الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد بين جزاء الأعلياء المفضلين من بعد، وبين هنا ضلال المشركين، فقال تعالى:(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والظالمون هم المشركون، وقد سمى الله الشرك ظلم، لأن المشرك ظلم الحق فعبد أوثانا لَا تضر، وظلم العقل المدرك فطمسه، وظلم نفسه فتردى بها في مهاوي الضلال، وطمس الحق، وإن اللَّه لا يهدي الذين أركسوا أنفسهم في هذا، لأنهم لم يسلكوا نجد الحق والعقل والإدراك السليم.
وهنا إشارة بيانية، وهي أن سياق الآية في ظاهره من غير تقدير جعل المناظرة بين سقاية الحاج وعمارة البيت الحرام ومن آمن. . . والمعنى إيمان من آمن، ولكنه ذكر من آمن. . . وذلك لبيان الإيمان قائما في أصحابه محسوسا مرئيا، لأنه تزكية ظاهرة، ودعوة عملية إليه كقوله تعالى:(. . . وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. . .)، إلى أخر آية البر.
وبعد أن بين الله تعالى أن الظالمين بسبب ما سلكوا يستمرون في غيهم يعمهون، بين جزاء الهداة الذين جاهدوا بعد أن آمنوا وهاجروا.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
(20)
هذا النص الكريم، هو الحكم الذي أصدره الله تعالى في قضية الموازنة بين الإيمان والجهاد وبين سقاية الحاج، وعمارة البيت، فقال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ).
ذكرهم سبحانه وتعالى بأنهم أعظم درجة، وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه إذا كان على بابه يكون مؤداه أن الذين اكتفوا بالسقاية والعمارة لهم درجة عظيمة عند الله، وإن لم تكن الدرجة الأعظم، إذ الحقيقة أنهم ما داموا على الشرك ليست لهم عند الله أية درجة، بل إنهم في الحضيض الأوهد، ولا درجة لهم عند الله قط، وإذا كان أفعل التفضيل ليس على بابه، فمعناه أنهم عند الله في درجة عظيمة، لَا تطاولها درجة، وعبر بأفعل التفضيل لما كان من مقابلة لفظية.
وهذه الدرجة العظيمة التي لَا تفضل عنها درجة قط؛ لأنهم كانوا في أوصاف عالية تجعلهم رجال الله ورجال الحق - أولها - أنهم آمنوا، والإيمان في وسط الشرك الغامر والوثنية الغالبة فيه جهاد النفس، ومغالبة الباطل، ونور العقل، ومقاومة الجاهلية وعصبيتها، وطغيانها، وشرورها وآثامها، ومع هذا كله تكون رفعة الدرجة، إذ بمقدار تلك المغالبة النفسية يكون علو الدرجة.
والوصف الثاني - أنهم هاجروا، إذ إن ذلك الوصف يتضمن نداء الإيمان بالرضا بترك الأهل وصرم القرابة والدعة والراحة، وتحمل الأذى، والخروج بالإيمان نقيا طاهرًا من أرجاس الجاهلية وعصبيتها، والخروج من جو الجاهلية المعتكر بالعصبية والضلال إلى جو النور والإيمان.
والوصف الثالث - أنهم جاهدوا في سبيل الله، أي طريق الله الحق بأموالهم وأنفسهم، فلم يكن إيمانهم سلبيا بل كان إيمانا إيجابيا، آمنوا بالحق، وضحوا في سبيله بالأهل والولد، ثم دعوا إليه محاربين الباطل، جاهدوا أنفسهم أولا بتخليصها من أدران الشرك وأوهامه، وصابروا على الأذى بعد أن صبروا عليه وقدموا أموالهم مجاهدين، وأنفسهم في اشتجار السيوف والرماح، واستجابوا لقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم:" جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم "(1).
وقد حكم الله تعالى لهم فقال: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) الإشارة إلى أوصافهم، وفيه دلالة على أن هذه الأوصاف هي سبب ذلك الفوز، وقد بين سبحانه أنهم المختصون بالفوز دون غيرهم؛ لأن تعريف الطرفين وضمير الفصل دلَّا على أنهم المختصون بالفوز، ولا فائز إلا من عمل عملهم، وحمل أوصافهم، فهم رجال الله تعالى حقا، وقد بين الله تعالى جزاءهم في الآخرة فقال تعالت كلماته:
(1) سبق تخريجه.