الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن المصريين قد قالوا هذا المعنى مواجهين موسى عليه السلام وعبر عنه بذلك التعبير العربي، وكأنه ترجمة لتعبيرهم في لغتهم.
ولقد أجابهم بقوله كما حكى القرآن الكريم: (إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عندَ اللَّهِ)، أي إن ذلك قضاء الله تعالى وقدره فيكم. وعبر عنه بطائركم تشبيها للقدر المحتوم بالطائر المشئوم؛ لأنه في معناه لاحق بهم، فإن تَعُدُّوه شؤما فهو من سوء عملكم، وختم الآية بقوله تعالى:(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون) أي لَا يعلمون أن كل شيء عند ربك بمقدار، فيتشاءمون؛ ولذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الطيرة، وقال:" لا عدوى ولا طيرة "(1) أي لَا عدوى إلا بإذن الله تعالى العلي القدير.
ومع أن الله تعالى قد ابتلاهم (بالسِّنِينَ وَنَقْصٍ منَ الثَّمَرَات لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ) ويطمئنون إلى الله الذي هو منشئ العالم، وأنه ليس لفرعون أَية ألوهية، ومع ذلك أصروا على كفرهم، ورموا موسى بأن هذا الابتلاء سحر يسحرهم به موسى، وأنهم لَا يؤمنون؛ ولذا قال الله تعالى عنهم:
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الطب - الفأل (5756)، ومسلم: السلام - الطيرة والفأل (2224)، وتتمة الرواية:" ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة ".
(وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
(132)
مهما تأتي من معجزة باهرة قاهرة، فإنها لَا تعدو أن تكون سحرتنا بها، فما نحن بمؤمنين لك، أي بمسلمين لله بالحق الذي تدعو إليه، نفوا إيمانهم مؤكدين النفي بالباء الدالة على استغراق النفي، وبالجملة الاسمية وتقديم الجار والمجرور " لك " على " مؤمنين "، وقولك مؤمنين لك، أي إجابة لدعوتك منضمين لك، فلن نخرج عن صفوف الفرعونية الكافرة الجاحدة إلى صفك المؤمن المذعن لله تعالى. نزلت عليهم آيات قاهرة أشد من الأولى بسبب إصرارهم على الكفر، وقد ذكرها الله تعالى بقوله:
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ
(133)
وأرسلنا: بمعنى أنزلنا قاصدين كأن هذه مرسلة من عندنا، والطوفان هو المطر الشديد، وفيضان النيل الطاغي الذي أغرق الزرع، وأهلك النسل، وهدم البيوت، وما كان لفرعون طاقة على إنجائهم والسيل قد طم، وحزب، وصار عبثًا، لَا غيثًا.
والجراد، وهو الطير الصغير المعروف الذي يأكل الزرع، ويفسده، وخصوصا ما كان قوتا، فإنه يسلط على القمح، والشعير، والأرز، ويتعدى طعام الإنسان إلى طعام الحيوان.
وبعد البلاء في زرعهم وحرثهم ونسلهم كان البلاء في أجسامهم، فسلّط عليهم القمل، وهي دويبة صغيرة، وقال ابن عباس: القمل السوس، وهو يصيب الزرع المخزون لأكلهم فيصيبهم، وقيل: إنه القمل المعروف الذي هو داء في الأجسام ومرض من الأمراض.
والضفادع جمع ضفدع، وهي الحيوان المعروف، كثرت وكثر ضجيجها حتى أزعجتهم، وأفسدت زرعهم وملأت أرضهم فكانت الحياة مع هذه الكثرة حياة شاقة شديدة لَا تحتمل.
والدم، قالوا: إن النيل صار ماؤه دما، ومات السمك فيه، فأصبح لا يسقي، بل يميت، وإنا لَا نعترض على ذلك التفسير، وقد روي عن بعض الصحابة، ولم نر فيه حديثا صحيحا، يذعن المفسر لمثله، ولكن صريح اللفظ أنه الدم، ولعل الله تعالى اختبرهم بذلك وقتا وإن لم يكن طويلا، ولكنه أراهم آياته مفصلات، ويصح تفسير الدم بمرض أصيبوا به كرعاف ونزيف وضغط.
ولقد قال الكثرة من المفسرين: إن الله تعالى اختبرهم أولا بالطوفان الذي خرب ديارهم، وأفسد زرعهم فدعوا الله أن يكشف ذلك عنهم، ودعا لهم موسى ووعدوه بأن يؤمنوا إذا كشف عنهم الضر، فكشف فلم يؤمنوا، فأصيبوا بالجراد فطلبوا أن يدعوا لهم فاذا كشف عنهم آمنوا، فكشف فلم يؤمنوا، ثم اختبرهم بالضفادع كذلك، وبالدم كذلك ولم يؤمنوا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين.
والاستكبار عن الحق سبيل الضلال والوقوع في الذل، وقوله تعالى:(وَكانُوا قَوْمًا مّجْرِمِينَ) فيه تسجيل الإجرام والعتو عليهم، وقد أكد سبحانه وتعالى إجرامهم واستمرارهم على الإجرام، وسيطرة الأخلاق الفرعونية عليهم، وإنها فساد كلها،