الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجهاد، وهو الذي جعلكم تعتذرون عنه بأعذار مكذوبة، وهو الذي جعلكم تحلفون ممتهنين الأيمان المغلظة.
فهم حاولوا إرضاء المؤمنين ولم يحاولوا إرضاء الله ورسوله لأنهم يعلمون أن ذلك غير ممكن، ولذا قال تعالى فيما تلونا (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) أي لو كانوا مؤمنين ولا يريدون التخلف، وإن تخلفوا فبأعذار صادقة - لآمنوا أن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وإرضاء الله ورسوله ليس يالأيمان الكاذبة، إنما هو بأن يخلعوا أنفسهم من النفاق، ويؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان.
وفى قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) إشارة بيانية، وهي أن الله تعالى ورسوله ذكر أنهما أحق بالإرضاء، ولكنه عند عود الضمير أعاده مفردا (يُرْضُوهُ)، وذلك للإشارة إلى أن إرضاء أحدهما إرضاء لهما، فإرضاء الله تعالى إرضاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وإرضاء النبي صلى الله عليه وسلم إرضاء لله تعالى، كما قال:(مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. .)، وفي ذلك إشارة إلى أن الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يتهجمون على مقام الألوهية ويتحدون الله ورسوله، ولقد قال تعالى:
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
(63)
لقد كان هؤلاء المنافقون مع ما يظهرون من محاولة إرضاء المؤمنين ليبثوا فيهم الخور، وضعف العزيمة، حتى إنه في غزوة " أُحُد " بتأثيرهم - همَّت طائفتان أن تفشلا بعمل كيدهم.
كانوا مع ذلك يستهزءون بالمؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم وقد وضعوا أنفسهم في حيز، محادين الله ورسوله، فقال تعالى فيهم:
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الاستفهام هنا للنفي والتوبيخ، ولم نافية، ونفي النفي إثبات كما يقول أهل العلم بالعربية، فالمعنى لقد علموا أنه من
يحادد الله ورسوله، فأن لهم جهنم، وكان الإثبات بهذه الطريقة البيانية لتأكيد علمهم وتأكيد شرهم، كأنهم أقدموا على هذا الشر عالمين، ووجه التأكيد في التقرير بهذه الطريقة مؤداه أنه سئل عنهم: يعلمون أم لَا يعلمون، فأجيب عنهم بأنهم يعلمون، فكان في ذلك فضل تأكيد.
وحاده كـ (شاقَّه)، أي جعل بينه وبين الحق حدا، لَا يصل الحق إليه، ولا يحاول هو أن يصل إلى الحق، ومن يكون في جانب، والله تعالى في جانب آخر، كأنه يناوئه ويقاومه، ولقد قال تعالى:(لا تَجِدُ قَوْما يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .).
وقوله تعالى: (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) فيها قراءتان قراءة حفص بفتح (أن)، وتخريج القول على هذه القراءة أن النار واقعة في جواب الشرط، وأن والمصدر المنسبك منها وما بعدها، فاعل لفعل محذوف تقديره (فقد ثبت أن لهم جهنم خالدين فيها أبدا)، وهناك قراءة بكسر (إن)(1)، وتكون هي وما بعدها جملة مبتدأة، واقعة في جواب الشرط، أو دالة على جواب الشرط، وذلك على تقدير أن الشرط محذوف، ويكون المحذوف تقديره (هالك).
قوله تعالى: (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)، أي أنهم إذا كانوا في الدنيا يتسترون بنفاقهم، ويخفون حقيقة أمرهم، فإن ذلك مكشوف يوم القيامة، إذ ينكشف أمرهم ويتبين حالهم، ويكون خزيهم وهم خالدون فيها المنافق دائما حذِر من أن ينكشف أمره، وقد رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي ويخبره بكشف أمر المنافقين، فكانوا يخشون إذا نزلت سورة أن يكون فيها كشف لأمر من أمورهم، فقال تعالى:
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
(1) قراءة (فأن) بالفتح، ليست في العشر المتواترة.
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ) إخبار عن المنافقين بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة، والحذر يكون دائما من شأن من يستر شيئا؛ لأنه يخشى أن يكشف، وإذا كشف ضاع الغرض الذي ستره من أجله، والسورة الجزء من القرآن المفصول عن غيره كأنه سوِّر بسور يحدُّه، والتنزيل من الله تعالى على نبيه الكريم، فلا تنزل على المنافقين، إنما تنزل على قلب محمد الأمين، فكيف تنزل عليهم، ولكن المراد أنها تنزل في شأنهم، وكانت التعدية بـ (على) للإشارة إلى أنها تنزل عليهم كالصاعقة يفاجئون بها، وعلى ذلك يكون الضمير في (عَلَيْهمْ) يعود إلى المنافقين، وكذلك الضمير في (تُنبِّئُهم)، وقوله تعالى:(بِمَا فِي قلُوبِهِمْ) ويصح أن يكون قوله تعالى: (يَحْذَر الْمُنَافِقون) في معنى الأمر، وكثيرا ما تجيء الصيغة الخبرية بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ. . .)، وكما في قوله تعالى:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قًرُوء. . .)، فإن الخبر في كل هذه الصيغ يدل على الطلب.
ولكن تخريجها بمعنى الخبر أولى؛ لأنه يناسبه قوله تعالى في الآية (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ).
والزمخشري يرى أن الضمير في (عَلَيْهِمْ)، و (تنَبِّئُهُم) يعود على المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الشأن في النزول القرآني أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، وأما الضمير في قوله تعالى:(بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) فإنه يعود على المنافقين؛ لأنهم الذين يخفون ما لَا يبدون، فالأنسب أن يعود إليهم، والقرائن تعين عودة الضمائر على هذا النحو.
كان المنافقون يستهزئون في مجالسهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وبالجهاد، حتى أنهم كانوا في غزوة تبوك التي كانت ذاهبة إلى الشام يتهكمون على المؤمنين، ويستهزئون بهم، ولا يكتفون بالقعود عنهم، ولقد روي أنهم كانوا يقولون مستهزئين: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات. وكانوا يريدون ألا يطلع على ذلك أحد من المؤمنين، ولذا قال تعالى:
(قُلِ اسْتَهْزِئُوا) هذا أمر للتهديد، كقولك للمجرم الذي بدا إجرامه افعل ما شئت، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا لم تستح فاصنع ما شئت "(1).
(إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) أي إن الله تعالى كاشف ما تأتمرون به، وما تستهزئون به من قول يكشف عن نفاقكم، وفي قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) أي أن يخرج، تأكيد لإخراج هذا الأمر الذي يحذرون خروجه، أولا بالجملة الاسمية، و (إِنَّ)، الدالة على توكيد الخبر، وفي التعبير بلفظ الجلالة الذي يربي الرهبة والخوف في النفس، وقوله (مُخْرِجٌ) فيه إشارة إلى مبالغتهم في الحذر، كأنهم دفنوه فأخرج من دفين نفوسهم.
ولقد جاء في تفسير أبي مسلم أن قوله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ. . .) من قبيل على القرآن، فقال هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزإء حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر كلامهم ويدعي أنه من الوحي، وكان المنافقون يكذبون ذلك فيما بينهم، فأخبر الله وسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا إظهاره، ولذلك قال تعالى:(قُلِ اسْتَهْزِئُوا)، أي بالله وآياته ورسوله، أو افعلوا الاستهزاء، وهو أمر تهديد (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه.
ويقول إن هذا احتمال، ولكن السياق القرآني يدل على استهزاء أظهره الله تعالى، وإن هذه الآية تدل على أنهم يكثرون من الاستهزاء والله مخرج أمورهم، حتى لَا يخدع فيهم مؤمن قال تعالى:(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30).
* * *
(1) سبق تخريجه.
قال تعالى:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
* * *
كان المنافقون في المدينة يثبطون المؤمنين عن الجهاد ببث التخاذل فيهم، ووضع ما يؤدي إلى الفشل والعجز فيما بينهم لَا يبالون، ما يمنعهم من غرضهم عشيرة أو جوار، أو أنه إذا نزلت بالمدينة كارثة لَا ينجون منها.
فكانوا يستهزئون بالمؤمنين في مجالسهم، ويتهكمون عليهم، إذا خرجوا إلى الجهاد حاولوا تثبيطهم عنه ببث روح الفشل، أو بالتهكم اللاذع، واستصغار شأن المؤمنين، ومما جاء في مقالتهم من نفاقهم " أنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك كان ركب من المنافقين وبعضهم يقول لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض، والله لكأنَّا بهم مقرنين في الحبال. قالوا ذلك ترهيبًا للمؤمنين، وقال رجل من المنافقين طعنا في المؤمنين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء.
علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأقوال، وراجت وشاعت بين المؤمنين، وكانت تشتد شيوعًا كلما كان قتال؛ لأنه يلهج ألسنتهم بفساد القول كلما كانت حرب أو شدة لتكون السخرية، ويكون التثبيط.
وإذا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأقوال أقروا بها، وبمقصدهم منها، وهو العبث، وهذا قوله تعالى:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ).
والخوض هو الدخول في الماء والانغمار فيه، ثم أطلق على الدخول في الكلام الذي يسمرون به، والقصص من الأساطير، واللعب من الفعل أو القول الذي لَا يكون لغاية، بل لمجرد العبث، أو الاستهزاء والسخرية.
وقد أكد الله سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ) بالقسم وفيه اللام الممهدة للقسم، وحذف المفعول؛ لأن أقوالهم كثيرة، وكان جوابهم مؤكدا تبعا لتأكد القسم، فهم أكدوا أنهم كانوا يخوضون ويلعبون، ومعنى ذلك أنهم كانوا يستهزئون، ولذلك أمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم:(قلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ).
بين الله سبحانه وتعالى خطر استهزائهم بالخوض في الكلام العابث، واللعب الجاحد، بين لهم أن ذلك يتضمن الاستهزاء بالله خالق كل شيء، والآيات التي ترشد العقلاء إلى الحق، والرسول الصادق الأمين الذي قامت الأدلة من القرآن ومن شخصه على الرسالة، فكفروا بالله وكذبوا الآيات.
وتقديم (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسولِهِ) على الفعل يستهزئون فيه إشارة إلى تخصيص هؤلاء بالاستهزاء، فأي ضلال أشد من هذا، وأي كفر وجحود أشد.
والاستفهام هنا للاستنكار، إنكار الواقع أي التوبيخ على ما فعلوا.
ولهذا الفجور الذي يبدر من ألسنتهم ويدل على قلوبهم، قال الله تعالى:
(لَا تَعْتَذِرُوا)؛ لأن كل اعتذار يلقون فيه أنفسهم بهاوية من الكفر أشد مما هم فيه، فقال تعالى: