الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَيره لِضُعَفَاء مَاشِيَته، فنرى أَن قَول رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم:«لَا حِمى إِلا لله ولِرسوله» لَا حمى على هَذَا الْمَعْنى الْخَاص، وَأَن قولَه:«لله» فَللَّه كلُّ محمي وَغَيره، ورسولُ اللَّه إِنَّمَا يحمي لصلاح عَامَّة الْمُسلمين، وَلَا لما يحمي لَهُ غَيره من خاصَّة نَفسه، هَذَا قولُ الشَّافِعِيّ ذكرهُ فِي كِتَابه.
وَحَاصِل الْمَقْصُود مِنْهُ أنهُ لَا حِمى لأحد إِلا على الْوَجْه الَّذِي حماه رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَفِي بعض الْأَحَادِيث " لَا حِمَى إِلا فِي ثلاثٍ: ثَلةُ البِئْرِ، وطولُ الفَرَسَ، وَحلْقَهِ القَوْمِ "، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثَلة الْبِئْر: أَن يحتَقر الرجلُ بِئْرا فِي مَوضع لَيْسَ بِملك لأحد، فلهُ من حوالي الْبِئْر من الأَرْض، مَا يكونُ ملقى لثلَّة الْبِئْر، وَهُوَ مَا يخرج من ترابها لَا يدْخل فِيهِ عَلَيْهِ أحد.
وطولُ الْفرس: أَن يكون الرجل فِي الْعَسْكَر، فيربط فرسه، فَلهُ من ذَلِكَ الْمَكَان مستدار لفرسه فِي طوله يحميه من النَّاس.
وحلقة الْقَوْم يَعْنِي لَا يجلسُ فِي وسط حَلقتهم، ويقَالَ: هُوَ أَن يتخطى الْحلقَة، فَإِنَّهَا حمى لأَهْلهَا.
بَاب الإقْطاع
2192 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا سُفْيَانُ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْوَلِيدِ، قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ لَهُمُ البَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لَا، إِلا أَنْ تُقْطِعَ لإخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا، قَالَ:«أَمَّا لَا، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، فَإنَّهُ سَتُصيْبُكُمْ أَثَرَةٌ بَعْدِي» .
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الإِمَامُ: هَذَا الْحَدِيث يدل على أَنَّهُ لَا يجوز للْإِمَام أَن يُقطع للنَّاس من بِلَاد العَنوة، مَا لم يجر عَلَيْهِ ملكُ مُسْلِم، وَمن أقطعهُ السلطانُ أَرضًا مِنْهَا صَار أوْلى بهَا من غَيره، فَإِذا أَحْيَاهَا وعمرها مَلكها، وَلَا يمِلكُها قبل الْإِحْيَاء، كَمَا لَو تحجَّر أَرضًا كَانَ أولى بهَا من غَيره، وَلَا يملكُها إِلا بِالْإِحْيَاءِ، وَكَذَلِكَ لَو أفرخ طَائِر على شَجَرَة مَمْلُوكَة لرجل، كَانَ أولى بالفرخ من غَيره، وَلَا يمِلكه حَتَّى يأخذهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلقمة بْن وَائِل، عَنْ أَبِيه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعهُ أرْضًا بِحَضرَ مَوْتَ» .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَر، أنهُ أَقطع، وَاشْترط الْعِمَارَة ثَلَاث سِنِين، وأقطع عُثْمَان وَلم يشْتَرط ".
قَالَ الْخطابِيّ: وَيُشبه أَن يكون إقطاعهُ من الْبَحْرين، إِنَّمَا هُوَ على أحد الْوَجْهَيْنِ، إِمَّا أَن يكونَ من الْموَات الَّذِي لم يملكهُ أحد، فيُتملَّك بِالْإِحْيَاءِ، وَإِمَّا أَن يكون ذَلِكَ من الْعِمَارَة من حَقه فِي الْخمس، فقد رُوِيَ أَنَّهُ افْتتح الْبَحْرين، وَترك أرْضهَا، وَلم يقسمها، كَمَا فتح أرضَ بني النَّضِير، فَتَركهَا، وَلم يقسمها كَمَا قسم خَيْبَر.
أما الْمَعَادِن، فنوعان: نوع مِنْهَا يكون نفعهُ ظَاهرا، كالملح فِي الْجبَال، والنِّفط، والقارة، والكبريت، والمومياء، فهَذَا النَّوْع لَا يُملك بالعمارة، وَلَا يجوز للسُّلْطَان إقطاعُه، والناسُ فِيهِ شَرَعٌ سَوَاء، فَهُوَ كَالْمَاءِ والكلأ، وَالْحِجَارَة، فِي غير الْملك، فَإِن أتاهُ رجلَانِ، فَإِن وسعهما، عملا فِيهِ، وَإِن لم يَسعهما، كَانَ أسبقهما أولى بِهِ، فَيَأْخُذ قدر حَاجته، ثُمَّ يدعهُ إِلَى الثَّانِي، وَإِن جَاءَا مَعًا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا
2193 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّحَّانُ، أَنا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ قُرَيْشٍ، أَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنا أَبُو عُبَيْدٍ، أَنا صَدَقَةُ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ قَيْسٍ الْمَأْرِبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ، عَنْ سُمَيِّ بْنِ قَيْسٍ،
عَنْ شمير، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ الْمَأْرِبِيِّ، أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَقْطَعَهُ المِلْحَ الَّذِي بِمَأْرِبَ، فَأَقْطَعَهُ إيَّاهُ، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَدْرِي مَاذَا أَقْطَعْتَ؟ إِنَّمَا أَقْطَعْتَ لَهُ الْمَاءَ الْعِدَّ.
قَالَ: «فَرَجَعَهُ مِنْهُ» ، قَالَ: وَسَأَلَهُ مَاذَا يُحْمَى مِنَ الأَرَاكِ؟ قَالَ: «مَا لَمْ تَنَلْهُ أَخْفَافُ الإِبِلِ» .
فبَيَّن بهَذَا أَن المعدِنَ الظَّاهِر لَا يجوز إقطاعُه، كَالْمَاءِ الْعد، وَهُوَ الدَّائم الَّذِي لَا يَنْقَطِع، وَقَوله: استقطع، أَي: سَأله أَن يُقطعه.
وقولُ: «مَا لَمْ تَنَلْهُ أَخْفَافُ الإِبِلِ» أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَنما يحمي من الْأَرَاك مَا بَعد عَنْ حَضْرَة الْعِمَارَة، وَلَا تبلغهُ الإبلُ الرَّائِحَة إِذا أرْسلت فِي الرَّعْي.
وَفِيه دليلٌ على أَن الكَلأ والرعي فِي غير الْملك لَا يمْنَع من السَّارحة، وَلَيْسَ لأحد أَن يستأثِر بِهِ دون سَائِر النَّاس، فأمّا مَا كَانَ فِي ملك
الرجل من الْكلأ والأراك فمملوك لَهُ، ولهُ منعهُ عَنْ غَيره كَسَائِر الْأَشْجَار.
وَفِي الْحَدِيث دليلٌ على أَن الْحَاكِم إِذا حكم بشيءٍ، ثُمَّ تبيَّن لهُ أَن الْحق فِي خِلَافه، عَلَيْهِ ردُّه، فَإِن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ عَنْ إقطاعه بعد مَا أخبر أَنَّهُ كَالْمَاءِ العِدّ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" المُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثلاثٍ: فِي المَاءِ والْكَلأ وَالنَّارِ " وَالْمرَاد مِنْهُ الْكلأ الَّذِي ينبتُ فِي الْموَات، وَأما النارُ، قيل: أَرَادَ بِهِ الْحِجَارَة الَّتِي توري النَّار لَا يُمنع أحدٌ أَن يَأْخُذ مِنْهَا حجرا إِذا كَانَ فِي مَوات، وأمَّا النَّار الَّتِي أوقدها الرَّجل، فلهُ مَنع الْغَيْر مِنْهَا، وَقيل: لهُ أَن يمْنَع من يَأْخُذ مِنْهَا جَذوة، وَلَكِن لَا يمْنَع من يستصبح مِنْهَا مصباحًا، أَو يُدني مِنْهَا ضِغثًا، لأنهُ لَا ينقصُ من عينهَا شَيْئا.
وَالنَّوْع الثَّانِي من الْمَعَادِن: مَا يكون نفعهُ بَاطِنا، لَا يُنالُ إِلا بمؤنة، مثل مَعادن الذَّهَب، وَالْفِضَّة، وَالْحَدِيد، والنُّحاس، وَسَائِر الْجَوَاهِر، يجوز للسُّلْطَان إقطاع مثل هَذِه الْمَعَادِن، والدليلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ كثير بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عَوْف الْمُزنِيّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جدِّه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ
بِلالَ بْن الْحَارثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّة جلسيها وغُورِيَّهَا، وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزَّرْعُ مِنَ قُدْسَ، وَلَمْ يُعْطِه حَقَّ مُسْلِم وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا»، وَرُوِيَ مثلهُ عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْن عَبَّاس.
وَمعادن القَبَلِيَّة: من نَاحيَة الْفَرْع.
وَقَوله: «جلسيها» يُرِيد: نجديَّها، يقَالَ لنجد: جَلسٌ.
قَالَ الْأَصْمَعِي: وكلُّ مُرْتَفع جَلسٌ، والغَورُ: مَا انخفض من الأَرْض.
وَهل تملك مثلُ هَذِه الْمَعَادِن بِالْإِحْيَاءِ؟ للشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا تُملك، كالأرض وكما يجوز إقطاعُها، فعلى هَذَا إِذا وصل إِلَى النّيل، ملك، كَمَا لَو حفر بِئْرا فِي موَات للْملك لَا يملك حَتَّى يصل إِلَى المَاء، وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا تملك بِالْإِحْيَاءِ بِخِلَاف الأَرْض، لِأَنَّهَا إِذا أَحييت مرَّة، ثَبت إحياؤها، والمعدِنُ يحْتَاج إِلَى أَن يعْمل فِيهِ كلَّ يَوْم حَتَّى يرتفقَ منهُ، وَقد يجوز إقطاعُ مَا لَا يملك بِالْإِحْيَاءِ، كمقاعد الْأَسْوَاق، فعلى هَذَا إِذا ابْتَدَأَ رجلٌ الْعَمَل فِي مَعْدن مِنْهَا كَانَ لهُ مَنع الْغَيْر، وَإِن كَانَ يسعُ الْكل فَإِذا عطله لم يكن لَهُ منع الْغَيْر عَنْهُ، كَمَا لَو حفر بِئْرا فِي موَات للارتفاق كَانَ أولى بهَا من غَيره، أَو نزل منزلا بالبادية كَانَ أولى بِهِ، فَإِذا تَركه
لم يكن لَهُ منعُ الْغَيْر عَنْهُ، وَقد يكون نوعٌ من الإقطاع إرفاقًا من غير تمْلِيك، كالمقاعد فِي الْأَسْوَاق يرتفق بِهِ الرجل، فَيكون أولى بِهِ، وَمَا حواليه قدر مَا يضعُ متاعهُ للْبيع، ويقفُ فِيهِ المُشْتَرِي، وَيجوز للسُّلْطَان إقطاعهُ من غير أَن يكون فِي ملك.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن مُغفَّل، عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ احْتَفَرَ بِئْرًا، فَلَيْسَ لأَحدٍ أَنْ يَحْفِرَ حَوْلَهُ أَرْبَعيِنَ ذِرَاعا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» .
قَالَ الإِمَامُ: وَكَذَلِكَ المنازلُ فِي الْأَسْفَار، والرباط الْمَوْقُوف على الْمَارَّة، إِذا نزل رجُلٌ فِي مَوضِع، أَو وضع فِيهِ متاعهُ، كَانَ أولى بِهِ من غَيره، فَإِن فارقهُ فِراقَ ترك لم يمْنَع غيرَه من نُزُوله.
رُوي عَنْ عَائِشَة، أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» .
وَعَن أسمر بْن مُضرِّس، قَالَ: أتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَايعتهُ، فَقَالَ:«مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَم يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِم فَهُوَ لَهُ» .
ورُوي عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَسمَاء بنت أَبِي بَكْر:«أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ نَخْلا» .
قَالَ الْخطابِيّ: النّخل مَال ظَاهر الْعين، حاضرُ النَّفْع، كالمعادن الظَّاهِرَة فَيُشبه أَن يكون إِنَّمَا أعطاهُ ذَلِكَ من الْخمس الَّذِي هُوَ سَهمه، وَالله أعلم.
ورُوي: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الْمُهَاجِرِينَ الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ» .
وتأوَّلوا هَذَا الإقطاعَ على وَجْهَيْن، أَحدهمَا: أَنه أقطعهم الْعَرَصَة ليبنوا فِيهَا، فعلى هَذَا الْوَجْه صَارَت الدُّورُ ملكا لَهُم بِالْبِنَاءِ، وتوريثه الدّور نسَاء الْمُهَاجِرين خُصُوصا، يشبه أَن يكون إِنَّمَا خصَّهُن بالدور من بَين سَائِر الْوَرَثَة، لِأَنَّهُنَّ غرائب بِالْمَدِينَةِ لَا عشيرة لهنَّ، فَجعل نصيبهن من الْمِيرَاث فِي الدُّور لما رأى فِي ذَلِكَ من الْمصلحَة.
والتأويل الثَّانِي: أَن إقطاع الْمُهَاجِرين الدّور كَانَ على سَبِيل الْعَارِية، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو إِسْحَاق المرزوي، فعلى هَذَا الْوَجْه لَا يجْرِي فِيهَا الإرثُ، لِأَن الإرثَ إِنَّمَا يجْرِي فِيمَا يكون مَمْلُوكا للموروث منهُ، غير أَنَّهَا تُركت