عن النفس، وجاء المسلمون ولم يكونوا على قلب رجل واحد، بل كان فيهم من توسوس له نفسه أن يغدر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد بادر أهل الطائف فرشقوا المسلمين ومن معهم بالنبال، وأصلتوا في الوادي الذي يسمى حنينا، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هوازن ومن معها قد كمنت في جنبتي الوادي وهجمت على المسلمين الذين دخلوا في بطن الوادي هجمة رجل واحد، واضطرب المسلمون، ولم يعرف أحد أحدا، وبذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت إذ قد تهيات هوازن ومن معها في مضايق الوادي وأحنائه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية من الأرض قد ثبت، وثبت معه المؤمنون، من المهاجرين والأنصار، وأخذ ينادي المسلمين، ولكن انكفأ بعضهم على بعض، وكما قال الحافظ ابن كثير في تاريخه:" انحط بهم الوادي في عماية الصبح، وثأرت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس متهربين لَا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول: " أيها الناس هلم إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله "، فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: " يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار "، فأجابوه: لبيك لبيك ذَهب الأنصار في هذا المضطرب مجيبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله ومعه بعض أهله الأدنين، معه عمه العباس، وهو آخذ بلجام دابته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس وقثم بن العباس، فهؤلاء عشرة من أقارب رسول الله الأدنين ومعهم وزيرا النبي صلى الله عليه وسلم.
كان هؤلاء الثابتون وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا حمى الوطيس أحاطوا به واتقوا حر القتال بالإيواء إليه، والنبي ينادي المؤمنين، والعباس