المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أولئك من مشركين وكتابيين يريدون إطفاء نور الله، فهم يعاندون - زهرة التفاسير - جـ ٦

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌(25)

- ‌(27)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌31)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(35)

- ‌(36)

- ‌(37)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(41)

- ‌(43)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(47)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(50)

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(58)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(64)

- ‌(66)

- ‌(67)

- ‌(69)

- ‌70)

- ‌(71)

- ‌(72)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(76)

- ‌(77)

- ‌(80)

- ‌(82)

- ‌(83)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(90)

- ‌(92)

- ‌(95)

- ‌(96)

- ‌(97)

- ‌(98)

- ‌(99)

- ‌(100)

- ‌(102)

- ‌(104)

- ‌(105)

- ‌(106)

- ‌(107)

- ‌(109)

- ‌(111)

- ‌(113)

- ‌(115)

- ‌(116)

- ‌(117)

- ‌(118)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(124)

- ‌(126)

- ‌(128)

- ‌(129)

- ‌(131)

- ‌(132)

- ‌(133)

- ‌(134)

- ‌(135)

- ‌(141)

- ‌(143)

- ‌(146)

- ‌(147)

- ‌(149)

- ‌(151)

- ‌(152)

- ‌(153)

- ‌(156)

- ‌(158)

- ‌(160)

- ‌(161)

- ‌(162)

- ‌(164)

- ‌(165)

- ‌(166)

- ‌(168)

- ‌(169)

- ‌(170)

- ‌(172)

- ‌(173)

- ‌(174)

- ‌(177)

- ‌(178)

- ‌(180)

- ‌(181)

- ‌(183)

- ‌(184)

- ‌(185)

- ‌(186)

- ‌(188)

- ‌(190)

- ‌(191)

- ‌(193)

- ‌(194)

- ‌(196)

- ‌(197)

- ‌(198)

- ‌(200)

- ‌(201)

- ‌(203)

- ‌(205)

- ‌(سُورَةُ الْأَنْفَالِ)

- ‌(4)

- ‌(6)

- ‌(10)

- ‌(12)

- ‌(13)

- ‌(14)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(19)

- ‌(21)

- ‌(23)

- ‌(24)

- ‌(25)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(35)

- ‌(36)

- ‌(37)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(42)

- ‌(45)

- ‌(46)

- ‌(47)

- ‌(49)

- ‌(50)

- ‌(51)

- ‌(53)

- ‌(54)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(60)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(64)

- ‌(66)

- ‌(68)

- ‌(69)

- ‌(70)

- ‌(71)

- ‌(73)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(سُورَةُ التَّوْبَةِ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(6)

- ‌(7)

- ‌(8)

- ‌(10)

- ‌(11)

- ‌(12)

- ‌(15)

- ‌(17)

- ‌(20)

- ‌(22)

- ‌(24)

- ‌(26)

- ‌(27)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌(31)

- ‌(33)

- ‌(35)

- ‌(40)

- ‌(41)

- ‌(43)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(47)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(54)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(59)

- ‌(60)

- ‌(63)

الفصل: أولئك من مشركين وكتابيين يريدون إطفاء نور الله، فهم يعاندون

أولئك من مشركين وكتابيين يريدون إطفاء نور الله، فهم يعاندون الله، والله تعالى غالب عليهم، ولذا قال تعالى:(وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا)، في مقابلة (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يتِمَّ نُورَهُ)، هم يريدون والله تعالى يأبى عليهم، ويأبى عليهم كل أهوائهم، وعلى ذلك فمعنى (يأبى) لَا يريد الله، والاستثناء حينئذ مفرغ، والاستثناء المفرغ لَا يكون إلا في حال النفي، مثل لا يقوم إلا أحمد، ولا يهدي إلا محمد، ولا معجز إلا القرآن.

فكيف يكون قوله تعالى: (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) استثناء مفرغا، ونقول إن (يأبى) متضمنة معنى (لا يريد)، في مقابل (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْوَاهِهِمْ)، فهم يريدون الإطفاء والله لَا يريد إلا أن يتم نوره، ويعم الوجود الإنساني، وإرادة الله هي النافذة، لأن إرادتهم ظلمة، والنور كاشف الظلمة، (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) لأن ستر الحقائق والتمويه والتضليل لَا يدوم مهما بطل الزمان، وقد أيد الله دعوة الحق بإرسال محمد يكشف به الظلمات، فقال تعالى:

ص: 3286

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‌

(33)

الضمير يعود على لفظ الذي يأبى إلا أن يتم نوره، وكان من إتمام نوره إرسال محمد صلى الله عليه وسلم الذي أبطل الشرك وأبطل مقالة أهل الكتاب التي ليس لها من الحق سلطان تقوم عليه.

قال تعالى: (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) الهدى هو القرآن، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من هداية. أخرجت العرب من الظلمات، والقرآن فيه الهدى الكامل كما قال تعالى:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. . .).

و (الباء) في قوله تعالى: (بِالْهُدَى) للمصاحبة أي مصاب للهدى أي معه المعجزة الباهرة، والهداية الكاملة.

ص: 3286

وأضاف الرسول إليه سبحانه في قوله: (رَسُولَهُ) تنويها بشأنه، وتشريفا وتكريما، وللإشارة إلى أنه ناصره ومؤيده وقاهر عدوه مهما يكونوا. وقوله تعالى:(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) اللام للتعليل أو للعاقبة، وعلى أنها للتعليل يكون المعنى أنه أرسله ليظهره على الدين، فالإرسال وكونه رسوله علة للإظهار، أو للعاقبة، ويكون لتكون عاقبة الإرسال أن يظهره على الدين كله.

ودين الحق هو التوحيد، والإضافة للبيان، أي الدين الحق، والإضافة تدل على أنه الدين الحق الذي هو لباب الأديان الحق كلها، ولذا قال تعالى:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. . .)، وهو التوحيد.

وقال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الدين كله قالوا إن المراد على الأديان كلها، ولكنا نرى أن المراد الدين الحق الذي ذكره أولا؛ لأن إعادة المعرفة معرفة تكون عينها، ومعنى ظهوره على الدين كله المراد بقاؤه ظاهرا معروفا، لأنه خاتم الرسل وآخرهم، ويتضمن كل ما جاءت به الرسل جميعا، وهذا هو معنى " كله " فهو الدين الجامع لكل الرسالات السابقة، فمن آمن بها فقد آمن بكل الشرائع السماوية السابقة سليمة غير محرفة.

هذا ما نختاره والله الموفق للصواب.

وقد جاءت أخبار كثيرة تدل على انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وإنها لصادقة (راجع تفسير الحافظ ابن كثير)، وفي هذه الأخبار الصحاح إشارة إلى أن الأمراء هم الذين يفسدون أمر المسلمين، فقد جاء في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه:" سمعت شقيق بن حبان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " (1) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - أحاديث رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (22599).

ص: 3287

فحكام " المسلمين هم " الذين. أفسدوا الناس وكانوا حجة على هذا الدين، ومهما يكن فإن الله أظهر الدين على الدين كله، وقال:(وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الذين عادوا الله وعادوا الحق، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله.

وإن الله تعالى حافظ دينه، وإذا كان المسلمون قد غلبوا على أمرهم بعمل حكامهم، فإنه لَا تزال طائفة منهم قائمة على الحق تنادي به وتحفظه. بعد أن بين الله الضلال الذي أضل به الأحبارُ والرهبانُ اليهودَ والنصارى إذ اتخذوا أربابا من دون الله، وذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد أرسل بالهدى والدين الحق ليزيل ضلالهم، وليظهر بالحق على الدين عاد إلى الكلام في الأحبار وكيف فسدوا وأفسدوا، فقال تعالى:

* * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

* * *

الخطاب للذين آمنوا والنداء لهم بالبعيد، والخبر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى، فلماذا كان الإخبار للذين آمنوا؛، أَلِمُجَرَّدِ القصص الحكيم الذي تكون فيه العبرة أم له ولأمر آخر يطويه الإخبار بقول إن القصص لَا ريب فيه العبرة كما قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ. . .)، ولكنه يطوي أمرين آخرين، وهما:

ص: 3288

أولا: ألا يثق المؤمنون بهم بما يلبسونه من طقوس، ومسوح يلقون بها بين الناس المهابة منهم والثقة فيبين الله للمؤمنين أنهم يتجرون بعلمهم، ويأخذون الرشا وسحت المال، والاتجار بالعلم في ذاته غير جائز، فكيف إذا كان الثمن رشا وبراطيل وسحت المال.

وثانيا: ليكون ذلك تحذيرا لمن يتعلمون علم الإسلام بألا يتخذوه مُتَجرًا يتجرون به، فعلم الإسلام أعلى ما يدخره العلماء فلا يبيعونه ولا يحطون به على هوى الحكام، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: " والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان الثوري: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. . . والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم، ويقول في ذلك الفقيه عبد الله بن المبارك:

" وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها "

ص: 3289

(لَيَأكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ) معناها يأخذونها بغير مسوغ ديني، وعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأكل في الأصل هو أوضح الغايات، ولأنه ينبئ عن الشره والطمع في الأموال وأخذها بغير حق، وذلك أانهم كانوا يأخذون سحت الأموال، ويبيعون ما يحلونه لأنفسهم من الدين، ويأخذون البراطيل، وكلما زادت ثقة الناس فيهم ازدادوا طمعًا في أموالهم، بل فيما هو أفحش من باطل الأموال، وبعد أن ضعف الدين في قلوب علمائنا كان منهم من يفعل مثل فعلهم، ويقول في ذلك ابن كثير: " وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ومناصبهم، ورياستهم في الناس يأكلون بها أموالهم، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرباسات فأطفاها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها!.

وإن نور النبوة المحمدية بعد أن بزغ، وعم ضياؤه كان مزيلا لما يشيعه الأحبار والقسيسون من إفساد وضلال، ولذلك لما فتك النصارى بالمسلمين في

ص: 3289

الحروب الصليبية كان بعده الإصلاح المسيحي، مع أن حال المسلمين لم تكن كما أراد لها الإسلام.

كلمة (والأحبار) فسرناها من قبل بالعلماء الذين يحبرون العلم، ويزينونه بحسن الأداء والبيان واللسان والقلم، ولكن بعض المفسرين يفسرون الأحبار بأنهم علماء اليهود، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:(لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. . .)، وأما علماء النصارى فيقال عنهم قسيسون، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:(. . . ذَلِكَ بِأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)، والرهبان عباد النصارى ولعلهم يقابلون الربانيين في اليهودية ولا مانع من هذه التسمية، ولعل إطلاق الأحبار ربما يسع القسيسين ليكون سيرا على الأصل اللغوي من معنى كلمة الأحبار.

وعبر سبحانه وتعالى عن كل كسب خبيث بقوله تعالى: (بِالْبَاطِلِ)؛ لأن الباطل يشمل أخذ المال بغير حق، يبرر الأخذ بالخديعة أو بالغش والتدليس والاتجار بدين الله تعالى.

ومع أنهم كانوا يخدعون الناس بتدينهم الآنف، وخصوصا الرهبان كانوا يصدون عن سبيل الله تعالى، فقال تعالى:(وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلٍ اللَّهِ) كأنهم يتخذون مسوحهم ورياستهم الدينية، لابتزاز الأموال، وأخذها بغير حقها، والعبث بها، واكتنازها متخذين في ذلك مظاهرهم ذريعة لمآثمهم، يصدون ويمنعون أتباعهم الذين اتخذوهم فريسة لأهوائهم من أن يتبعوا الحق، والنور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل الله الحق الذي لَا يمتري فيه عاقل، ولا ذو قلب، وبصر، كما قال تعالى:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سبِيلِهِ. . .).

وإن الأموال التي يأخذونها يجمعونها، ويكنزونها، ومأواهم جهنم، ولذا قال سبحانه بعد ذلك:

ص: 3290

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

وهذا النص الكريم يبين أن جمع المال لَا يجدي، ويضر صاحبه، ومآله شر في الدنيا والآخرة، والكنز في اللغة: الضم والجمع لكل شيء ثمين سواء دفن في باطن الأرض، أو لم يدفن، ولكن شاع استعماله فيما يدفن في باطن الأرض، ولكن شيوعه لَا يمنع أصل إطلاقه، ولا يمنع الشيوع من أن يطلق على الأصل اللغوي القوي، ولقد قال شيخ المفسرين الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها.

وظاهر الآية يدل على أنها عامة تعم الأحبار والرهبان وغيرهم من المسلمين وغيرهم، ولكنها سيقت في مقام الكلام على أكل الرهبان والأحبار لأموال الناس بالباطل، ولا يمنع ذلك من عموم؛ لأن لفظها عام، والعبرة بعموم اللفظ، وقد جرت مناقشة في ذلك بين أبي ذر الصحابي الجليل، ومعاوية بن أبي سفيان، ولنذكر بعضها:

قال الحافظ ابن كثير: " كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحث الناس عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه ".

كان الصحابي الطاهر المؤمن يعيش في الشام، والأمير معاوية، وأبو ذر يجهر برأيه ويحث الناس عليه ويستنكر النعيم الذي يرفل فيه معاوية، ومن يواليه، فأبلغ أمره إلى أمير المؤمنين عثمان ذي النورين، فأحضر أبا ذر، فاختار أبو ذر أن يقيم بالربذة، ولكن الراجح من الروايات أن عثمان هو الذي أنزله بها، وبها مات رضي الله عنه.

وقد روى البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: " كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} " قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، فَقُلْتُ: " نَزَلَتْ فِينَا

ص: 3291

وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ " فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، «فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا المَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ ".

وإن هذا الحديث يدل عنى أنه اختار هذا البعد، وربما يكون قد اختار الربذة بالذات.

وفى المناقشة بينه وبين معاوية أغلظ، وقد أراد معاوية أن يغويه بالمال أو يختبره وهو عنده، أيوافق قوله عمله أم لَا، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها على الفقراء من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها، فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب، فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبتك. وفي الحق أن أبا ذر قد أصاب كل الإصابة في قوله: إن الآية تعم الأحبار والرهبان وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم وأخطأ معاوية، وما لمعاوية وفقه القرآن!.

ويحق إذن أن نقول إن الآية عامة لَا تخص الأحبار والرهبان، ولا نسير إلى المدى الذي يسير إليه سيدنا أبو ذر الصحابي المخلص بحيث لَا يبيح لذي المال إلا ما يكفيه وعياله كما كان يفعل في - ذات نفسه، ويدعو إليه. روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، فقضت منها سبعة، فقلت: لو ادخرت لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، فقال: إن خليلي أوصاني أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغا.

ولقد قال ابن عبد البر: " وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة!.

ص: 3292

ونحن نتبع جمهور الصحابة؛ وذلك لأنه إذا لم يبق شيء من المال بعد نفقاته ونفقات عياله لم يكن ثمة زكاة، لعدم وجود وعاء لها، فشرعية الزكاة توجب مالا مدخرا حولا، وذلك ينافي ما ذهب إليه أبو ذر رضي الله عنه. وأيضا فإن الأخذ برأي الصحابي الجليل ينافي الميراث؛ لأن الميراث يكون في المال الذي يبقى، وقد منع الصحابي الجليل بقاء أي مال يورث أو تجب فيه الزكاة.

وأيضا فإن معنى رأيه إلغاء الوصية مع الميراث، وقد شرعت الوصية بالقرآن، وبالحديث النبوي، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " إن اللَّه تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث مالكم فضعوه حيث شئتم) (1) ولقد كان من الصحابة من لهم ثروات في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فما استنكرها عليهم، فعثمان كان ثريا وتاجرا، وعبد الرحمن بن عوف كان ثريا وتاجرا، وأبو بكر وعمر كانا من ذوي الأموال.

وإنه لو أخذ برأي أبي ذر ما كانت التجارات، فأسواقها تقوم على رءوس الأموال، وما كانت الصناعات، فهي أيضا تقوم على رءوس الأموال.

من أجل هذا كان لابد من تخصيص كنز الذهب والفضة الذي أوعد الله تعالى، وقد خصصوه من ذات النص القرآني فقد قال تعالى:(وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا ينفِقونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إن الوعيد على الأمرين مجتمعين لا على أمر واحد منهما. فليس الوعيد على الكنز لذات الكنز، وإنما الوعيد على الأمرين معا، على الكنز وعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، فإذا وجدا معا كان التبشير بالعذاب الأليم، وكان الوعيد الشديد لمن يمنع الإنفاق مع أنه يكنز المال، ولذا تضاربت الروايات على أن من يعطي الزكاة لَا يكون عليه إثم الكانزين، بل إنه لَا يعد كانزا من يخرج حقه في سبيل الله، وإنما الكانز هو الجامع للمال الذي يمنع حقه.

(1) سبق تخريجه.

ص: 3293

وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن الإنفاق يمنع إثم الكانز الذي يجمع المال، وإنما ورد في الأثر الصحيح:" نعم المال الصالح في يد العبد الصالح "(1).

ويجب أن نشير هنا إلى أن الآية تشير إلى أن المال لَا يكنز من الذهب والفضة، بل يجب أن يخرج للاستغلال الحلال بالاتجار، والصناعة، والزراعة، ولا يبقى في الخزائن، كالماء العطن الذي لَا ينتفع به، وفي الآية إشارات بيانية: منها - قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب) فإن في الآية تهكما عليهم؛ لأن العذاب الأليم لَا يبشر به، بل يهدد به، وفي التعبير بقوله تعالى:(فَبَشِّرْهُم) تهكم بهم، إذ إنهم كانوا يرتقبون خيرا في الآخرة من تكاثرهم في المال واكتنازه فجاءت العقبى غير ما يرتقبون.

ومنها - أن الضمير أعيد على الذهب والفضة بضمير المؤنث في قوله: (وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لملاحظة المعنى وهو الدنانير من الذهب، والدراهم من الفضة، وهي جمع، فأعيد عليها بضمير المؤنث، وهو لما لَا يعقل يكون بالضمير المؤنث.

والثالثة - أنه ذكر الكنز في الذهب والفضة دون غيرهما مع أن الأموال كثيرة، وكان المال يطلق على النعم دون غيرها، وأجيب عنها بأن الذهب والفضة تطلق على كل المال، وهما مقياس التقدير لكل الأموال، وقد قال في ذلك الزمخشري: إنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما، لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما.

(1) عن عَمْرو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي» فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَزْعبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً». قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ زَعْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: " يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ. رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه (17309).

ص: 3294