الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاب بَيَانِ مَالِ الرِّبَا وَحُكْمِهِ
.
2056 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ، أَنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالُ، نَا أَبُو الْعَبَّاس الأَصَمُّ.
ح وَأَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَارِفُ، قَالا: أَنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنا أَبُو الْعَبَّاسِ الأَصَمُّ، أَنا الرَّبِيعُ، أَنا الشَّافِعِيُّ، أَنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، ورجُلٍ آخَرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، وَلا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَلا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَلا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَلا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، إِلا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ، يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ» .
وَنَقَّصَ أَحَدُهُمَا الْمِلْحَ وَالتَّمْرَ، وَزَادَ أَحَدُهُمَا «مَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى» .
وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ الإِمَامُ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الرّوم: 39] أَيْ: لِيَكْثُرَ {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الرّوم: 39] أَيْ: لَا يَنْمَى، وَقَوْلُهُ عز وجل {أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] أَيْ: زَائِدَةً عَلَى الأَخَذَاتِ، وَالْمُحَرَّمُ فِي الشَّرِيعَةِ زِيَادَةٌ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا، إِنَّمَا ثَبَتَ لأَوْصَافٍ فِيهَا، وَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَالٍ تُوجَدُ فِيهِ تِلْكَ الأَوْصَافُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الأَوْصَافِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي جَمِيعِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ النَّفْعُ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الرِّبَا ثَبَتَ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ بِوَصْفٍ، وَفِي الأَشْيَاءِ الْمَطْعُومَةِ بِوَصْفٍ آخَرَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَقَالَ قَوْمٌ: ثَبَتَ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، بِوَصْفِ النَّقْدِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: ثَبَتَ بِعِلَّةِ الْوَزْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، حَتَّى قَالُوا: يَثْبُتُ الرِّبَا فِي جَمِيعِ مَا يُبَاعُ وَزْنًا فِي الْعَادَةِ، مِثْلُ: الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْقُطْنِ، وَنَحْوِهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَزْنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِسْلامُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ، وَلَوْ كَانَ الْوَزْنُ عِلَّةً، لَكَانَ لَا يَجُوزُ، لأَنَّ كُلَّ مَالَيْنِ اجْتَمَعَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ إِسْلامُ
أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِسْلامُ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ، وَإِسْلامُ الْحِنْطَةِ فِي الشَّعِيرِ، لاتِّفَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا.
يَخْرُجُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ رَطْلَ حَدِيدٍ بِرَطْلَيْنِ، أَوْ رَطْلَ نُحَاسٍ، أَوْ صُفْرٍ، بِأَرْطَالٍ مِنْ جِنْسِهِ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَقْدًا وَنَسِيئَةً، وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ يَدًا بِيَدٍ وَلا يَجُوزُ نَسِيئَةً، وَلا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ لَا نَقْدًا وَلا نَسِيئَةً.
قَالَ شُعْبَةُ: سَأَلْتُ الْحَكَمَ عَنِ الصُّفْرِ بِالْحَدِيدِ نَسِيئَةً؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ.
وَسَأَلْتُ عَنْهُ حَمَّادًا، فَكَرِهَهُ.
وَأَمَّا الأَشْيَاءُ الأَرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الرِّبَا ثَبَتَ فِيهَا بِوَصْفِ الْكَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ حَتَّى قَالُوا: يَثْبُتُ الرِّبَا فِي جَمِيعِ مَا يُبَاعُ كَيْلا فِي الْعَادَةِ، مِثْلُ الْجَصِّ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الطُّعْمُ مَعَ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، فَكُلُّ مَطْعُومٍ هُوَ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ يَثْبُتُ فِيهِ الرِّبَا، وَلا يَثْبُتُ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلا مَوْزُونٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: لَا رِبًا إِلا فِي ذَهَبٍ، أَوْ وَرِقٍ، أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ قَدِيمًا، وَقَوْلُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْهُ.
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَثْبُتُ فِيهَا الرِّبَا بِوَصْفِ الطُّعْمِ، وَأَثْبَتَ فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ الْمَطْعُومَةِ، مِثْلُ الثِّمَارِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَالْبُقُولِ، وَالأَدْوِيَةِ، وَنَحْوِهَا، سَوَاءً كَانَتْ مَكِيلَةً أَوْ مَوْزُونَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، لِمَا رُوِيَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مَثَلا بِمَثَلٍ» .
فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَّقَ الْحُكْمَ بِاسْمِ الطَّعَامِ،
وَالطَّعَامُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّعْمِ، وَكُلُّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً فِيهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّور: 2] وَقَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَة: 38] وَالزَّانِي وَالسَّارِقُ، اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الْجَلْدِ وَالْقَطْعِ بِاسْمِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، كَانَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ عِلَّةً فِي وُجُوبِهِمَا، وَلأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا ضَمَّ الْمِلْحَ، الَّذِي هُوَ أَدْنَى مَا يُطْعَمُ، إِلَى الْبُرِّ، الَّذِي هُوَ أَعْلى الْمَطْعُومَاتِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ لاحِقٌ بِهِمَا.
أَمَّا حُكْمُ الرِّبَا: هُوَ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ، فَلا يَجُوزُ إِلا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا مِثْلَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، يُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْكَيْلِ لَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ.
وَإِنْ كَانَ مَكِيلا مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، فَتُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِجِنْسِهِ كَيْلا، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ الْمَطْعُومَةِ بِجِنْسِهِ كَيْلا، أَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلاتِ الْمَطْعُومَةِ بِجِنْسِهِ وَزْنًا، لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ بَاعَ مُجَازَفَةً.
وَكَمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ، حَتَّى لَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ، يَفْسَدُ الْعَقْدُ.
وَإِذَا بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ، نَظَرَ إِنْ بَاعَ بِمَا لَا يُوَافِقُهُ فِي وَصْفِ الرِّبَا، مِثْلُ أَنْ بَاعَ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَلا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ وَلا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِغَيْرِ مَالِ الرِّبَا، وَإِنْ بَاعَهُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِي الْوَصْفِ مِثْلُ أَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، أَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ، أَوْ مَطْعُومًا بِمَطْعُومٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَيَجُوزُ مُتَفَاضِلا وَجُزَافًا، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.
قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «إِلا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فِيهِ إِيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ، وَتَحْرِيمُ الْفَضْلِ.
وَقَوْلُهُ: «عَيْنًا بِعَيْنٍ» فِيهِ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ.
وَقَوْلُهُ: «يَدًا بِيَدٍ» فِيهِ إِيجَابُ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ.
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ» فِيهِ إِطْلاقُ التَّفَاضُلِ عِنْدَ اخْتِلافِ الْجِنْسِ مَعَ إِيجَابِ التَّقَابُضِ.
وَقَوْلُهُ: «مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى» يَعْنِي مَنْ أَعْطَى الزِّيَادَةَ أَوْ أَخَذَهَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ:«لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ» .
وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ يَجُوزُ مُتَفَاضِلا، إِلا مَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ إِلا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْكَيْلِ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ.
وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَنِيَ عَلَفُ حِمَارِهِ، فَقَالَ لِغُلامِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ طَعَامًا، فَابْتَعْ بِهِ شَعِيرًا وَلا تَأْخُذْ إِلا مِثْلَهُ.
وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَالَ:«وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ» .
وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ التَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ إِلا فِي الصَّرْفِ، وَهُوَ بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآخَرِ أَوْ بِجِنْسِهِ.
وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلا الْبُرَّ بِالْبُرِّ» إِلَى أَنْ قَالَ: «إِلا يَدًا بِيَدٍ» ، وَقَالَ فِي اخْتِلافِ الْجِنْسِ:«وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرَقِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، يَدًا بِيَدٍ» ، ثُمَّ قَوْلُهُ:«يَدًا بِيَدٍ» مَحْمُولٌ عَلَى إِيجَابِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي الصَّرْفِ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ مِنْهَا.
وَيُقَالُ: كَانَ فِي الابْتِدَاءِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ بَيْعُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ، وَبَيْعُ الدَّنَانِيرَ بِالدَّنَانِيرِ، مُتَفَاضِلا جَائِزًا يَدًا بِيَدٍ، ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا إِلَى إِيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الْمَذْهَبِ الأَوَّلِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ، كَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» .
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ حَدَّثَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ» .
وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ أُسَامَةَ «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الرِّبَا فِي صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، ذَهَبٍ بِوَرِقٍ، أَوْ تَمْرٍ بِحِنْطَةٍ، فَقَالَ:«الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، فَحَفِظَهُ، فَأَدَّى قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُؤَدِّ الْمَسْأَلَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2057 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَزِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي، فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهُ فِي يَدِهِ، قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْمَعُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأخُذَ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالبُرِّ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ» .
هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
أَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ لَيْثٍ.
كِلاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: «هَاءَ وَهَاءَ» أَرَادَ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
مَعْنَاهُ: هَاكَ وَهَاتَ، أَيْ: خُذْ وَأَعْطِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِيجَابُ التَّقَابُضِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، يُقَالُ: هَاءَ يَا رَجُلُ، وَلِلاثْنَيْنِ: هَاءًا بِمَنْزِلَةِ هَاعًا، وَلِلْجَمْعِ: هَاءُوا، وَلِلْمَرْأَةِ: هَائِي، وَلِلْمَرْأَتَيْنِ: هَاءَا، وَلِلْجَمِيعِ: هَأْنَ بِمَنْزِلَةِ هَعْنَ، وَيُقَالُ: هَاؤُنَّ مِثْلُ هَاعُنَّ، وَيُقَالُ: هَاءِ يَا رَجُلُ مَمْدُودٌ مَهْمُوزٌ، وَلِلاثْنَيْنِ: هَاؤُمَا، وَلِلْجَمْعِ: هَاؤُمُوا، وَلِلْمَرْأَةِ: هَاءِ، مَكْسُورٌ بِلا يَاءٍ، وَلِلْمَرْأَتَيْنِ: هَاؤُمَا، وَلِلنِّسْوَةِ: هَاؤُنَّ، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] أَيْ: خُذُوا كِتَابِي وَانْظُرُوا مَا فِيهِ لِتَقِفُوا عَلَى نَجَاتِي، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: هَاكَ لِلْوَاحِدِ، وَهَاكُمَا لِلاثْنَيْنِ، وَهَاكُمْ لِلْجَمِيعِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ فِي بَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ، وَلا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالصَّرْفِ، لأَنَّ ذِكْرَ «هَاءَ وَهَاءَ» فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَحَمَلَهَا عُمَرُ عَلَى التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَكَانَ أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ إِلَى أَنْ يَلِجَ بَيْتَهُ، فَلا تُنْظِرْهُ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ.
وَالرَّمَاءُ: الرِّبَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَخَافُ عَلَيْكُمُ
الإِرْمَاءَ، يُقَالُ: أَرْمَى عَلَى الشَّيْءِ، وَأَرْبَا: إِذَا زَادَ عَلَيْهِ.
2058 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَزِيُّ، أَنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَا فَضَلَ بَيْنَهُمَا» .
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ.
2059 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَزِيُّ، أَنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَجَاءَهُ صَائِغٌ، فَقَالَ: يَا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي أَصُوغُ الذَّهَبَ، ثُمَّ أَبِيعُ الشَّيْءَ مِنْ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ، فَأَسْتَفْضِلُ فِي ذَلِكَ قَدْرَ عَمَلِ يَدِي؟ فَنَهَاهُ، فَجَعَلَ الصَّائِغُ يُردِّدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إِلَيْنَا، وَعَهْدُنَا إِلَيْكُمْ
.
2060 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَزِيُّ، أَنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ مُعَاوِيةَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَقَالَ لَهُ أبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلَ هَذَا إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ.
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِهَذَا بَأْسًا.
فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ، أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا.
ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى مُعَاوِيَةَ لَا تَبِعْ ذَلِكَ إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَزْنًا بِوَزْنٍ.
2061 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَزِيُّ، أَنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ،
وَلا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».
هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
أَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى.
كِلاهُمَا عَنْ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: «لَا تُشِفُّوا» أَيْ: لَا تُفَضِّلُوا، يُقَالُ: أَشَفَّ، أَيْ: أَفْضَلَ، وَشَفَّ يَشِفُّ: أَيْ: فَضَّلَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: نُهِيَ عَنْ شَفِّ مَا لَمْ يُضْمَنْ، أَيْ: رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ.
والشَّفُّ: النُّقْصَانُ أَيْضًا، وَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ.
وَالنَّاجِزُ: الْحَاضِرُ، يُقَالُ: نَجَزَ يَنْجُزُ نَجْزًا، إِذَا حَضَرَ، وَأَنْجَزَ الْوَعْدَ أَيْ: أَحْضَرَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ تَحْرِيمِ الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ فِي الصَّرْفِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ حُلِيًّا مِنْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ لَا يَجُوزُ إِلا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ، وَلا يَجُوزُ طَلَبُ الْفَضْلِ لِلصَّنْعَةِ، لأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ مَعَ الْفَضْلِ.
قَالَ الإِمَامُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا، أَوْ
مَعَ أَحَدِهِمَا، شَيْءٌ آخَرُ، مِثْلُ أَنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ، لَا يَجُوزُ، لأَنَّ اخْتِلافَ الْجِنْسِ فِي أَحَدِ شِقَّيِ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ تَوْزِيعَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِمَا عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَ التَّوْزِيعِ يَظْهَرُ الْفَضْلُ، أَوْ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ حَالَة الْعَقْدِ، وَالْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ فِي بَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ بِمَنْزِلِ يَقِينِ التَّفَاضُلِ فِي إِفْسَادِ الْبَيْعِ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِخَيْبَرَ، بِقِلادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ، ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ تِسْعَةِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلادَةِ، فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ:«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي جَامِعِهِ.
وَقَوْلُهُ: «حَتَّى تُفَصَّلَ» وَيُرْوَى: «حَتَّى تُمَيَّزَ» أَرَادَ بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْخَرَزِ وَالذَّهَبِ فِي الْعقدِ، لَا تَمْيِيزَ عَيْنِ الْمَبِيعِ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ.
وَجَوَّزَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، إِذَا كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي هِوَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنَ الذَّهَبِ مَعَ السِّلْعَةِ، وَجَعَلُوا الْفَضْلَ فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ أَقَلُّ أَوْ مِثْلُهُ، لَمْ يَجُزْ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا، إِلا أَنَّهُ حَدَّ الْكَثْرَةَ بِالثُّلُثَيْنِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: يَجُوزُ، سَوَاءً كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.
وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرُوهُ خِلافَ قَضِيَّةِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ شِقْصًا مِنْ رُبْعٍ مَشْفُوعًا وَثَوْبًا بِمِائَةٍ، وَقِيمَةُ الشِّقْصِ مَثَلا قِيمَةُ الثَّوْبِ، أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثُلُثَيِ الْمِائَةِ، فَعَلَى قَضِيَّةِ هَذَا يَلْزَمُ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ: لَوْ بَاعَ شِقْصًا مَشْفُوعًا وَصَاعَ بُرٍّ بِصَاعَيْ بُرٍّ، وَقِيمَةُ الشّقْصِ قيمةُ الصَّاعِ، يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشَّقْصَ بِثُلُثَيِ الصَّاعَيْنِ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى صَاعٌ بِمُقَابَلَةِ ثُلُثَيْ صَاعٍ، وَبِالاتِّفَاقِ لَوْ بَاعَ صَاعَ بُرٍّ بِثُلُثَيْ صَاعٍ يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا.
فَأَمَّا إِذَا بَاعَ فِضَّةً وَسِلْعَةً بِذَهَبٍ فَجَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ اخْتِلافِ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّقَابُضَ فِيمَا يُقَابِلُ الْفِضَّةَ مِنَ الذَّهَبِ شَرْطٌ، وَفِيمَا يُقَابِلُ السِّلْعَةَ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ صَفْقَةٍ جَمَعَتْ مُخْتَلِفِي الْحُكْمِ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعِ وَسلم، أَوْ بَيْعِ عَيْنٍ وَإِجَارَةٍ، فَلَهُ فِي صِحَّتِهَا قَوْلانِ أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ دَرَاهِمَ وَسِلْعَةٍ بِدِينَارٍ، إِلا أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ يَسِيرَةً، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ بَاعَ مُدَّ عَجْوَةٍ وَمُدَّ صَيْحَانِيٍّ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ، أَوْ بِمُدَّيْ صَيْحَانِيٍّ، أَوْ بمُدِّ عَجْوَةٍ وَمُدِّ صَيْحَانِيٍّ، أَوْ راطل مِائَةَ دِينَارٍ عُتُقٍ مَروَانِيَّةٍ وَمِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ مَكْرُوهٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ وَسَطٍ، لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْوَزْنُ وَاحِدًا.
هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَجَمَاعَةٍ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِلافِ النَّوْعِ فِي أَحَدِ شِقَّيِ الْعَقْدِ يُوجِبُ تَوْزِيعَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَ التَّوْزِيعِ رُبَّمَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ.