الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(هُوَ مَوْلانَا) أي هو في اعتقادنا وإيماننا مولانا وناصرنا، ومتولي أمورنا فيما وقع وما يقع، ومن كان الله ناصره لَا يخذل، ومن كان الله معه، فإن العاقبة له إن لم يكن في هذه الدنيا، ففي الآخرة، وفيها النعيم المقيم.
(وَعَلَى اللًهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي عليه وحده يتوكل المؤمنون، وقد أمرنا بذلك، وتقديم الجار والمجرور للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون، فلا يتوكلون على أحد سواه، ولا يرجون غيره، ولا يعتمدون إلا عليه، و (الفاء) لفصل الفعل الأمر عن الإخبار.
والأمر هنا بالتوكل لَا ينافي العمل، فالعمل بالأسباب الدنيوية أولا، ولكن يجب عليه لكي ينجح العمل أن يقرن به التوكل، فالأسباب وحدها (لا تكفي) إلا بفضل من اللَّه وتوفيق، فالاتكال من غير عمل تواكل، والعمل من غير توكل على الله غرور، وتمرد على الله سبحانه وتعالى.
وإن المنافقين يتربصون الدوائر بالمؤمنين بأن تتوالى نكباتهم، ولا يتوالى ما يسرهم؛ لأنهم أعداء كارهون، والعدو الكاره لَا يتمنى لعدوه ما يسره، بل يتمنى له المكروه، ولذا قال تعالى:
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
(52)
قلنا إن المنافقين لَا يندمجون في جماعة يعيشون فيها، بل يكونون في جانب، ومن معهم في جانب آخر، كما يفعل اليهود الذين مردوا على النفاق وأجادوه.
وكذلك كان اليهود بالمدينة الذين كانوا رأس النفاق فيها، فهم يعيشون مع المؤمنين وليست قلوبهم معهم، بل هواهم مع غيرهم أيا كان ذلك الذي يغاير جماعة المؤمنين كتابيا كان أو مشركا، فهم لَا يعيشون مع جماعتهم إلا وجانبهم
لغيرهم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الاندماج مع الناس والإخلاص لهم، ولذا يعيشون مع المؤمنين ويتربصون بهم الدوائر.
ويقول اللَّه تعالى آمرا نبيه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم هذا القول ولم يسنده تعالى إلى نفسه؛ لأنه فوق الجميع، إنما جعل الرسول يسنده إلى نفسه؛ لأنه من أحد الفريقين المتربصين وإن كان الله تعالى مع المؤمنين، والتربص: الانتظار، والاستفهام للإنكار بمعنى إنكار الوقوع بدليل الاستثناء. والمعنى لَا تنتظرون لنا إلا إحدى الحسنيين، والحسنيان هما: الاستشهاد، وذلك حسن في ذاته وعند المؤمنين؛ لأنه ينتهي بهم إلى الجنة، ونعم الانتهاء. أو النصر، وهو غاية حسنة عظيمة.
وإن نتيجة التربص لَا يهواها المنافقون، فهم يتربصون الشر والفساد والخبال والاضطراب في جيش المؤمنين رغبة فيما يريدون، فيبين الله تعالى أن النتيجة تجيء عكس ما يبغون.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه، وباللفظ النازل على النبي من الله رب العالمين:(وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا).
أي نحن معشر المؤمنين ننتظر لكم أحد أمرين أيضا، وهما أن يصيبكم الله تعالى بعذاب ينزله سبحانه وتعالى بكم كصاعقة من السماء تحرقكم، أو ريح تقلبكم من الأرض، أو تموتوا في داركم جاثمين، وهذا عذاب من عند الله، وإضافته سبحانه وتعالى إليه، ينزله من عنده مظهرا لغضبه عليهم الذي يبوءون به، كما باء من قبل إخوان لهم في النفاق: اليهود ومن يواليهم، والأمر الثاني عذاب من المؤمنين ينزلونه بتمكين الله تعالى منكم.
وهنا بعض إشارات بيانية:
منها: قوله تعالى: (نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) فعبر بـ (كم) للإشارة إلى أن ما ينزل بهم عقاب، في مقابل ما حكى عنهم في قوله تعالى:(تَرَبَّصُونَ).
ومنها: قوله تعالى: (أَوْ بِأيْدِينَا) للإشارة إلى القتال الذي يكون بالأيدي التي تبطش، وذلك إشارة إلى قوة المؤمنين المؤيدة بنصر الله تعالى العزيز الحكيم.
ويقول تعالى: (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) الفاء فاء الإفصاح المنبهة عن شرط مقدر، أي إذا كان هذا أمرنا وأمركم في التربص فتربصوا.
وهذه الجملة السامية فيها تهديد لهم بسوء العاقبة بالنسبة لهم، وبيان حسن العاقبة بالمؤمنين، والله تعالى بعزته ناصر جنده، وخاذل عدوه.
* * *
لا يقبل الإنفاق من منافق
قال تعالى:
(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
* * *
إن هذه الآيات الكريمات تبين أمرين: أحدهما: أن المنافقين في كل العصور يطاولون الناس بأموالهم، ويجبنون دائما، ويستبدلون بالجهاد المال يدفعونه،
ويحسبون أنه يغني عن الجهاد والعمل للنصرة وصيانة الحق عن أن يعبث به العابثون.
ثانيهما - أنه لَا ثواب إلا مع النية المحتسبة، والنية لَا تكون إلا مع إيمان صادق بالله ورسوله والحق الثابت المبين.
وقد ذكرت الآية الأولى أن إنفاقهم طوعا أو كرها لن يقبل منهم بسبب فسقهم، وذكرت الآية التالية تفصيل المانع من قبولها، وذكرت الآية الثالثة أن أموالهم وأولادهم لَا تغني عنهم في الدنيا والآخرة شيئا. وذكرت الآية الرابعة أنهم يريدون أن يعتقد المؤمنون أنهم منهم ومنضوون في جماعتهم ليخدعوهم فلا يغروهم، متميزين عنهم تميز الخبيث من الطيب.
يقول تعالى:
(قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ) المعنى الظاهر وكتاب الله تعالى بيِّن بذاته لَا يحتاج إلى بيان، إن الله تعالى لن يقبل منهم إنفاقهم في الآخرة سواء أنفقوه طائعين أم أُكرهوا على الإنفاق، وسواء أنفقوه كارهين أم أنفقوه راغبين، فمعنى طوعا، أي طائعين راغبين في الإنفاق طيبة به نفوسهم أو كارهين غير راغبين، أو بإكراه أحد، أو بتورط، ولا يرضون.
وهذا المعنى ظاهر، ولكن كيف يخرج الأمر في هذا. وبلا شك لَا يقصد الطلب ولا الإباحة ولا الندب، ولا أي باب من أبواب الطلب وإذن فما سبيله؟.
قال القرطبي: إن معناه الشرط، وجوابه لن يقبل، وتقدير القول هكذا، إن تنفقوا لَا يقبل منكم سواء كان الإنفاق طوعا أو كرها.
وقال الزمخشري: إن معنى الأمر هنا الإخبار بأنهم لَا يقبل منهم، ويظهر أنه يعود إلى معنى الشرط، والمؤدى ينتهي إلى أنه لن يقبل الإنفاق، ومثلوا له بقول كثير عزة، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى.
أسيئى بنا أو أحسنى لَا ملومة
…
لدينا ولا مقلية إن تقلت وقد بين السبب في منع قبول أموالهم قربات عند الله، فقال سبحانه: