الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"كما تتداعى الآكِلَةُ"؛ أي: الفئة أو الجماعة الآكِلَةُ بعضُهم بعضًا.
"إلى قصعتها" التي يتناولونها بلا مانع ولا منازع، فيأكلونها، كذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعبٍ ينالهم.
"فقال قائل: ومِن قلةٍ نحن" يُتداعى علينا "يومَئذٍ؟ قال: بل أنتم يومَئذٍ كثير، ولكنكم غُثَاءٌ كغُثَاءَ السيل"، وهو - بضم الغين المعجمة - ما يجيء فوق السيل من زَبَد ووسخ، وقيل: ما يبس من النبت كالتِّبن والحشيش، فحملَه الماء وألقاه في الجوانب؛ يعني: لا يكون لكم قوة وشجاعة، بل تخافون من الأعداء، وتكونون متفرقين ضعيفي الحال دانيي القَدْر.
"وَلَينزعَنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ"؛ أي: الهيبةَ منك.
"وَلَيقذفَنَّ"؛ أي: لَيَرميَنَّ "في قلوبكم الوَهنَ"؛ أي: الضعفَ.
"قال قائل: يا رسولَ الله! وما الوهنُ؟ " ليس السؤال عن نفس الوهن، بل عن سببه وموجبه.
"قال: حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت"؛ فإنهما يدعوانكم إلى احتمال الذل من العدو، ووقوع الوهن في قلوبكم.
* * *
9 - باب
"باب" فيه ذكر الإنذار والتحذير.
مِنَ الصِّحَاحِ:
4135 -
عن عِياضِ بن حِمارٍ المُجَاشِعيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ ذاتَ يَوْمٍ في خُطبتِهِ: "ألا إنَّ ربي أَمَرَني أنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهلتُمْ مِمَّا علَّمني يومي
هذا، كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنفاءَ كُلَّهمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّياطينُ فاجتالَتْهُمْ عنْ دِيِنهِمْ، وحَرَّمَتْ عليهمْ ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وأَمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ بهِ سُلْطانًا، وإنَّ الله نَظَرَ إلى أهلِ الأَرْضِ فمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وعجَمَهُمْ، إلَّا بَقايا منْ أهلِ الكِتابِ، وقال: إنَّما بَعَثْتُكَ لأبتَلِيَكَ وأبتَليَ بكَ، وأَنْزَلتُ عليكَ كِتابًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ، تَقرَؤُهُ نائِمًا ويَقْظانَ، وإنَّ الله أمَرَني أنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: رَبِّ! إذًا يَثْلَغوا رَأْسي فيَدَعوهُ خُبْزَةً، قال: استَخْرِجْهُمْ كما أَخْرجُوكَ، واغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وأنْفِقْ فسنُنْفِقَ عليكَ، وابعَثْ جَيْشًا نبَعَثْ خَمْسةً مِثلَهُ، وقاتِلْ بمَنْ أَطاعَكَ مَنْ عَصَاكَ".
"من الصحاح":
" عن عِيَاض بن حِمَار المُجاشِعي رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ذاتَ يومٍ في خطبة: ألا إن ربي أَمرَني أن أعلِّمَكم ما جهلتُم مما علَّمَني يومي هذا: كلُّ مالٍ نَحَلْتُه"؛ أي: أعطيتُه، فهذا من مقول الله تعالى؛ أي: أعطاه الله.
"عبدًا حلالٌ"؛ أي: لا يستطيع أحدٌ أن يحرِّمَه من تلقاء نفسه، ويمنعَه من التصرُّف تصرُّفَ المُلَّاك في أملاكهم، قيل: يمكن أن يكون المراد بهذا نفيَ البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، قال الله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103].
والبحيرة: هي الولد العاشر من الناقة، كانوا يسيبون الأم والولد، ويشقُّون أذن الولد للعلامة، فلم يركبْها، والوصيلة من الغنم: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذَكَرًا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكر أو أنثى وصلت أخاها فلم يذبحوها.
والحام على ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنهما: إذا نُتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: يُحمَى ظهرُه، وسُيبَ لأصنامهم، فلا يحملون عليه.
"وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم"؛ أي مستعدين لقَبول الحق والميل عن الضلال إلى الاستقامة، وقيل: معناه: طاهري الأعضاء من المعاصي، لا أنه خلقَهم كلَّهم مسلمين؛ لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2].
وقيل: أراد أنه خلقهم مؤمنين لما أخذ عليهم الميثاقَ، وقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، فلا يوجد أحد إلا وهو مقرٌّ بأن له ربًّا وإنْ أَشركَ به.
"وإنهم أتتْهم الشياطينُ فاجتالتْهم"؛ أي: ساقتْهم الشياطينُ "عن دينهم"، يقال: اجتال الرجلُ الشيءَ: إذا ساقَه وذهبَ به، وقيل: معناه: حملتْهم على جولانهم؛ أي: انحرافهم وميلهم عن الدين، والجائل: الزائل والمائل عن مكانه، أضاف الفعل - وهو الاجتيال - إلى السبب له وهو الشياطين؛ لأنه تعالى جعلهم سببًا لإظهار مشيئته فيهم.
"وحرَّمتْ"؛ أي: الشياطينُ "عليهم ما أَحللتُ لهم" يريد به: البحيرة والسائبة وغيرهما.
"وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا"؛ أي حُجَّةً وبرهانًا، قيل: هذا على سبيل التهكُّم؛ إذ لا يجوز على الله أن يُنزلَ برهانًا أن يُشرَكَ به غيره.
"وإن الله نظرَ إلى أهل الأرض"؛ أي: رآهم حين وجدهم متفقين على الشرك منهمكين في الضلالة، وذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
"فمقتَهم"؛ أي: أبغضَهم بسوء صنيعهم.
"عَرَبَهم وعَجَمَهم"، والمَقت في الأصل: ابتداء البغض، وإنما أبغضَهم لأنهم كانوا قبلَ مجيء محمد عليه الصلاة والسلام كفارًا؛ زعم بعضهم: أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله، وبعضُهم أنه شريكُ الله، وغير ذلك، وباقي الناس كانوا يعبدون الأصنامَ والشمسَ والنارَ وغيرَ ذلك.
"إلا بقايا من أهل الكتاب": وهم الذين آمنوا بعيسى عليه السلام قبل
مبعث نبينا عليه الصلاة والسلام، وبقوا على متابعته، ثم آمنوا بنبينا صلى الله عليه وسلم.
"وقال"؛ أي: الله تعالى: "إنما بعثتُك يا محمدُ لأبتليَك"؛ أي: لأمتحنَك بتبليغ الرسالة عني: هل تصرُّ على إيذاء قومك إياك؟
"وأبتليَ"؛ أي: ولأمتحنَ الخَلقَ بك في قَبول الرسالة عني منك، وابتلاؤه تعالى عائد إلى عباده لا إلى استعلامه.
"وأَنزلتُ عليك كتابا"؛ أي: القرآنَ.
"لا يغسله الماء"؛ أي: لا يفنى أبدًا، بل هو محفوظ في صدور الذين أُوتوا العلم؛ يعني: يسَّرت حفظَه عليك وعلى أمتك، فإذا كنتم تحفظونه فكيف يغسله الماء عن صدوركم؟ قال الله تعالى:{هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49].
قيل: وكانت الكتب المُنزَلة لا تُجمَع حفظًا، بل يُعتمد في حفظها على الصُّحف، بخلاف القرآن.
"تقرؤه نائمًا ويقظانَ"؛ أي تجمعه حفظًا حالتَي النوم واليقظة، أو تقرؤه في نومك؛ وذلك لرسوخه في حافظته، أو تقرؤه في يسرٍ وسهولةٍ، يقال للرجل القادر على الشيء الماهر به: هو يفعله نائمًا، وقيل: أراد بـ (الغَسل): النسخ مجازًا، فالمراد بـ (الماء): الكتاب، كقوله تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [فاطر: 27] قيل: كتابا سماويًا، وقد يُستعمل الغَسل في الإدحاض والإبطال، وقيل: أراد به غزارةَ معناه وكثرةَ فوائده، من قولهم: مالٌ لا يفنيه الماء والنار.
"وإن الله أمرني أن أحرقَ قريشًا"؛ أي: أُهلكَ كفارَ قريش.
"فقلت: ربِّ! إذًا يَثْلَغُوا رأسي"؛ أي: يَشْدَخُوه ويكسروه.
"فيَدَعُوه خبزةً"؛ أي: يتركوه مثلَ خبزة مكسورة، يريد: لا أَقدِر على محاربتهم؛ لقلة جيشي وكثرتهم.
"قال الله تعالى: استَخرِجْهم كما أخرجوك واغزُهم"؛ أي: اغزُ معهم "نُغْزِك"؛ أي نجهزْ غزوَك معهم، يقال: أَغزَيتُ فلاناً؛ أي: جهَّزتُه للغزو وهيأت أسبابه؛ يعني: ننصرْك ونقوِّ جيشَك.
"وأَنفِقْ فسننفق عليك، وابعثْ جيشاً نبعثْ خمسةً مثلَه"؛ أي: خمسةَ أمثال جيشهم من الملائكة، كما فعل يومَ بدر.
"وقاتِلْ بمن أطاعك مَن عصاك".
* * *
4136 -
عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا نَزلتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعِدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفا، فَجَعَلَ يُنادي:"يا بني فِهْرٍ! يا بني عَدِيٍّ! " لِبُطونِ قُرَيْشٍ، حتَّى اجْتَمعُوا، فقالَ: أرأَيْتَكُمْ لوْ أَخْبَرتُكُمْ أنَّ خَيْلاً بالوادِي تُريدُ أنْ تُغيرَ عليكُمْ، أكنتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: نعمْ، ما جَرَّبنا عليكَ إلَّا صِدْقاً، قال:"فإنِّي نَذيرٌ لكُمْ بينَ يَدَيْ عَذابٍ شديدٍ"، قالَ أبو لَهَبٍ: تبًّا لكَ سائِرَ اليَوْمِ، أَلِهذا جَمَعْتَنا؟ فنزلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
ويُروَى: "نادَى: يا بني عبدِ مَنافٍ! إنَّما مَثَلي ومثَلُكُمْ كمثَلِ رَجُلٍ رأَى العَدُوَّ، فانْطَلقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فخَشيَ أنْ يَسبقُوهُ، فجَعَلَ يَهتِفُ: يا صَباحاهْ! ".
"عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفَا": اسم جبل بمكة.
"فجعلَ"؛ أي: طفقَ.
"ينادي: يا بني فِهْر! " بكسر الفاء وسكون الهاء.
"يا بني عَدَي! لبطون قريش"، والبطن: دون القبيلة، وهما قبيلتان من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم.
"حتى اجتمعوا، فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتُكم"؛ أي: أخبرُوني.
"لو أخبرتُكم أن خيلاً"؛ أي جيشاً.
"بالوادي": موضع معروف بقرب مكة.
"تريد أن تُغِيرَ عليكم" من: الغارة، النَّهب.
"أكنتم مُصدِّقِيَّ؟ " بتشديد الياء مضافاً إلى ياء المتكلم؛ أي: أتصدِّقونني فيما أخبرتكم؟
"قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقاً"؛ يعني: جرَّبناك وما رأينا منك إلا صدقاً، كانوا يعتقدونه صلى الله عليه وسلم صادقاً في الأمور الدنيوية، ويكذِّبون فيما يخبرهم من أمور الدين والآخرة.
"قال صلى الله عليه وسلم: فإني نذير"؛ أي: مُنذِر.
"لكم بين يدَي عذابٍ شديدٍ"؛ أي: قبل نزول عذاب شديد بكم؛ يعني: إن لم تؤمنوا بي ينزلْ عليكم عذاب عن قريب.
"فقال أبو لهب": وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كُني به لشهرته بكنيته، واسمه عبد العُزَّى.
"تبًّا لك"؛ أي: خسراناً، نُصب على المصدر.
"سائرَ اليوم": منصوب على الظرفية.
"ألهذا جمعتَنا؟ فنزلت" جواباً له على سبيل الدعاء عليه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ؛ أي خسرتْ وهلكتْ نفسُه.
{وَتَبَّ} ؛ أي هلكَ، وهذا خبر، كقولهم: أهلكه الله، وقد هلك.
"ويروى: نادى: يا بني عبد مناف! إنما مَثَلي ومَثَلُكم كمَثَلِ رجلٍ رأى العدوَّ، فانطلق يَرْبَأ أهلَه"؛ أي: يصير لهم ربيئةً؛ أي: رقيباً، يحفظهم من
عدوهم؛ لئلا يأتيَهم بغتةً، ولا يكون إلا على جبل أو شَرَف ينظر منه، ويقال له: الدَّيْدَبَان.
"فخشِي"؛ أي هذا الرجلُ إذا رأى العدوَّ.
"أن يسبقوه"؛ يعني: أنه لو أتى قومَه ليخبرَهم لَسبقَه العدوُّ وأغاروا عليهم قبل وصوله إليهم.
"فجعل"؛ أي طفقَ "يهتف"؛ أي يصيح وينادي من رأس الجبل: "يا صباحاه! " وهي كلمة تُقال إنذاراً بأمرٍ مَخوفٍ.
* * *
4137 -
عن أبي هُريرةَ قال: لمَّا نزَلتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشاً، فاجتَمَعُوا، فعَمَّ وخَصَّ، فقال:"يا بني كَعْبِ بن لُؤَيٍّ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني مُرَّةَ بن كَعْبٍ أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النارِ، يا بني عبدِ شَمْسٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني عبدِ مَنافٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني هاشِمٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني عبدِ المُطَلِبِ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا فاطِمَةُ! أَنْقِذي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فإنِّي لا أَمْلِكُ لكُمْ مِنَ الله شيئاً، غيرَ أنَّ لكُمْ رَحِماً سَأَبُلُّها ببلالِها".
وفي رِوايةٍ: "يا مَعْشرَ قُرَيْشٍ! اشتَرُوا أنفُسَكُمْ، لا أُغْني عنكُمْ مِنَ الله شَيْئاً، يا بني عبدِ مَنافٍ! لا أُغني عنكُمْ مِنَ الله شيئاً، يا عبَّاسُ بن عبدِ المُطَّلِبِ! لا أُغني عَنْكَ مِنَ الله شيئاً، ويا صَفِيَّةُ! عمَّةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئاً، ويا فاطِمَةُ بنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِيني ما شِئْتِ مِنْ مالي، لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئاً".
"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا
النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا، فعمَّ"؛ أي: النبيُّ صلى الله عليه وسلم في النداء "وخَصَّ، فقال: يا بني كعب بن لؤي! أَنقِذُوا"؛ أي: أَخلِصُوا أنفسكم "أنفسَكم من النار، يا بني مرة" - بضم الميم وتشديد الراء - "ابن كعب! أَنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني عبد مَناف! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا فاطمةُ! أنقذي نفسَك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئاً"؛ أي: لا أَقدِر أن أدفعَ عنكم شيئاً من عذاب الله إن أراد أن يعذبَكم، فإنما أَشفعُ لمن أَذِنَ الله لي فيه، وإنما قال في حقهم هكذا؛ لترغيبهم على الإيمان والعمل؛ لئلا يعتمدوا على قرابته ويتهاونوا.
"غيرَ أن لكم رَحِماً"؛ أي: قرابةً.
"سأَبُلُّها ببلالِها"؛ أي: سأَصِلُها بصلة الرحم.
"وفي رواية: يا معشرَ قريش! اشتروا أنفسَكم"؛ أي: خلِّصوها من النار بترك الكفر وبالطاعة لِمَا جئتُ به والانقياد له.
"لا أغني عنكم من الله شيئًا"؛ أي لا أُبعد عنكم شيئاً من عذاب الله؛ أي: لا أَقدِر على تبعيده، من قولهم: أَغْنِ عني كذا؛ أي: بعِّدْه ونَحِّهِ.
"يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفيةُ عمَّةَ رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمةُ بنتَ محمد! سَلِيني ما شئتِ من مالي"، قيل: الظاهر أنه ليس من المال المعروف؛ إذ لم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان ذا مال، لا سيما بمكة، وإنما عبَّر به عما يملكه من الأمر وينفذ تصرفه فيه، ويحتمل أن الفصلَ بين (من) و (ما) وقع ممن لم يحققه من الرواة، والأصل أن يُكتبا متصلَين؛ أي: مما لي من أمر الشرع.
"لا أغني عنك من الله شيئاً".
* * *
مِنَ الحِسَان:
4138 -
عن أبي مُوسى صلى الله عليه وسلم قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُمَّتي هذهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، ليسَ عَلَيها عَذَابٌ في الآخِرَةِ، عذابُها في الدُّنيا: الفِتَنُ والزَّلازِلُ والقَتْلُ".
"من الحسان":
" عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمتي هذه أمةٌ مرحومةٌ، ليس عليها عذاب في الآخرة"، تأويله: أن المراد: مَن اقتدى به صلى الله عليه وسلم كما ينبغي ويحبُّه قولاً وعملاً، أو يكون المراد: عذاب دائم؛ لأن مَن فعلَ كبيرةً فقد استحق العذابَ، ثم أمرُه إلى الله؛ إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه.
"عذابُها في الدنيا: الفتنُ والزلازلُ والقتلُ".
* * *
4139 -
عن أبي عُبَيْدَةَ ومعاذِ بن جَبَلٍ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ هذا الأمرَ بدأَ نبُوَّةً ورَحْمَةً، ثمَّ يكونُ خِلافةً ورَحْمَةً، ثمَّ مُلكاً عَضُوضًا، ثمَّ كائِنٌ جَبْرِيَّةً وعُتُواً وفَساداً في الأَرْضِ، يَستَحِلُّونَ الحَريرَ والفُروجَ والخُمورَ، يُرْزَقونَ على ذلكَ ويُنْصَرونَ، حتَّى يَلْقَوا الله".
"عن أبي عبيدة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إن هذا الأمرَ"؛ أي: الدينَ والإسلامَ وما بُعث به صلى الله عليه وسلم.
"بدأ"؛ أي: ظهرَ.
"نبوةً ورحمةً": نصب على التمييز أو على الحال؛ يعني: أولُ الدين إلى آخر زمانه صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه باطل، بل كان جميعُه زمانَ نزول الوحي والرحمة.
"ثم يكون خلافةً ورحمةٍ"؛ يعني: كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم زمانَ خلافةٍ زمانَ شفقةٍ ورحمةٍ وعدلٍ، وذلك زمان الخلفاء الراشدين.
"ثم ملكاً عضوضاً": مبالغة من: العَضِّ بالسِّنِّ؛ أي: يصيب الرعيةَ فيه ظلمٌ، كأنهم يعضُّون فيه عضًّا، وروي بضم العين، جمع: عِضٍّ - بالكسر -، وهو الخبيث الشرير؛ يعني: يكون ملوكٌ يظلمون الناسَ ويؤذونهم بغير حق.
"ثم كائنٌ"؛ أي الأمرُ.
"جبريةً": نصب على أنه خبر (كائن)؛ أي: قهراً وغلبةً.
"وعتواً وفساداً في الأرض"؛ يعني: يغلب الظلمُ والفسادُ على الملوك، كما هو الآن كذلك.
"يستحلُّون الحريرَ والفُروجَ والخمورَ، يُرزَقون على ذلك ويُنصَرون حتى يَلقَوا الله".
* * *
4140 -
عن عائِشَةَ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أوَّلَ ما يُكْفأُ - قال الرَّاوي: يعني: الإسلامَ - كما يُكْفَأُ الإناءُ"؛ يعني: الخَمْرَ. قيلَ: فكيفَ، يا رسولَ الله! وقدْ بيَّنَ الله فيها ما بيَّن؟ قال:"يُسَمُّونَها بغَيْرِ اسمِها فيَستحِلُّونَها".
"عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"، قيل: إنه - عليه الصلاة السلام - كان يتحدث في الخمر، فقال في أثناء حديثه:
"إن أولَ ما يُكفَأ" على صيغة المجهول، يقال: كَفأتُ الإناءَ؛ أي: أَملتُه وكببتُه لإفراغ ما فيها، والمراد هنا: الشرب.
"قال الراوي: يعني: الإسلام"، وقيل: وصوابه: في الإسلام، لعلها سقطت من لفظ الراوي.
"كما يُكفَأ الإناء؛ يعني: الخَمر"؛ أي: إن أولَ ما يُمال؛ أي: يُغيَّر في الإسلام من الأشياء المحرَّمة تغيراً سريعاً شبيهَ قلبِ الإناءِ بما فيه الخَمرُ.
"قيل: فكيف يا رسولَ الله وقد بيَّن الله فيها"؛ أي: في الخمر "ما بيَّن؟ "؛ يعني: كيف يشربون الخمرَ وقد بيَّن الله تحريمَها.
"قال: يسمُّونها بغير اسمها"؛ أي: يسمُّونها باسم النبيذ والمثلَّث.
"فيستحلُّونها" متأوِّلين بذلك، وقيل: يتخذونها من الذُّرة والعسل وغيرهما، ويعتقدون حلَّ هذه الأشربة، ويقولون: ليست بخمرٍ؛ لأن الخمرَ ما يُتخذ من العنب، وهذا باطل؛ لأن الخمرَ ما خامَرَ العقلَ؛ أي: سترَه، سواءٌ كان من العنب وغيره.
* * *