الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(سُورَةُ الْأَنْفَالِ)
تمهيد
هذه السورة مدنية، وقالوا: إن سبع آيات منها مكية، وعباراتها السامية تنبئ عن أنها مكية، وهي تبتدئ من قوله تعالى:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)، فإن هذه الآيات السبع مكية، تدل عليها عباراتها وزمانها، ولكن لأنها متصلة بالهجرة أضيفت إلى سورة مدنية.
والأنفال سميت بأولها، وهو (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ)، فسميت بهذا الاسم، وإن هذه السورة تشتمل على أعمال من أجل ما قام في الإسلام، ففيها كان يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وبهذا اللقاء كان الفرق بين عزة الحق وذلة الباطل، وفيها تشريع الأنفال والغنائم، وفيها حكم الأسرى، ومتي يكون الأسر، وفيها إعداد العدة، وفيها الوفاء بالعهد، ومتى ينقض.
وقد ابتدئت السورة بذكر الأنفال، وما يؤخذ من الحرب، وبين الله تعالى أنها في الأصل لله تعالى ورسوله، ليقوى بها الجيش، ويتخذ منها العدة والأهبة، وكان ذلك إيذانا بما يجيء بعد ذلك من يوم الفرقان.
ابتدئت السورة بالإشارة إلى ما كان من تساؤل حول الأنفال، ثم تكلمت بعد ذلك عن الاستعداد للالتقاء يوم الفرقان، وكانت أول العدة طاعة الله ورسوله، وامتلاء القلوب بهيبة الله، وبيان أن المؤمنين المجاهدين إذا ذكر الله وجِلَت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، ويتوكلون على ربهم إذا أعدوا العدة، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وإنَّ ذكر الماضي وإرادة تغييره يكون
بالعمل والجهاد، وإنه يجب الصبر على فراق الأحبة، ومنع المجادلة في الحق، قال تعالى:(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
ثم يملأ الله تعالى قلوب المؤمنين إيمانا وهو من عدة النصر، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8).
ويبين من بعد ذلك الالتجاء إلى الله واستغاثئه فاستجاب بإمداد الملائكة الروحي الذي جعله الله تعالى بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم.
ورزقهم الله الأمان فناموا، والنوم آمنين قوة، وأنزل الله تعالى من السماء ماءً ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجس الشيطان، ويوحي رب العالمين إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا فيثبتوهم، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، وصار المؤمنون على استعداد للقتال يضربون فوق الأعناق، ويضربون منهم كل بنان؛ لأنهم عاندوا الله ورسوله وساقوه فليذوقوا ذلك البأس ومن بعد النار.
ثم يكون التحريض على القتال والثبات (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16).
وإنه بعد انتهاء المعركة التي كانت فيصل الحق بين قوة الإيمان والكفر، بيَّن الله أن ذلك كان بفضل الله للمؤمنين، وأنه هو الذي رد كيد الكافرين، ووهن تدبيرهم، وأنه سبحانه هو الذي جاء بالفتح وأمر من عنده، وأنه مع إرادة الله تعالى للنصر، لن تغني عنهم فئتهم من الله سبحانه، وإن ذلك من طاعة المؤمنين لله وسماعهم لأوامره، وأنهم لَا يقولون سمعنا وعصينا.
وقد بين الله بعد ذلك أن شر الدواب الذين آتاهم الله عقولا، فأصموا آذانهم عن الحق وتردَّوا في الباطل تردَّيا، وليعلموا أن الله هو المسيطر على القلوب
به يهتدون، ويتركهم إن ساروا في طريق الغواية فيضلون، وبين أن الفتن إن جاءت تعمّ ولا تخصّ، وأن أشد الفتن أن يخونوا الله ورسوله ويخونوا أماناتهم، وأن التقوى حصن القلوب، وهي فرقان ما بين الحق والباطل، وبها يفرق بينهما.
ويذكر الله تعالى بعد ذلك ما كان في آخر إقامتهم بمكة إذ يدبرون لمحمد حبسه أو قتله، أو يخرجوه، ويمكرون، والله سبحانه يدبر له أمر هجرته، (وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ).
ويذكر بعض ما كان المشركون ينالون بالباطل من القرآن، وما تلبى به عداوتهم فيقولون مستهينين بالحق الذي يدعوهم الله تعالى إليه:(وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)، وذلك أبلغ التحدي والاستهانة بالحق فبدل أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه، يقولون متحدين (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، ولكن الله تعالى ما كان ليعذبهم والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قائم بدعوته.
ثم يفرق الله تعالى بين المؤمنين الذين ينفقون في سبيل الله والكافرين الذين ينفقون ليصدوا عن سبيله، وأن مآلهم جهنم، ويفتح الله تعالى لهم باب الرجاء وأَلمغفرة إن ينتهوا، وإن نهاية القتال هو انتهاء الفتنة في الدين (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40).
في هذه السورة من أولها إلى هذه الآية، بيان القتال، وأن النصرة فيه بالتأييد من الله العزيز الحكيم والإيمان الصادق المستجلب لهذا التأييد، فهو قوة المسلمين، وضعف المشركين من كفرهم، وأنهم ينفقون ليصدوا عن سبيل الله تعالى.
بعد ذلك يتكلم الله تعالى في توزيع الغنائم، فيقول:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41).
ويبين الله مواقع القتال يوم بدر الذي انتهى بالنصر المؤزر، وإذ يربي الله تعالى قوة روح المؤمنين برؤية الأعداء في المنام قليلًا، (وَلَوْ أَرَاكهُمْ كثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ. . .) وإنه في رؤية العيان تستقلونهم لتتقدموا، ويستقلونكم لأنكم فعلا قلة، وذلك (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. .).
ويدعو الله تعالى إلى الثبات مكررا له؛ لأن الثبات في الصدمة الأولى هو قوة الصبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى "(1).
ويدعو مع الثبات إلى ذكر الله تعالى؛ لأنه عدة الأتقياء، وينهى عن التنازع حتى لَا تذهب القوة، ولا يكن خروجكم بطرا بالمعيشة ورجاء الترف أو رئاء الناس فإن هذه هي مفاسد الجهاد، ولا يصح أن يزين الشيطان لكم ويركبكم ويقول لكم:(لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ. . -) وإذ التقى الجمعان قال إني بريء منكم.
وعندئذ يجد المنافقون سبيلًا إلى جموعكم، ويقولون:(غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ. .)، فاطرحوا الشيطان وغروره، وتوكلوا على الله، وإن الملائكة يضربون وجوه الكافرين وأدبارهم عند موتهم، وقد ضرب الله تعالى الأمثال بآل فرعون إذ أخذهم الله بذنوبهم، وإذ كذبوا، وإن الله تعالى:(لَمْ يَكُ مُغَيِرًا نِّعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ. .).
ومن بعد ذلك يعود إلى الجهاد، والوقوف أمام الأشرار وحربهم، والاستعانة بالعهد لمن يقدم عهدا، إن وفوا (وَإِمًا تَخَافَنَّ مِن قوْم خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. .) وإنه يجب أن يكون المؤمنون على حذر واستعداد (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وأنه مع وجوب الاستعداد والإعداد، (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. .)
(1) متفق عليه، من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق تخريجه.
ولا تنس التحريض على القتال، فيتجمع العهد مع الوفاء، والاستعداد للسلم وللحرب معا، ولابد مع ذلك من تأليف قلوب المؤمنين، فإنه أقوى أسباب النصر، وإن القوة المعنوية مع ائتلاف القلوب تضاهي الألوف (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .). وإن أدُخل فيكم ضعف بوجود المنافقين فيكم، وضعاف الإيمان فإنه (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وقد بين الله بعد ذلك وقت الأسر، وهو بعد الإثخان في الأرض، وعتب الله على نبيه والمؤمنين أن كان لهم أسرى وأخذوا فدية، فقال:(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70). هذا إذا أرادوا، وإن يريدوا خيانة الرسول فقد خانوا الله من قبل.
وبعد ذلك بين الله تعالى ولاء المؤمنين فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72).
وقد بين سبحانه أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، فلا تربطنا بهم ولاية، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75).
هذه إشارات إلى ما اشتملت عليها سورة الأنفال، ولولا أنها سميت بذلك لقلنا إنها سورة من سور الجهاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
* * *
قال تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الأنفال: جمع نَفَل بفتح الفاء، وهو هنا الغنائم، وسميت أنفالا؛ لأن النفل هو الزيادة، لأنها ليست في مقابل، حتى تكون أجرة للمحارب كالمرتزقة من الجنود في هذا الزمان، وإنما أجر المجاهد عند ربه، وثوابه ورضوانه أعظم، فهي زيادة على ثواب الجهاد، وقد جعلت الغنائم من خواص الرسالة المحمدية.
ويطلق على الغنيمة، وقد يطلق على كل ما يؤخذ من العدو من غير قتال كالفيء، وقد يطلق على ما نفله النبي صلى الله عليه وسلم من خمس الله ورسوله لبعض المؤمنين، ومنه ما كان يعطي للمؤلفة قلوبهم، ومهما يكن ما يعطي من نفل غير ما يكون في الجهاد، فإن الظاهر المراد من الأنفال الغنائم التي غنمت في غزوة، فقد جاءت قريش بخيلها ورجلها، وكثير من مالها، فآل ذلك كله للمؤمنين المنتصرين، فأخذ كل من المجاهدين ما عده حقا له دون غيره، وثبت في الصحاح بعض الاختلاف، إذ لم يكن ثمة منهاج يتبع، ولم يكن لهم بهذه الغنائم في الإسلام مثال يحتذى، فيروي الإمام أحمد في مسنده عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللهُ الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُصِيبُ
الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ. وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً وَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فَنَزَلَتْ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (1)، ولقد حاول بعض المجاهدين أن يأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، فيروي الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ، وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ، فَأَتَيْتُ بِهِ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبَضِ " قَالَ: فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلا اللهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي، وَأَخْذِ سَلَبِي، قَالَ: فَمَا جَاوَزْتُ إِلا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ " إلى آخر الآية "(2).
لم يكن بالمسلمين عهد بالغنائم ولا تقسيمها، فاختلفوا في ذلك، فأنزل الله تعالى أنها لله تعالى ورسوله يضعانها حيث تكون القسمة العادلة التي تجمع بين العدل والمصلحة، وقد أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمها حيث أراه الله. وهل قسمها قسمة الغنائم المنصوص عليها في قوله تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) إلى آخر السورة!!
يرجح بعض الرواة أنه لم تكن نزلت آية الغنائم فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المحاربين بالسوية، ورجح الحافظ ابن كثير أنه قسمها قسمة الغنائم في قوله تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. . . . .).
(1) مسند أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (22256).
(2)
رواه أحمد: مسند العشرة المبشرين - مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (1559)، كما رواه مسلم: السير والجهاد (1748).
واستأنس لذلك بما روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه كانت له شارفتان أخذهما من الخمس؛ بمقتضى الآية الكريمة.
ولقد قال الزمخشري: إن من الخلاف في الأنفال، أن المهاجرين طلبوها دون الأنصار؛ لأنها بدل عما اغتصب من أموالهم عند الهجرة، ولكن ذلك لَا سند له من الرواية، فلعله قياس قاسه الزمخشري، ولعل عنده رواية ولم يذكر نقلها.
بعد الإجابة عن التساؤل عن الأنفال، وكانت بادرة خلاف، وإن كان قد حسمه الإيمان والجهاد واحتساب النية لله، وأن الأمر آل إلى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولكن الله تعالى دعا إلى الادراع بالتقوى، حتى يسد منافذ الخلاف ومثارات الشيطان فقال آمرا بكل ما يقضى على الخلاف في موطنه، فقال تعالى:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
أمرهم سبحانه بأمور أربعة وقاية من النزاع، وإبقاء للمودة:
أولها - التقوى، فإن القلوب إذا امتلأت بالتقوى لم يكن للشيطان منفذ، ولم يكن للخلاف موضع، و (الفاء) في قوله تعالى:(فَاتَقُوا اللَّهَ) فاء الإفصاح؛ لأن المعنى إذا كان الأمر في القسمة لله ورسوله، ففرغوا أنفسكم لتقوى الله، ولا تشغلوا أنفسكم بالمال وتقسيمه، فقسمة الله هي العدل والمصلحة معا، وهي العدل والحق والنظام.
وثانيها - في قوله تعالى: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ) وهي الأمر الذي يربطكم، فليس المراد البين نفسه، إنما المراد ذات الرابط، وهو كما قلنا المودة الواصلة، ومعنى إصلاحه رعايته، وتعهده، بأن تكون المودة ملاحظة في كل ما يربطنا، فيكون الإيثار بدل الأثرة، والمحبة الموصولة بدل الحرص المفرق.
الأمر الثالث والرابع - طاعة الله ورسوله بألا تجعلوا لأنفسكم إرادة بجوار إرادة الله، وأن تجعلوا الله ملء أسماعكم، وطاعة رسوله هي سنة حياتكم.
وقد بين سبحانه أن ملاحظة هذه الأمور هي نور الإيمان وموجبته، ولا إيمان إلا كانت معه هذه الأمور؛ ولذا قال تعالى:(إن كنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان حالة نفسية ملازمة لكم.
وقد قال الزمخشري: " جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته؛ ليعلم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ".
وبعد أن ذكر المؤمنين الكاملين أخذ سبحانه وتعالى يبين صفاتهم فقال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
ذكر الله بعد أن ذكر موجبات الإيمان من إصلاح ذات البين والتقوى والطاعة ذكر سبحانه صفات المؤمنين، فذكر صفتين معينتين، وعملين تدفع إليهما قوة الإيمان.
أول الأمرين الأولين - ذكره الله تعالى بقوله تعالت كلماته:
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، الوجل الخوف منه والفزع إليه، فالله سبحانه هو مالك الوجود من استحضر عظمته وجلاله وكبرياءه وملكوته خافه وفزع إليه في الملمات، وركن إليه مطمئنا إلى ساحته العظمى، فهو المخوف المحبوب المرجو في الملمات؛ ولذا جاءت هذه الآية تقول: إن القلوب توجل لذكره، أي ترهبه وتحس بعظمته، وتعتمد عليه وحده، وتطمئن بالالتجاء إليه، كمن يخاف رجلا عظيما، فيرهب قوته، وفي الوقت ذاته يطمئن إليه؛ ولذلك قال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، فهو المخوف الذي يركن إليه.
وقال تعالى جامعا بين وجل المؤِمن واطمئنانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).
وثاني الأمرين - (وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) أي إذا قرئت عليهم الآيات القرآنية زادتهم إيمانا، فكل آية فيها نور مبين، والإيمان استضاءة بالنور، فكلما تعددت مشارق النور عم الضياء وازداد النظر إبصارا، كذلك آيات الله تعالى، كلما تليت عليهم آيه أضاءت القلب وازداد نور الإيمان فازداد إيمانًا، فزيادة الإيمان بزيادة الدليل وكثرته، وكل آية تقوى ناحية من نواحي الإيمان، (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124).
وهناك مسألة تثار، وهي زيادة الإيمان ونقصه، ونحن ممن يقولون إن الإيمان يزيد بتضافر الأدلة، وكثرة الآيات الموحية، فإنها تقويه وتثبته، وتزيل الريب والشبهات، وليست زيادة الإيمان إلا قوته ودعمه بالأدلة، وكل آية في القرآن دليل قائم بذاته.
وهناك أمر ثالث يتعلق بالأمرين السابقين، وهو التوكل؛ ولذا قال تعالى:(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكلُونَ) التوكل على الله تعالى حق توكله يتحقق بعد اتخاذ الأسباب في ثلاثة أمور:
أولها - أن يحس بأنه مهما يكمل إعداد أمره فإنه لَا ينتج ثمرته إلا بإرادة الله تعالى، فمن يظن أن الأسباب وحدها تنتج الأثر فقد ضل؛ لأنه توهم أنه يؤثر في الإيجاد، وذلك وَهْم يفسد العقول.
ثانيها - أنه يفوض أموره لله تعالى وحده.
ثالثها - ألا يعتمد على أحد سواه؛ ولذا قال تعالى: (وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فقدم الجار والمجرور على الفعل أي لَا يتوكلون على أحد سواه، وبهذا يكون التوكل عبادة من العبادات.
هذه الأحوال النفسية للمؤمن، أما الأمور للعملية المدفوعة بأمور نفسية فهي إقامة الصلاة والإنفاق مما رزق الله تعالى:
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
وهاتان صفتان أو عملان لهما مظهر عملي، ولهما مظهر نفسي إيجابي: أولاهما - إقامة الصلاة؛ أي الإتيان بها مقومة على وجهها من أداء الأركان الحسية مستوفاة، وأن تكون مصورة للمعاني الروحية من خضوع وخشوع، واستحضار لصفات الربوبية بأن يكون قائما بحق الله فيها كأنه يراه، مستشعرا الإحساس بأنه في حضرة الله تعالى جل جلاله، وبذلك تتحقق للصلاة خاصيتها، وهي أنها تجانب المرء من فعل السوء، كما قال:(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، فليست الصلاة نقر كنقر الديكة، ولكنها تجرد لله تعالى، وانصراف، وقضاء وقت في حضرته.
والتعبير بالمضارع في قوله تعالى: (يقِيمُونَ الصَّلاةَ) يفيد المداومة عليها في أوقاتها من غير تخلف؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر الدائم، والمحافظة عليها من غير انقطاع.
وإن الصلاة فريضة عملية مهذبة تجريدية لله سبحانه وتعالى، وهي فريضة اجتماعية، لتأليف مجتمع متحاب متواد مترابط بصلات من الرحمة والتعاون، يجمعه الإلف الروحي والطهر والإخلاص والالتقاء عند الله تعالى في كل يوم خمس مرات.
ومهما يكن فالأساس في أمر الصلاة أنها تهذيب روحي، وتأليف اجتماعي على الطهر، واجتماع على الألفة والمودة والرحمة. أما الزكاة فهي تعاون اجتماعي، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مغنم لَا مغرم، لأنها تغني الفقراء، وتدفع الآفات الاجتماعية الناجمة عن الفقر، ولقد قال تعالى:(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) أي أن الزكاة من رزق الله تعالى، لَا منَّ فيها، فالله هو المعطي وهو المنفق وهو الآمر وهو المكلف، فتقديم الجار والمجرور، لبيان الاختصاص أو القصر، أي أن الإنفاق مما أعطاه الله دون غيره، وفيه من الاهتمام بأنه من رزق الله الذي رزقه للأغنياء ليعطوا منه للفقراء، فالمال مال الله، والجميع عباد الله، فهو يأخذ من مال الله ويعطي عباد الله. وإن الله اختبر بعض الناس بالمال وجعلهم مستخلفين، كما