الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية: في التعبير بالموصول في قوله تعالى: (الَّذِينَ كفَروا) فإنه يشير إلى أن العلة في عذابهم الأليم هي كفرهم، فإن تابوا فنعيم مقيم.
وإن الله العادل الحكيم قد استثنى من المشركين من لهم عهوِد راعوها حق رعايتها فقال:
(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(4)
الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عًاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكينَ)، قال الزمخشري: الاستثناء من (فَسيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهر). وأرى أن الاستثناء منِ الذين تبرأ الله تعالى من عهدهم ونبذه إليهم في قوله تعالى: (بَرَاءَةٌ منَ اللَّهِ وَرسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتم مِنَ الْمًشْرِكينَ)، فكان الاستثناء من هؤلاء أي أن الله بريء من عهد هؤلاء؛ لأنهم خاضوا في عهدهم ونقضوه، وقد رأيت أنهم بادروا بالنقض عندما أخبرهم عليّ كرم الله وجهه أنه لَا يدخل البيت الحرام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. . . فبادروا بنقض عهودهم، وقالوا ليس بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن بالرماح، والضرب بالسيوف.
أما الذين وفوا بعهودهم ولم ينقضوا شيئا منها، ولم يظاهروا عليكم أحدا فعهدهم باق مستمر، وليس الكفر وحده؛ فقد كان التعاقد وهم كفار وهذا قوله تعالى:(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا) والتعبير بـ (ثُمَّ) للدلالة على دوام وفائهم، وأنهم مع كونهم عرضة للنكث والنقض كإخوانهم المشركين ضبطوا أنفسهم ولم ينكثوا في عهدهم، ولم ينقصوا المسلمين - مع بغضهم لأهل الإيمان - شيئا من شروط العهد، بل وفوا به حق الوفاء، والوفاء جدير بالوفاء من أهل الإيمان كما قال تعالى:(. . . وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وكما وصفهم الله تعالى بأنهم لم ينقصوكم شينا مما عاهدوا عليه - ذكر وصفا دالا على الوفاء والمبالغة فيه، فقال تعالى:(وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا) أي لم يعاونوا أحدا من أعدائكم بأن يكونوا في ظهره يدفعونه إلى اللجاجة في عهدكم كما فعل بنو النضير وقريظة، وغيرهم من أعداء
الله الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم ظاهروا المشركين، وعاونوهم، وأظهروا عورات المؤمنين.
وهناك في قوله تعالى: (لَمْ يَنقُصُوكُمْ) بالصاد المهملة قراءة أخرى بالضاد المعجمة (1)، أي لم ينقضوكم شيئا من النقض، ولو في جزئية من جزئيات العهد أي وفوا وفاء كاملا لَا نقض فيه.
وقال تعالى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم إن وفوا ولم ينقصوا ولم يظاهروا عليكم فأوفوا لهم، وأتموا عهدهم إلى مدتهم. وأضاف العهد إليهم باعتبار أن متعة الانتفاع بالعهد لهم، وأضاف المدة إليهم لأنهم الذين ينتفعون بهذه المدة كما انتفعوا بالعهد ذاته، ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى:(. . . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب النار وقاية، ومن التقوى الوفاء بالعهد، فهي تعليل للاستثناء، وتمام العهد أن الوفاء في العهد من تمام التقوى، ومن فضل الأقوياء.
هذا شأن الذين وفوا بعهودهم، أما الذين لم يوفوا بعهودهم فإنهم يسيحون أربعة أشهر يحرم فيها القتال، وبعد ذلك يكون القتال.
* * *
قال تعالى:
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
(1) ليست في العشر المتواتر ".
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
* * *
قوله:
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) يقال: سلخت الشهر إذا صرت في آخر أيامه، أي إذا مضت الأشهر الحرم وانتهت، والأشهر الحرم يقول الزمخشري: إنها التي حرم فيها القتال من وقت الحج الأكبر وهي من عشرة ذي الحجة، وهي أربعة تنتهي بعشرة من ربيع الأول، ولم يذكر أنها الأشهر الحرم الأربعة المذكورة في قوله تعالى:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. . .) وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ثلاثة سرد، وواحد فرد، الثلاثة ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، والواحد الفرد رجب الذي بين جمادى وشعبان.
والأكثرون على أن الأشهر الحرم في هذه الآية هي هذه الأربعة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وانسلاخها أي يكون القتال فيما عداها، سواء أكانت بعد انتهاء الثلاثة السرد أم بعد انتهاء رجب، أي لَا قتال في الثلاثة، ويجوز القتال بعدها إلى رجب، ثم يستأنف بعد رجب؛ وذلك ليكون الطريق إلى الحج مأمونا، ولتكون بين المتقاتلين هدنة ترجع فيها القضب إلى أجفانها، وتستيقظ العقول، ولقد قال تعالى:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. . .).
ويقول تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) لأنه قد أصبح دمهم مباحا، فقد نقضوا العهد، ولم يدخلوا في الإسلام، وقد تحدوا الله ورسوله، وأشركوا، والعلاقة في أصلها كانت حربا انتهت بالعهد فنقضوه، وقد أعطاهم مهلة ساحوا فيها في الأرض آمنين، ولم يحدثوا توبة ورجوعا إلى الحق، فلم يبق إلا القتال. وقوله تعالى:(حيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ) يشمل الحل والحرم؛ لأنهم ممنوعون من المسجد الحرام، وهم مقاتلون، والله تعالى يقول:(. . . وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ. . .).
(وَخُذُوهُمْ) أي شدوا الوثاق، فقد أثخنتموهم، وغلبتم عليهم فلكم أن تأسروا منهم من تشاءون، (وَاحْصُرُوهُمْ) أي امنعوهم من التقلب في البلاد، وعن ابن عباس: أي امنعوهم من المسجد الحرام لَا يدخلوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه قرر ألا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا.
ثم قال تعالى: (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي في كل ممر، يعني اتخذوا القتل والتتبع المستمر لهم في كل ممر، وكل مرصد " ظرف " أي اقعدوا لهم في كل مكان مترصدين لهم، لَا ينجون منكم ما داموا على كفرهم، والله تعالى يفتح باب التوبة دائما، ولذا قال تعالى:(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) التوبة هنا ترك الشرك، وذكر الله التوبة، وذكر بعدها إقامة الصلاة؛ وإيتاء الزكاة؛ لأن هذا - يجعل الإيمان صادقا من غير نفاق وفيه خضوع لأوامر الله تعالى واتباع لأوامره، ونواهيه، ولأنه لابد للإيمان من شواهد. وقال في جواب الشرط (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي افتحوا الطريق أمامهم، ولا ترهقوهم بقتل ولا أسر، ولا منع من البيت، وعن ابن عباس: دعوهم وإتيان المسجد الحرام.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رحِيمٌ) أي إن الله تعالى كثير المغفرة وكثير الرحمة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى غفرانه ورحمته بـ " إنَّ " الدالة على التأكيد، وبالجملة الاسمية، وبصيغ الصفة المشبهة الدالة على الدوام والاستمرار لغفرانه ورحمته.