الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن ذلك في مقابل أمرين أو عقاب لأمرين: أولهما - أنهم نسوا لقاء يومهم هذا مع كثرة النذر، ومع إرسال الرسل، ومع أنه يوجبه منطق الحياة، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، يأكل ويلعب كالحيوان، إنما هو مخلوق مدرك، وأن الدنيا فيها الخير والشر، وأنه لَا بد للخير من أن ينتصر، ولا بد للشر من أن ينهزم، وأنه يتناسب مع علو مكانة الإنسان في هذه الأرض.
ثانيهما - ما كانوا بآياتنا يجحدون " ما " هنا على تقدير الكاف، وهي معطوفة على قوله تعالى:(كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا)، أي أن الله تعالى نسيهم، كما نسوا لقاء يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون، وجحود الآيات إنكار ما تدل عليه من دلائل التوحيد، ومعاندتهم لله تعالى، وتكذيبهم لأنبيائه، فكان نسيان الله تعالى لهم وتركهم في جهنم يصلونها، من مقابل نسيانهم، وجزاء لجحودهم.
والله على كل شيء قدير.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى أنه ما تركهم هملا من غير كتاب يعلمهم ويهديهم ويرشدهم، فقال تعالى.
* * *
(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(52)
* * *
ما تركهم رب العالمين سدى من غير هاد ولا مرشد، بل أعذر إليهم بإنزال كتاب قد فصله على علم بما يدل عليه من عظات، وما يوجههم إليه من آيات، فقال تعالى:(وَلَقَدْ جِئْنَاهم بِكِتَاب) أكد مجيء الكتاب لهم بـ " اللام " و " قد "، وقد عبر بأنه جاء إليهم ولم يقل أنزل عليهم؛ لأنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم والرسول جاء به إليه على أنه معجزته الكبرى، وكلام الله تعالى الذي خاطبهم هم والأجيال القادمة إلى يوم القيامة، فالمراد من الكتاب القرآن، وجاء نكرة ومقامه التعريف؛ للإشارة إلى فخامته، وإلى أنه كتاب لَا يتسامى إلى مثله كتاب.
ويقول تعالى: (فَصَّلْنَاهُ) بيناه ووضحناه، وأتينا بفصوله كاملة على علم بل اشتمل عليه من معرفة بالشرائع وأخبار النبيين، وتنبيه إلى أن يكون القرآن وآياته، للدلالة على وحدانية الله تعالى لَا شريك له، وذلك كقوله تعالى:(. . . كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)، ولقد قال تعالى في آية أخرى:(. . . أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ. . .).
وقد وصفه سبحانه وتعالى بوصفين جليلين:
أحدهما - أنه (هُدًى)؛ وذلك لأنه معجزة هادية إلى الحق وصدق الرسول، وكل ما يشتمل هداية ببيان الشرائع والأحكام، وما فيه مصلحة الناس في معادهم ومعاشهم، وما فيه تنظيم جمعهم، والسير بهم في سبيل الخير.
وثانيهما - أنه (رَحْمَةً) لما فيه من أحكام كلها نفع وخير للمجتمع وفيها العدالة، وهي الرحمة الكاملة بالمجتمع، وفيه الأمانة وفيه شرعية القتال، وفيه رحمة ودفع للفساد، (. . . وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
وإن رحمة الله وهدايته وعلمه لَا تؤتي أكلها إلا في قلوب مؤمنة غير جافية فهي التي ينبت فيها زرع الخير ويؤتي أكله؛ ولذا قال تعالى: (لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
أي لناس من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم، ومن شأنهم الإذعان للحقيقة، يؤمنون بها إذا عوفوها، وهناك قلوب جافية طمس عليها، هي غلف لا يدخلها النور، ولا تصل إليها الهداية، وهذه ليس من شأنها أن تؤمن، ولو جاءتها الأدلة واحد بعد الآخر؛ لأن عليها غشاوة تمنع وصول النور، فالذين يجدون الرحمة والهداية في القرآن هم الذين من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم؛ ولذا عبر بالمضارع الدال على الاستمرار، والله تعالى أعلم.