الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال تعالى: (وَعَذبَ الَّذِينَ كفَروا) عذب الله الذين كفروا في هذه المعركة بأن هزمهم هزيمة، وقد لاح برق الانتصار في أولها، ولكن كان الزعم القاصم الذي صك الآذان صكا عنيفا، وأشد ما يكون على النفس وقعا، أمل النصر، ثم وقع الهزيمة من بعد، وفوق ذلك فقد كان النصر بقتل ذريع داهم مستمر.
ولقد ساقوا أموالهم كلها ليثور حماسهم برؤيتها، فغنمها المسلمون جميعها، فكأنهم ساقوها ليأخذها المسلمون غنيمة باردة، وساقوا نساءهم وأولادهم ليزدادوا حماسة برؤيتهم، فسباهم المسلمون وأذلوهم بسبيهم فكأنهم كانوا يعدون المائدة للمؤمنين.
هذا هو العذاب الدنيوي، هزيمة وقتل، وإذلال بالسبي، وأخذ الأموال غنائم غير مردودة، وإذا كان السبي قد رفق بهم النبي صلى الله عليه وسلم في أمره، فالمال قد وزع بين المجاهدين، وأخذ منه المؤلفة قلوبهم ما أخذوا.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)(ذلك) الإشارة إلى ما ارتكبوا من تدبير، وأن ذلك رد كيدهم في نحورهم فقد دبروا وبيتوا، ووضعوا الكمائن، وساقوا أموالهم ونساءهم وذرياتهم فجازاهم الله تعالى ذلك بأن هزمهم، وغنمت أموالهم، وسبيت نساؤهم، وذلك بسبب كفرهم.
ولقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لمن يشاء من عباده عساهم بعد أن رأوا أن أوثانهم لَا تضر ولا تنفع، وبعد أن عركتهم الحرب وهزموا فيها، وغنمت أموالهم وصاروا في رحمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي من رحمة الله تعالى فعساهم يهتدون، ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(27)
(ثُمَّ) هنا للبعد بين كفر عنيف، وتوبة ضارعة راجية، (يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أي يرجع على عباده بالتوبة، والإقلاع عن الشرك والرجوع
إلى الله سبحانه وتعالى (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد بيان أنهم لم يغنهم غرورهم وانهزامهم هزيمة منكرة وسبي نسائهم وأموالهم، وكرم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يروى أنهم جاءوا أو جاء كبراؤهم بعد ذلك مستسلمين يريدون سباياهم وأموالهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بعض السبايا أو كلها في المقاتلين من المسلمين.
جاء ناس منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا، وأخذت أموالنا، وكان السبي يومئذ يعدون بالألوف فقام النبي الكريم الرءوف برحمة من رب العالمين، فقال:" إن عندي ما ترون، إن خير القول أصدقه: اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم ". قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا.
فقام الرسول بين أصحابه وقال لهم: " إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان عنده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه، ومن لَا فليعطنا وليكن فرضا علينا، حتى نصيب شيئا، فنعطيه مكانه "، قالوا: رضينا وسلمنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: " إني لَا أدري لعل فيكم من لَا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا "، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا (1).
وهذا الخبر وقبله الآية الكريمة يدل على أمور:
أولها - أن المغرور إذا هزم، وتبين أن غروره لم يجده شيئا، وأنه ضعيف أمام الحق ارعوى، وتغير تفكيره إذ تغيرت حاله من غرور نفسي إلى اقتناع بأن أوهامه باطلة، فيتجه إلى الحق، لقد كان أهل الطائف من ثقيف وهوازن أشد الناس اغترارًا بقوتهم، ومالهم، وكانت فيهم غلظة وجفوة دون غيرهم من العرب فلما عضتهم الحرب فكروا في أمرهم مسترشدين.
(1) صحيح مسلم: الجهاد والسير - غزوة حنين (1775)، عن العباس - رفس الله عنه - عم النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيها - أن الذين اقتنعوا بالحق وأعلنوه منضمين إليه ناس منهم، والكثيرون استمروا في شماسهم حتى أقنعهم إخوانهم (1).
ثالثها - رفق النبي صلى الله عليه وسلم ورغبته في الحرية، لأنه نبي الحرية فأعطاهم سباياهم سمحا كريما.
رابعها - أن الرفق يغير القلوب، ولو كانت قلوب أشد الناس شماسا وغلطة وقسوة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أرفق الناس، وبرفقه جذب إلى الإيمان قلوبا غليظة، (. . . وَلَوْ كنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْب لانفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ. . .)، وختم الله تعالى الآية بقوله:(وَاللَّه غَفورٌ رحِيمٌ) أي أنه كثير المغفرة كثير الرحمة سبحانه وتعالى.
* * *
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
(1) الشِّماس، ويقال: رجل شَمُوسٌ: عَسِرٌ، وهو في عَداوته كذلك خلافا وعسرا على من نازَعَهُ، وإنَّه لذو شِمَاسٍ شديد. وشَمَس لي فلانٌ، إذا أبْدَى لك عَداوتَهُ كأنّه قد همَّ أن يَفْعل. ل [العين - شمس].
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
* * *
إن البيت الحرام أول بيت بني للعبادة، قال تعالى:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، وقد وضعه الله تعالى على يد
إبراهيم أبي العرب، (مَا كانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وقد مكث آمادا في أيدي المشركين الذين كانوا يعرفون الله، ولكن لَا يعبدونه، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليعيدهم إلى التوحميد ملة إبراهيم، فحطم الأوثان. وكان حقا - وقد عاد البيت إلى ملة إبراهيم - أن يمنع منه المشركون، ونريد أن نفسر الشرك هنا بعبادة غير الله، ويدخل في هذا الشرك العام اليهود والنصارى ممن اتخذوا أشخاصا وعبدوهم وسموهم آلهة، ولذا جاء ذكر اليهود والنصارى وراء المشركين بنحلتهم في ادعاء النبوة لعزير، والمسيح، وأن قتالهم كقتال الشرك، واقتلاعه من الجزيرة العربية، حتى لَا يبقى فيها إلا عبادة الله سبحانه وتعالى، فتكون أرض التوحيد، كما كانت عندما بنى إبراهيم الكعبة، إذ كانت الوثنية تسيطر فيما حولها، وإبراهيم ينادي بالتوحيد في ربوعها.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وقرئ بكسر النون وسكون الجيم، وقرئ بفتح النون، وكسر الجيم كـ (كَبِد)، وقرئ بفتحهما نَجَس (1).
والنجاسة هنا نجاسة معنوية لما امتلأت قلوبهم بالشرك، وجوارحهم بعبادة غير الله تعالى، من أحجار وأشخاص، ومن التابعين من قال: إنهم أنجاس العين
(1) قراءة (نَجِس) ليست في العشر المتواترة.
كالخنازير، ولكن نجس العين يكون بأصل التكوين والخلق، وهؤلاء لم يخلقوا أنجاسًا، ولكن خلقوا على الفطرة حنفاء، ولكن انحرفوا تقليدا لآبائهم، أو اتباعا لأهوائهم، فكانت النجاسة أمرا عارضا، وما يكون أمرا عارضا يكون قابلا للتغيير إذا رجعوا فلا يكون أمرا ذاتيا كنجاسة الخنازير، ولذا قال الأئمة أصحاب المذاهب: إن النجاسة نجاسة الشرك، فمصافحتهم تجوز، ومبايعتهم على الإيمان تجوز، وغير ذلك من الملامسات الجسدية.
وقوله تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)(الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأنهم إذا كانوا أنجاسا بشركهم لَا يصح أن يدخلوا المسجد الحرام، و (لا) هنا ناهية داخلة على فعل للغائب؛ فهي دالة على نهى المؤمنين عن أن يدخلوهم المسجد الحرام، وأن يمنعوهم منعا باتا قاطعا، وعبَّر بالغيبة مبالغة في النهي، كأنهم نفذوا، وأخبر عنهم بأنهم لم يدخلوهم، وعبر في النهي بقوله تعالى:(فَلا يَقْرَبُوا) بدل (لا يدخلوا) مبالغة في النهي عن الدخول، وللدلالة على أنه يجب تطهير ما حول المسجد من الشرك والمشركين، وإذا كانوا لَا يقربون المسجد الحرام، فإنهم بالأولى لَا يحجون ولا يعتمرون كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وقد كانوا يتولون سقاية الحجيج، وسدانة البيت، فمنعوا من ذلك ومن كانوا يتولون السقاية والسدانة، وبيدهم مفاتيح البيت في الجاهلية بقيت في أيديهم بعد أن أسلموا، فتولوها بصفتهم مسلمين غير مشركين باللَّه تعالى.
وان النهي عن دخول المسجد الحرام يدل على حرمة دخوله بالنص، وعلى حرمة دخول غيره من المساجد بالقياس عليه، وبالنص المشير إلى ذلك بقوله:
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37).
وإن رفعة المساجد في الآية الكريمة تومئ إلى ألا يدخلها من يشرك بالله أحجارا أو أشخاصا، أوصافهم تتنافى مع أوصاف الذين يسبحون فيها بالغدو والآصال.
ولقد كان حجيج المشركين من شتى البلاد العربية يوجدون رواجا ماديا بين أهل مكة، كما قال تعالى عن إبراهيم:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ. . .).
فإذا منع المشركون حُرم سكان مكة، وهم المسلموِن بعد الفتح من ذلك الوفد الذي يجيء إليه، ولذا قال تعالى:(وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةَ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ) العيلة: الفقر إذا حرموا من أرفاق المشركين ومتاجرهم، وقد قدر الله خوفهم من الفقراء، أو قلة المال إذا منع المشركون من الحج وقصد بيت الله الحرام فقال:(وَإِنْ خِفْتُمْ) وعبر للدلالة على أن تقدير الخوف مشكوك فيه منهم؛ لأن الإيمان يجعلهم يطمئنون ولا يخافون، ومع ذلك طمأنهم الله تعالى فأكد أنه سيغنيهم الله من فضله إن شاء، ونشير هنا إلى أمرين:
أولهما - أن قوله تعالى: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)(الفاء) فيها في جواب الشرط، و (سوف) لتأكيد وقوع الإغناء إن شاء الله تعالى في المستقبل، فالسين وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل.
ثانيهما - التعبير بقوله تعالى: (مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ) فذكر الفضل منسوبا إلى الله تعالى فيه إشارة إلى أنهم لَا يرزقونكم بل الرزاق ذو القوة المتين هو الله الذي يرزقكم من فضله، وقوله:(إن شاء) بالتعليق على مشيئته سبحانه وتعالى فيه إشارة إلى: أولا بأن ذلك بمشيئته سبحانه إذا اتخذوا الأسباب، وإن ذلك حسب حكمته؛ يغنيهم إن لم يطغهم الغنى، ويحرمهم إن كان الحرمان يفطم نفوسهم، ويقوي إرادتهم ويعودهم الصبر، والصبر عزيمة الأمور.
ولذا ختم الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (إِنُّ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) في الجملة تأكيد بالجملة الاسمية، وبـ (إنَّ) وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة الذي تتصف