الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"كفاه الله مُؤْنَةَ الناس"؛ أي: من الظلم والشرِّ الواصل إليه منهم.
"ومَنِ التمسَ رضا الناس بسخط الله وَكَلَه الله إلى الناس"؛ أي: سلَّطهم عليه، حتى يؤذوه ويظلموا عليه.
"والسلام عليك"، اللام فيه: للعهد.
* * *
22 - باب الأمر بالمعروف
(باب الأمر بالمعروف)
مِنَ الصِّحَاحِ:
3983 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:"مَن رَأَى مِنكم مُنكَرًا فلْيُغيرْه بيدِه، فإنْ لم يستَطِعْ فَبلسانِه، فإنْ لم يستطِعْ فبقلبهِ، وذلكَ أضعفُ الإيمانِ".
"من الصحاح":
" عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن رأى منكم منكرًا": وهو ما ليس فيه رضا الله تعالى من قول أو فعل، والمعروف ضده.
"فَلْيغيرْه"؛ أي: فَلْيدفَعْ ذلك المنكرَ "بيده، فإن لم يستطع"؛ أي: لم يَقدِر على الدفع باليد؛ لأن فاعلَه أقوى منه.
"فبلسانِه"؛ أي: فَلْيغيرْه بالقول.
"فإن لم يستطع"؛ أي: على المنع بالقول.
"فبقلبه"؛ أي: فَلْيَكرهْه بقلبه، بأن يقول: اللهم هذا مُنكَرٌ؛ إذ ليس في
وسعه التغييرُ إلا هذا القَدْر.
"وذلك"؛ أي: كراهتُه بقلبه "أضعفُ الإيمان"؛ أي: أقله ثمرة.
* * *
3984 -
وقالَ: "مَثَلُ المُدْهِنِ في حُدودِ الله والواقِعِ فيها، مَثَلُ قَوْمٍ استَهمُوا سَفينةً، فصارَ بَعضُهم في أَسْفَلِها، وصارَ بعضُهم في أعلاها، فكانَ الذي في أَسْفَلِها يَمُرُّ بالماءِ على الذينَ في أعلاها فتَأَذَّوا بهِ، فأَخَذَ فَأْسًا فجعلَ ينقُرُ أَسْفَلَ السَّفينةِ، فأَتَوْهُ فقالوا: ما لكَ؟ فقالَ: تأذَّيتُم بي، ولا بُدَّ لي مِن الماءِ، فإنْ أَخَذُوا على يَدَيهِ أَنجوْهُ، ونَجَّوا أَنفُسَهم، وإنْ تَرَكُوه أَهْلَكُوه، وأهْلَكُوا أنفسَهم".
"عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ المُداهِن في حدود الله"، المداهنة: المساهلة في الأمر: والمداهنة في الشرع: أن يرى منكرًا، ويَقدِر على دفعه، ولم يَدفعْه؛ حفظًا لجانب مُرتكِبه أو جانب غيره، أو قلةَ مبالاةٍ في الدين، وقيل: هو الذي يخفيها ولا يتكلم بها؛ لخوفٍ أو طمعٍ.
"والواقع فيها"؛ أي: في الحدود؛ أي: الفاعل للمناهي.
"مَثَلُ قومٍ استهموا سفينةً"؛ أي: اقترعوا سُكْنَاها بالقُرعة.
"فصار بعضُهم على أسفلها"؛ أي: في الطبقة الأسفل من السفينة.
"وبعضُهم في أعلاها"، وفيه: إشارة إلى استحباب القُرعة إذا تشاجروا على الجلوس في الأسفل والأعلى، وذلك إذا نزلوا بها جملةً، وإذا نزلوا متفرقين فمَن سَبَقَ منهم إلى مكانٍ فهو أحقُّ به من غيره.
"فكان الذي في أسفلها يمرُّ بالماء على الذين في أعلاها"، قيل: كنى بالماء عن البول والغائط المنفصلَين عنه، ليطرحَه في البحر.
"فتأذَّوا به"، أي: مَن في الأعلى بمروره عليهم.
"فأخذ"؛ أي: مَن في الأسفل.
"فأسًا، فجعل"، أي: فطفقَ.
"ينقُر"؛ أي يثقُب.
"أسفلَ السفينة، فأتَوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذَّيتم بي ولابدَّ لي من الماء"؛ أي: من مطرح الماء.
"فإن أخذوا على يدَيه"؛ أي: منعوه من نقرِ السفينة "أَنْجَوه ونَجَّوا أنفسَهم، وإن تركوه" ولم يمنعوه من النقرِ "أهلكوه وأهلكوا أنفسَهم"؛ لأنه يخرج الماء من البحر إلى السفينة وغرقت السفينة، فكذلك إنْ منعَ الناسُ الفاسقَ عن الفسق نَجَوا ونجا من عذاب الله، وإن تركوه حتى يفعلَ المعاصيَ ولم يقيموا عليه الحدودَ حلَّ بهم العذاب وهلكوا بشؤمه، وقد شبَّه المُداهِنَ في الحدود بمن في أعلى السفينة، والواقعَ فيها بمن في أسلفها، ونَهْيَ الناهي عن مواقعتها بالآخذ باليد وبمنعه عن النقر، وفائدةَ المنع بنجاة الناهي والمَنهيِّ.
* * *
3985 -
وقال: "يُجاءُ بالرَّجُلِ يومَ القيامةِ فيُلقَى في النَّارِ فتَندلِقُ أَقتابُه في النارِ، فيَطحنُ فيها كطحنِ الحمارِ بِرَحَاهُ، فيَجتَمعُ أهلُ النَّارِ عليهِ، فيقولونَ: أَيْ فلانُ! ما شانُكَ؟ أَليسَ كنتَ تأمرُنا بالمَعْروفِ وتنهانا عن المُنْكَرِ؟ قال: كنتُ آمرُكم بالمَعْروفِ ولا آتِيهِ، وأنهاكُم عن المُنْكَرِ وآتِيهِ".
"وعن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُجاء بالرجل يومَ القيامة، فيُلقى في النار، فَتندلِقُ أقتابُه" جمع: قِتْب - بالكسر ثم السكون -؛ أي: تخرج أمعاؤه.
"في النار، فيَطحن فيها"؛ أي: فيدور ويتردَّد في أقتابه؛ يعني: يدور
حولَ أقتابه ويضربها برجله.
"كطحنِ الحمار"؛ أي كما يدور الحمار.
"برَحَاه": وهو الموضع الذي يُربَط، ويمكنه أن يدورَ فيه.
"فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أيْ فلانُ ما شأنُك؟ ألستَ كنتَ تأمرُنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتُ آمرُكم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".
* * *
مِنَ الحِسَان:
3986 -
عن حُذَيفَةَ بن اليَمانِ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمَعْروفِ ولتَنهَوُنَّ عن المُنْكرِ، أو لَيُوشِكَنَّ الله أنْ يَبْعَثَ عليكم عذابًا مِن عندِه، ثم لَتدْعُنَّهُ فلا يُستَجابُ لكم".
"من الحسان":
" عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لَتَأمُرُنَّ بالمعروف وَلتنهوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشكَنَّ الله أن يَبعثَ عليكم عذابًا من عنده"، (أو) هذه: لأحد الأمرين؛ أي: لا يجتمع أمرُكم بالمعروف ونهيُكم عن المنكر مع مقاربة بعث الله عليكم عذابًا، أو بمعنى: إلا؛ أي: إن أمرتُم بالمعروف ونهيتُم عن المنكر نَجَوتُم من العذاب، وإلا والله لَيَقرُب أن يُرسلَ الله عليكم عذابًا.
"ثم لَتَدْعُنَّه فلا يُستجاب لكم"؛ يعني: وبعد مقاربة العذاب لو دعوتُم الله في رفع ذلك العذاب لا يُستجاب لكم.
* * *
3987 -
عن العُرْسِ بن عَميرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا عُمِلَتْ الخَطيئةُ في الأَرْضِ مَن شهِدَها فكرِهَها كانَ كمَن غابَ عنها، ومَن غابَ عنها فرَضيَها كانَ كمَن شَهِدَها".
"وعن العُرْس" - بضم العين وسكون الراء - ابن قيس "ابن عُميرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا عُمِلَتِ الخطيئةُ في الأرض؛ مَن شَهِدَها"؛ أي: حضرَ الخطيئةَ.
"فكرهَها كان كمَن غاب عنها، ومَن غاب عنها فرضيَها كان كمَن شهدها".
* * *
3988 -
عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قال: يا أيُّها النَّاسُ! إنَّكم تَقْرؤونَ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:"إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوْا مُنْكَرًا فلم يُغَيرُوه يُوشِكُ أنْ يعُمَّهم الله بعِقابهِ"، صحيح.
وفي رِوايةٍ: "إذا رَأَوْا الظَّالِمَ فلم يأخذُوا على يَدَيْه أَوْشَكَ
…
".
وفي رِوايةٍ: "ما مِن قَوْمٍ يُعمَلُ فيهم بالمَعاصي، ثم يَقْدِرُونَ على أنْ يُغَيروا، ثُمَّ لا يُغيرون، إلا يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهم الله بعقابٍ".
وفي رِوايةٍ: "يُعمَلُ فيهم بالمَعاصي، هُمْ أَكْثَرُ ممَّن يَعْمَلُه. . . ".
"عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه قال: يا أيها الناسُ! إنكم تقرؤون هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ؛ أي: الزموا حفظَ أنفسكم عن المعاصي.
{لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} : وإنما لا يضرُّ الرجلَ معاصي غيره إذا عجزَ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
"فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناسَ إذا رَأَوا منكرًا، فلم يغيروه، يوشك"؛ أي: يَقرُب.
"أن يعمَّهم الله بعقابه. صحيح".
"وفي رواية: إذا رَأَوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه"؛ أي: لم يمنعوه عن الظلم "أو شك. . . ".
"وفي رواية: ما مِن قومٍ يُعمَل فيهم بالمعاصي، ثم يَقدِرون على أن يغيروا، ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمَّهم الله بعقاب".
"وفي رواية: يُعمَل فيهم بالمعاصي هم أكثرُ ممن يعمله"؛ يعني: إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثرَ من الذين يعملونها فلم يمنعوهم عنها عمَّهم العذابُ.
* * *
3989 -
عن جريرِ بن عبدِ الله البَجَلي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما مِن قومٍ يكونُ بينَ أظهرِهم رجلٌ يعملُ بالمعاصي، هم أَمْنعُ منهُ وأَعَزُّ، لا يُغَيرُونَ عليهِ = إلا أصابَهم الله بعقابٍ".
"عن جرير البَجَلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما مِن قومٍ يكون" بينَ أَظهُرِهم رجلٌ "يعمل بالمعاصي، هم أمنعُ منه وأعزُّ"؛ أي: أقدرُ منه وأغلبُ.
"لا يغيرون عليه إلا أصابَهم الله بعقاب".
* * *
3990 -
وعن أبي ثَعْلَبَةَ: في قولهِ تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال: أَمَا والله، لقد سَأَلْتُ عنها رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل
ائتَمِروا بالمَعْروفِ، وتَناهَوْا عن المُنْكَرِ، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبعًا، ودُنيا مؤثَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برَأْيهِ، ورأيتَ أَمْرًا لا بُدَّ لكَ منهُ فعليكَ نفسَكَ، ودَعْ أَمْرَ العَوَامِّ، فإنَّ وراءَكُم أيامَ الصَّبرِ، فمَن صَبَرَ فيهنَّ كانَ كمَن قَبَضَ على الجَمْرِ، للعاملِ فيهنَّ أَجْرُ خَمسينَ رَجُلًا يعمَلونَ مثلَ عَمَلِهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أجرُ خَمْسينَ منهم؟ قال: "أَجْرُ خَمْسينَ منكُم".
"وعن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فقال: أَمَا والله لقد سألتُ عنها رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: بل ائتمروا"؛ أي: مُرُوا "بالمعروف وتَنَاهَوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مطاعًا": وهو الذي غلب وبلغ مبلغًا بحيث يطيعُه صاحبُه في منع الحقوق الواجبة من الزكاة والفِطرة والكفارات والنذور ونفقة مَن عليه نفقته.
"وهوًىَ مُتَّبَعًا"؛ أي: يتبع كلُّ أحدٍ هواه وما تأمره به نفسُه الأمَّارة.
"ودنيا مُؤثَرة"؛ أي: مختارة على الآخرة، من: الإيثار، الاختيار لجمع الأموال على الأعمال الصالحة.
"وإعجابَ كل ذي رأي برأيه"، الإعجاب - بكسر الهمزة -: وجدان شيء حسنًا؛ يعني: يجد كلُّ واحدٍ فعلَ نفسِه حسنًا، وإن كان قبيحًا في الواقع، ولا يراجع العلماءَ فيما فعل.
"ورأيتَ أمرًا لابد لك منه"؛ يعني: رأيتَ بعضَ الناس يعملون المعاصي، ولابد لك من السكوت من عجزك وقدرتهم.
"فعليك نفسَك"؛ أي: احفظْها عن المعاصي.
"ودع أمرَ العَوَامِّ"؛ أي: لا تأمرْ أحدًا بالمعروف ولا تنهَه عن المنكر؛ كيلا يؤذيك.
"فإن وراءكم"؛ أي: أمامَكم وقُدَّامَكم "أيامَ الصبرِ"؛ أي: أيامًا يُحمَد فيها الصبرُ عن المحارم.
"فمَن صَبَرَ فيهن"؛ أي: في تلك الأيام.
"كان كمَن قبضَ على الجمرة"؛ أي: تلحقه المشقة الشديدة بالصبر، كمشقة الصابر على قبض الجمرة بيده.
"للعامل فيهن أجرُ خمسين رجلًا يعملون مثلَ عمله"، فيه تأويلان:
أحدهما: أن يكون أجرُ كل واحد منهم على تقدير أنه غيرُ مُبتلًى ولم يُضاعَف أجرُه.
وثانيهما: أن يُراد أجرُ خمسين منهم أجمعين يُبْتَلُون ببلائه.
"فقالوا: يا رسولَ الله! أجرُ خمسين منهم؟ قال: لا، أجرُ خمسين منكم".
* * *
3991 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قامَ فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خَطيبًا بعدَ العَصْرِ فلم يَدَع شيئًا يكونُ إلى قيامِ السَّاعةِ إلا ذَكَرَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ ونسَيَهُ من نسَيَهُ، وكانَ فيما قال:"إنَّ الدُّنيا حُلْوَةٌ خَضرَةٌ، وإنَّ الله مُستَخْلِفُكم فيها فناظِرٌ كيفَ تعملونَ؟ أَلا فاتَّقُوا الدُّنيا، واتَّقُوا النِّساءَ"، وذَكَرَ أنَّ لكلِّ غادرٍ لِوَاءً يومَ القِيامةِ بقَدْرِ غَدْرتهِ في الدُّنيا، ولا غَدْرَ أكبرُ مِن غَدْرِ أميرِ العَامَّةِ، يُغرَزُ لِواؤُه عندَ استِهِ، قال:"ولا تَمنعَنَّ أَحَدًا منكم هيبةُ النَّاسِ أن يقولَ بحقِّ إذا عَلِمَه".
وفي روايةٍ: "إنْ رأى منكرًا أن يغيرَه"، فبكى أبو سعيدٍ وقال: قد رأيناهُ فمَنَعَتْنا هيبةُ النَّاسِ أنْ نتكَلَّمَ فيهِ، ثُمَّ قال: "أَلا إنَّ بني آدَمَ خُلِقُوا على طَبَقاتٍ شَتَّى؛ فمنهم مَن يُولَدُ مُؤْمِنًا، ويحيا مُؤْمِنًا، ويموتُ مُؤْمِنًا، ومنهم مَن يُولدُ
كافِرًا، ويحيا كافِرًا، ويموتُ كافِرًا، ومنهم مَن يولدُ مُؤْمِنًا، ويحيا مُؤْمِنًا، ويموتُ كافرًا، ومنهم مَن يولدُ كافِرًا، ويحيا كافِرًا، ويموتُ مُؤْمِنًا"، قال: وذكرَ الغَضَبَ، "فمنهم مَن يكونُ سريعَ الغَضَبِ سريعَ الفَيْءِ، لإِحداهُما بالأخْرى، ومنهم مَن يكونُ بطيءَ الغَضَبِ بطيءَ الفَيءِ، فإحداهُما بالأخرى، وخِيارُكم مَن يكونُ بطيءَ الغَضَبِ سريعَ الفيء، وشرارُكم مَنْ يكون سريعَ الغَضَبِ بطيءَ الفَيءِ"، قال: "اتقوا الغَضَبَ، فإنهُ جَمْرَةٌ على قَلْبِ ابن آدمَ، أَلا تَرَوْنَ إلى انتِفاخِ أوداجِهِ وحُمرةِ عَيْنَيهِ؟ فمَن أَحَسَّ بشيءٍ مِن ذلكَ فَلْيَضْطَجِعْ وليتلَبَّدْ بالأَرْضِ"، قال: وذكرَ الدَّيْنَ فقال: "منكم مَن يكونُ حَسَنَ القَضاءِ، وإذا كانَ لهُ أَفْحَشَ في الطلَبِ، فإحداهُما بالأُخْرى، ومنكم مَن يكونُ سيئَ القَضاءِ، وإنْ كانَ لهُ أَجْمَلَ في الطَّلَبِ، فإحداهُما بالأُخْرى، وخِيارُكم مَن إذا كانَ عليهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ في القَضاءَ، وإنْ كانَ لهُ أَجْمَلَ في الطَّلَبِ، وشِرارُكم مَن إذا كانَ عليهِ الدَّيْنُ أساءَ القضاءَ، وإنْ كانَ لهُ أَفْحَشَ في الطَّلبِ، حتى إذا كانَت الشَّمْسُ على رُؤوسِ النَّخْلِ وأَطْرافِ الحِيطانِ فقالَ:"أَما إنه لم يَبْقَ مِن الدُّنْيا فيما مَضَى منها إلا كما بقيَ مِن يومِكم هذا فيما مَضَى منه".
"وعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا بعد العصر، فلم يَدَع"؛ أي: يتركْ.
"شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلا ذكرَه؛ حفظَه مَن حفظَه، ونسيَه مَن نسيَه، وقال"؛ أي: أبو سعيد الخُدري: "وكان فيما قال"؛ أي: النبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الدنيا حُلوةٌ خَضرَةٌ"؛ أي: ناعمةٌ طريةٌ؛ يعني: الدنيا طيبة مليحة في عيون الناس وقلوبهم، لا يشبعون من جمع المال ومن الجاه، وفيه تنبيهٌ على شدة انجذاب النفوس إليها؛ لأن كل واحد من هذَين الوصفَين تميل إليه النفوسُ، فإذا اجتمعتا كانت إليه أميلَ.
"وإن الله مُستخلِفُكم فيها فناظرٌ كيف تعملون؟ ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ، وذَكرَ أن لكل غادرٍ"، من الغَدر: ترك الوفاء.
"لواءً"؛ أي: علامةً.
"يومَ القيامة بقَدْر غدرته": مصدر بمعنى: الغَدر.
"في الدنيا، ولا غدرَ أكبرُ من غدر أمير العامة": وهو المتغلِّب المستولي على أمور المسلمين وبلادهم بتغليب العامة ومعاضدتهم إياه.
"يُغرَز لواؤه"؛ أي: تُنصَب علامته.
"عند استه" تحقيرًا له.
"قال: ولا تمنعن أحدًا منكم هيبةُ الناس أن يقول"؛ أي: مِن أن يقولِ "بحقٍّ إذا علمَه، وفي رواية: إذا رأى منكرًا أن يغيِّرَه"؛ أي: مِن أن يغيرَه، مكان قوله:(أن يقول بحقٍّ).
"فبكى أبو سعيد وقال: قد رأيناه، فمنعتْنا هيبةُ الناس أن نتكلم فيه" ونغيره.
"ثم قال: ألا إن بني آدم خُلقوا على طبقات شتى؛ فمنهم مَن يُولَد مؤمنًا ويحيا مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ومنهم مَن يُولَد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم مَن يُولَد مؤمنًا ويحيا مؤمنًا ويموت كافرًا، ومنهم مَن يُولَد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت مؤمنًا".
"قال"؛ أي: أبو سعيد: "وذَكرَ"؛ أي: النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم "الغضبَ؛ فمنهم مَن يكون سريعَ الغضب سريعَ الفَيء"؛ أي: سريعَ الرجوع من الغضب.
"فإحداهما بالأخرى"؛ يعني: إحدى الخصلتَين تُقابَل بالخصلة الأخرى،
لا يستحقُّ المدحَ والذمَّ فاعلُهما.
"ومنهم مَن يكون بطيءَ الغضب بطيءَ الفَيء، فإحداهما بالأخرى، وخيارُكم مَن يكون بطيءَ الغضبِ سريعَ الفَيءَ، وشرارُكم مَن يكون سريعَ الغضبِ بطيءَ الفَيء، قال صلى الله عليه وسلم: اتقوا الغضبَ؛ فإنه جمرةٌ على قلب ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوداجه" جمع: وَدجَ، وهو عِرق العُنق.
"وحمرة عينَيه؟ فمَن أحسَّ بشيء من ذلك"؛ أي: إذا علمَه بالحسِّ.
"فَلْيضطجعْ وَلْيتلبَّدْ بالأرض"؛ أي: يَلتَزق بها ويصير كاللِّبد ملتصقًا بها، حتى تتكسرَ نفسُه ويَسكُنَ غضبُه، وإنما أَمرَ بذلك لِمَا فيه من الضَّعَةِ عن الاستعلاء وتذكُّرِ أن أصلَه من تراب لا يَصلُح أن يتكبَّرَ ويتجبَّرَ من شدة الغضب.
"وقال" أبو سعيد: "وذَكرَ الدَّينَ، فقال: فمنكم مَن يكون حسنَ القضاء وإذا كان له"؛ أي: الدَّينُ لمن هو حسنُ القضاء على أحدٍ "أَفحشَ في الطلب"؛ أي: آذاه في تقاضيه وعسَّر عليه في طلبه.
"فإحداهما بالأخرى، ومنكم مَن يكون سيئَ القضاء، وإن كان له"؛ أي: للمسيء.
"أَجملَ"؛ أي سهَّل ويسَّر "في الطلب، فإحداهما بالأخرى، وخياركم مَن إذا كان عليه الدِّينُ أحسنَ القضاءَ، وإذا كان له أَجملَ في الطلب، وشرارُكم مَن إذا كان عليه الدَّينُ أساءَ القضاءَ، وإذا كان له أَفحشَ في الطلب، حتى إذا كادت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحِيطان" بكسر الحاء: جمع حائط، هذا من كلام الراوي؛ أي: أنه صلى الله عليه وسلم وعظَهم هذه العِظَةَ بعد العصر إلى قرب الغروب.
"فقال: أَمَا إنه لم يبقَ من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".
3992 -
وقال: "لن يَهلكَ النَّاسُ حتى يُعذَروا مِن أنفُسِهم".
"عن أبي البَختري، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله عليه وسلم: لن يهلكَ الناسُ حتى يُعذِرُوا مِن أنفسِهم"، يقال: أَعذَرَ الرجل: إذا صار ذا ذنبٍ كثيرٍ محتاجٍ إلى العذر من كثرة ذنوبه؛ يعني: حتى تَكثُرَ ذنوبُهم وعيوبُهم، فيستوجبوا العقوبةَ، ويقيموا لمن عاقبهم العذرَ في ذلك، حتى يدفعوا العقوبةَ عن أنفسهم، و (مِن): للتبيين.
ويروى بصيغة المجهول من: (أُعذِرَ): إذا زال عذرُ أحدٍ؛ يعني: حتى يجعلَهم الله بحيث لا يَقدِرون على العذر، بأن يبعثَ عليهم الرسلَ ويبينوا لهم الرشادَ من الضلال، والحرامَ من الحلال، والحقَّ من الباطل.
ويروى بفتح الياء؛ أي: حتى يَعذِرُوا أنفسَهم بتأويلاتٍ وأعذارٍ باطلةٍ.
3993 -
وقال: "إنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ العَامَّةَ بعَمَلِ الخاصَّةِ حتى يَرَوُا المُنْكَرَ بينَ ظَهْرانيهِم، وهم قادرونَ على أن يُنكِرُوهُ فلم يُنْكِروهُ، فإذا فعلُوا ذلكَ عذَّبَ الله العَامَّةَ والخَاصَّةَ".
"وعن عدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يعذِّب العامةَ بعمل الخاصة" أراد بـ (العامة): أكثر القوم، وبـ (الخاصة): أقلها.
"حتى يَرَوا المنكرَ بين ظَهْرَانيَهم"؛ أي: بينَهم.
"وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله العامةَ والخاصةَ".
3994 -
وعن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا وَقَعَتْ بنو إسرائيلَ في المعاصي نهتْهُم عُلَماؤُهُم فلم يَنتهُوا، فجالسُوهم في مجالِسِهم، وَواكلُوهُم وشارَبُوهم، فَضَرَبَ الله قلوبَ بعضهم ببَعْضٍ، ولعنَهم على لسانِ داودَ وعيسَى بن مريمَ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} "، قال: فجَلَسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكانَ مُتَّكِئًا فقال: "لا وَالذي نَفْسي بيدهِ، حتى تَأْطِرُوهم أَطْرًا".
وفي رِوايةٍ: "كلا والله، لتأمُرُنَّ بالمَعْروفِ، وَلَتنهَونَّ عن المنكرِ، ولتأخُذُنَّ على يَدَي الظالم، ولَتَأْطِرُنَّهُ على الحقِّ أَطْرًا، أو لتقْصُرُنَّه على الحَقِّ قَصْرًا، أو ليَضْرِبن الله بقلوبِ بعضكُم على بعضٍ، ثم لَيَلْعَننَّكُم كما لَعَنَهُم".
"عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمَّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتْهم علماؤُهم، فلم ينتهوا، فجالَسُوهم في مجالسهم، وواكَلُوهم وشارَبُوهم، فضَربَ الله قلوبَ بعضهم ببعض"، الباء: للسببية؛ يعني: سوَّد قلبَ مَن لم يعصِ بشؤمِ مَن عَصَى، فصارت قلوبُ جميعهم قاسيةً بعيدةً عن قَبول الحق والخير والرحمة بسبب المعاصي، وسببِ مخالطة بعضهم بعضاً.
"ولعنَهم على لسان داود وعيسى بن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}، قال: فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكان متكِئًا، فقال: لا"؛ أي لا تَنجُون مِن العذاب.
"والذي نفسي بيده حتى تَأطِروهم" - بكسر الطاء المهملة - "أَطْرًا" بفتح الهمزة ثم السكون: هو الإمالة والتحريف من جانب إلى جانب؛ يعني: حتى يمنعوا الظَّلَمة والفَسَقة عن الظلم والفسق، ويُميلوهم عن الباطل إلى الحق، (حتى): متعلقة بقوله: (لا)، والقَسَم معترضة بينهما.
"وفي رواية: كلا، والله لَتأمُرُنَّ بالمعروف وَلَتنهوُنَّ عن المنكر، وَلَتأخذنَّ على يَدي الظالم، وَلتأطِرُنَّه على الحق، وَلَتقصُرُنَّه"؛ أي: لتَحبسُنَّه "على الحق قصرًا": وهو كـ (القسر) بمعنى: القهر.
"أو ليَضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليَلعنَّنكم كما لعنَهم".
3995 -
عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "رَأَيتُ ليلةَ أُسْرِيَ بي رِجالًا تُقرَضُ شِفاهُهم بمَقارِضَ مِن نارٍ، فقلتُ: مَن هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قال: هؤلاءِ خُطَباءُ مِن أُمَّتِكَ يأمرونَ النَّاسَ بالبرِّ ويَنْسَوْنَ أنفُسَهم".
"عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيتُ ليلةَ أُسرِيَ بي رجالًا تُقرَض"؛ أي: تُقطَع.
"شفاههم بمقاريض" جمع: المِقْرَاض.
"من نار، قلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباءُ من أمتك، يأمرون الناسَ بالبرِّ وَينسَون أنفسَهم".
3996 -
عن عَمَّارِ بن ياسرٍ قال: قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: "أُنزِلَتْ المائِدَةُ مِن السَّماءِ خُبْزًا ولَحْمًا، وأُمِروا أنْ لا يَخُونوا ولا يَدَّخِرُوا لغدٍ، فخانُوا وادَّخَروا
ورَفَعُوا لِغَدٍ، فمُسِخُوا قِرَدَةً وخنازِيرَ".
"عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُنزِلَتِ المائدةُ من السماء خبزًا ولحمًا": منصوبان على التمييز.
"وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا لغدٍ، فخانوا واذَخروا ورفعوا لغدٍ، فمُسِخُوا"؛ أي: فغيرت صُوَرُهم.
"قِرَدةً" جمع: قِرد، منصوب على أنه مفعول ثانٍ لـ (مُسخوا).
"وخنازير" جمع: خِنزير.