الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهمْ)(إن) مدغمة في (ما)، و (ما) زائدة لتوكيد القول، ولذا جاء في الفعل نون التوكيد وجوبا. أو قريبا من الوجوب، والتأكيد للفعل، أي إن تأكدت من وجودهم، فلا تجعلهم يفلتون من يدك، واضربهم الضربة القاسمة التي تفزع من خلفهم فيشردون، بدل أن يكونوا مجتمعين للشر، فضرب من يقع في اليد من الأشرار ضربات قاسمة يجعل من خلفهم ممن هم على شاكلتهم مشردين غير مجتمعين، ومعنى (تَثْقَفَنَّهُمْ) تجدهم في ثِقاف، أي حال ضعف تقدر فيها عليهم، وذلك من قوله ثقفته أي وجدته.
وقوله تعالى: (فِي الْحَرْبِ)، أي انساقوا إليك محاربين، وقدرت عليهم فاغلظ عليهم واضربهم الضربات القاسمة التي تجعلهم نكالا لغيرهم، فلا يستمرئون الشر بعد ذلك، وقال تعالى:(فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ) أي شرد بضربهم والتنكيل بهم مَن خلفهم، فإذا رأوا الهوان ينزل بمن هم على شاكلتهم جزاء غيهم، فإنهم لَا يجتمعون لحرب أهل الحق بعد ذلك؛ إذ إن ضرب الذين جاءوا للحرب وأخذهم بالسوق والأقدام يجعلهم لَا يجتمعون على قتال لأهل الحق، فلا يهاجمون المؤمنين من بعد ذلك؛ ولذا قال تعالى:(لَعَلَّهمْ يَذكًّرُونَ) أي رجاء أن يعتبروا بغيرهم، ويذكروا مآلهم الذي يستقبلهم بما يرون فيمن تقدَّموهم، إن في ذلك لذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ
(58)
" إما " هنا كما في قوله تعالى: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) هي " إنْ " الشرطية مؤكدة بلفظ " ما "؛ ولذا أكدت بالنون الثقيلة، ويكون تأكيدا للشرط، فهو تأكيد للخوف، والمعنى إن خفتم خوفا مؤكدا توافرت أسبابه، حتى يكون توقع الخيانة أمرا ثابتا قامت أماراته وبدرت بوادره، (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء) أي اطرح عهدهم وانبذه نبذا ظاهرا معلوما تكون وهم على سواء، لَا يربطكم، ولتأكد الخوف قال بعض المفسرين: إن معنى الخوف هنا العلم.
وقد فسرنا كما ترى معنى (عَلَى سَوَاء)، أي لتكونوا معهم على سواء أي متساوين تحُللون من العهد ويتحللون ويكون الاستعداد من الجانبين، وقيل: إن معنى (عَلَى سَوَاء) أي يكون النبذ معلوما مشهورا.
وإن النبذ يقتضي أن يكون ثمة عهد قد خانوه، أو همُّوا بأن يخونوه، وتأكد لديكم هذا، وتلك هي الأمانة التي أودعها الله تعالى أوامره للمؤمنين، بأن يكون أشرافا في الوفاء بعهودهم، فإذا توقعوا الخيانة متأكدين لها، فإنهم لَا يَسْبقون بالخيانة، بل يَنّبُذون ويُعلمونهم بأن لَا عهد.
وإن الخيانة لها صورتان:
الصورة الأولى - صورة الذين يتوقعون الخيانة ومتأكدين من وقوعها قبل أن تقع، وفي هذه الحال يعلنون ترك العهد واعتباره كان لم يكن ليستعدوا.
الصورة الثانية - أن يغدر المتعاهدون بالفعل، كما غدر المشركون في صلح الحديبية، فقد كان العهد يجيز لمن يدخل في جانب محمد أن يدخل فلا يعتدى عليه، فدخلت خزاعة في عهده، فاعتدت عليها قريش، وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي، ونراه الآن، ولذا يقول تعالى:(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَان مَسْئُولًا)، فكان الاعتداء بل الخيانة بالفعل.
وقد زال العهد بذلك، فكان متحللا، ولذا غزا الغزوة الكبرى بفتح مكة من غير نبذ، إذ هم قد نبذوه من قبل لَا بالقول بل بالفعل.
وقد كان الصحابة قبل أن ينقضوا هذا العهد بالفعل، يحذرون النبي صلى الله عليه وسلم من نقضهم ويخافونه، فكان النبي الوفي الأمين يقول:" وفوا لهم واستعينوا الله عليهم ".
وإن ذكر الخوف من الخيانة يقتضي أن هناك عهدا عاهده صلى الله عليه وسلم أو من جاء بعده، ويخاف من نقضه فإنه لَا خيانة إلا في عهد مبرم.
ونقول: إن الخيانة قد تكون بحرب يعدُّونها، وينقضون بها السلم الذي كان بحكم العلاقات الأدبية أو السلمية، ويريدون أن يخونوا المسلمين ويأخذوهم، فإنه
إذا تأكد المسلمون نبذوا هذا السلم الذي كان أصل هذه العلاقة وكانوا معهم على سواء.
ولا يقال: إن النبذ بُني على الخوف من الخيانة، والخوف ظن، ولا يبنى أمر قطعي على أمر ظني - لأننا قلنا: إنه خوف مؤكد بدت بوادر الخيانة، وظهرت أماراتها، والقائد المدرك لَا ينتظر حتى تقع الخيانة، بل يسارع بنبذ العهد، ويستعد لهم، ويحلهم من العهد، كما أحل نفسه، حتى لَا يؤتى من غرة.
فعن عمرو بن عبسة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان بينه وبين قوله عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى يمضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء (1).
وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ الْخَائنينَ). هذا النص السامي فيه تعليل للنبذ على سواء، أي أن النبذ على سواء إعلام بإنهاء العقد، ليكون معلوما مشهورا، ولا يقع المؤمنون في خيانة؛ لأن الله تعالى لَا يحب الخائنين، فالنص يمنع عن الخيانة، بالنبذ على سواء، وإلا لو هجموا سواء على دمائهم قبل النبذ فقد خانوا، والله تعالى لَا يحب الخيانة وقد أكد نفي محبة الله تعالى للخيانة بالجملة الاسمية، وبـ " إن "، ونفي المحبة أبلغ في النهي؛ لأن محبة الله مطلوبة فإذا كانت الخيانة لا تؤدي إليها فهي منهي عنها نهيا شديدا مؤكدا.
* * *
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
* * *
(1) رواه الترمذي وصححه: السير - ما جاء في الغدر (1580)، وأحمد: مسند الشاميين (16567) وأول مسند الكوفيين (18943)، وأبو داود في الجهاد - الإمام يكون بينه وبين العدو عهد (2759).
هاتان آيتان في بيان قوة الإيمان وأهله، وأنه لَا يعجزه شيء ما دام مؤمنا بالله ومستعينا به سبحانه، وما دام يستعد ويأخذ في أسباب القوة، ولقد كان المشركون يتوهمون الغلب لمجرد أن يسبقوا في أمر أو يفوزوا فيه أو يفلتوا من مصادرة عيرهم، فبين الله تعالى أنهم إن نجوا مرة لَا يعجزوا الله تعالى ورسوله والمؤمنين، ولذا قال تعالى:
(وَلا يَحْسَبَنَ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزونَ).
" الواو " للاستئناف، و " لا " ناهية، والنهي عن الحسبان والظن هو نهي عما ينبغي، لأن الحسبان لَا يقع عليه النهي إنما المراد - فيما يظهر والله أعلم - لَا ينبغي لهم أن يحسبوا أنهم سبقوا أي فازوا، إذا سبقوا إلى عيرهم وأخذوها وأفلتوا بها فإنهم لَا يعجزون، ولم يذكر في الآية ما سبقوا فيه أو ما فازوا به، بل أطلق نفي ظنهم أنهم سبقوا أي نوع من السبق، أو فازوا بأي نوع من الفوز، فالمعنى أنهم لا يظنون أنهم يسبقون بأي سبق، فحياتهم فارغة أبدا، لأنهم ليست لها غاية، لأن أي سبق لهم فهو لغو، وأن نهايتهم واحدة إن استمروا على كفرهم، وإن الله تعالى غالب، والنصر للمؤمنين وقوله تعالى:(إِنَّهمْ لَا يُعْجِزُونَ) قرنت بكسر (إن)، وتكون الجملة مستأنفة في معنى تعليل نهيهم عن حسبان أنهم سبقوا على المعنى الذي ذكرناه، لأنه ما دامت النهاية للمؤمنين وأنهم لَا يعجزون، فالهزيمة لاحقة بهم مهما سبقوا، ومهما يفوزوا في حركات ليست هي النهاية، والله من ورائهم محيط حتى يوم القيامة.
وهناك قراءة بفتح أن (1)، أي أنهم لَا يعجزون، وتكون هنا لام التعليل محذوفة، ومفهومة من مطوى الاسم: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزون، وكثيرا ما تحذف لام التعليل، لأنها مفهومة من سرد القول، والمعنى الجملي للنص السامي أنهم مهما يسبقوا ويفوزوا فإن الغلب عليهم، ولا تحسبنهم معجزين من المؤمنين، كما في قوله تعالى:(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَروا معْجِزِينَ فِي الأَرْضِ. . .)، وقوله تعالى:(لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
…
).
(1) قراءة (أنهم لَا يعجزون) بها قرأ ابن عامر، وقرأ الباقون بكسر الهمزة. غاية الاختصار (938).