الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، ثم رجع والقوم في اهتمام وغمٍّ مما حدثهم، قالت: فأخذ بلَحْمَتي الباب": بفتح اللام وسكون الحاء المهملة والميم المفتوحة؛ أي: بناصيتي الباب.
"فقال: مَهْيَمْ": كلمة يمانية يستفهم بها، معناه: ما لك؟ وما شأنك؟
"أسماء"؛ أي: يا أسماء.
"قلت: يا رسول الله! لقد خلعت أفئدتنا"؛ أي: كسرت قلوبنا.
"بذكر الدجال، قال: إن يخرج وأنا حيٌّ فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كلِّ مؤمن. فقلت: يا رسول الله! والله إنا لنعجن عجيننا"؛ أي: نُهيئ العجين للخبز.
"فما نخبزه حتى نجوع"؛ أي: لا نستطيع أن نخبزه؛ لأجل همٍّ عظيم خلع أفئدتنا وحيَّر عقولنا بذكر الدجال.
"فكيف بالمؤمنين يومئذٍ؟ "؛ أي: كيف يكون حال من ابتلي بزمانه؟
"قال: يجزيهم ما يجزي أهل السماء"؛أي: يكفيهم ما يكفي الملأ الأعلى.
"من التسبيح والتقديس"؛ يعني: من ابتلي بزمانه لا يحتاج إلى الأكل والشرب، كما لا يحتاج الملأ الأعلى إليهما.
* * *
5 - باب قِصَّةِ ابن الصَّيَّادِ
(باب قصة ابن الصياد)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4248 -
عن عبدِ الله بن عُمَرَ: أنَّ عُمرَ بن الخَطَّابِ انطلقَ معَ
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في رَهْطٍ منْ أَصْحابهِ قِبَلَ ابن صيَّادٍ حتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ معَ الصِّبيانِ في أُطُمِ بني مَغالةَ، وقدْ قارَبَ ابن صيَّادٍ يَوْمَئذٍ الحُلُمَ، فَلَمْ يَشعُرْ حتَّى ضَرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بيدِه ثمَّ قالَ:"أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ " فنظرَ إليهِ فقالَ: أَشْهَدُ أنَّكَ رسولُ الأمّيينَ، ثُمَّ قال ابن صيَّادٍ: أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ فَرَضَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قالَ:"آمنتُ بالله ورسولهِ"، ثُمَّ قالَ لابن صيّادٍ:"ماذا تَرَى؟ " قال: يأتِيني صادِقٌ وكاذِب، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"خُلِّطَ عَلَيكَ الأمرُ"، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنِّي خَبأْتُ لكَ خَبيئًا"، وخَبأَ لهُ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، فقالَ: هوَ الدُّخُّ، قالَ:"اخْسَأْ، فلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"، قال عُمَرُ: يا رسولَ الله! أتأْذَنُ لي فيهِ أضْرِبْ عنُقَه؟ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ يَكُنْ هوَ فلا تُسلَّطُ عليهِ، وإنْ لمْ يكُنْ هوَ فلا خيرَ لكَ في قتلِهِ"، قال ابن عمرَ: انطلقَ بعدَ ذلكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأُبَيُّ بن كَعْبٍ الأَنْصارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ التي فيها ابن صيَّادٍ، فطَفِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتَّقي بجُذوعِ النَّخْلِ، وهوَ يَخْتِلُ أنْ يسمعَ منْ ابن صيَّادٍ شيئًا قبلَ أنْ يراهُ، وابن صيَّادٍ مُضْطَجعٌ علَى فِراشِهِ في قَطِيفَةٍ لهُ فيها زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أمُّ ابن صيَّادٍ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهوَ يتَّقي بجُذوعِ النَّخْلِ فقالت: أيْ صَافِ! وهوَ اسمُه، هذا مُحَمَّد، فتَنَاهَى ابن صيَّادٍ، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لو تَرَكَتْهُ بيَّنَ"، قالَ عبدُ الله بن عُمَرَ: قامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ فأثنَى على الله بما هوَ أَهْلُهُ، ثمَّ ذَكرَ الدَّجَّالَ فقالَ:"إنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وما منْ نبَيٍّ إلا وقدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لقد أنذرَهُ نُوحٌ قومهُ، ولكنِّي سأقولُ لكمْ فيهِ قَوْلًا لمْ يقلْهُ نبيٌّ لقومِهِ: تعلمونَ أنَّهُ أَعْوَرُ، وأنَّ الله ليسَ بأَعْوَرَ".
"من الصحاح":
" عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه": والرهط: ما دون العشرة من الرجال، اسم مفرد وُضع للجمع.
"قِبَل ابن صياد" أي: جانبه، قيل: هو الدجال، وقيل: هو يهودي وُلِدَ في المدينة.
"حتى وجدوه": (حتى) هاهنا حرف ابتداء يُستأنفَ بعده الكلام، ويفيد انتهاء الغاية.
"يلعب مع الصبيان": حال من الضمير المنصوب في (وجدوه).
"في أُطُم" بضم الهمزة: جمع (إِطام) بالكسر، وهو الحصين.
"بني مَغالَة" بفتح الميم والغين المعجمة: قبيلة؛ أي: في حصونهم.
"وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم"؛ أي: البلوغ.
"فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال: أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه"؛ أي: ابن صياد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"وقال: أشهد أنك رسول الأميين": أراد بهم: أمة العرب؛ فإنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وهذا الكلام منه جرى على سُنةِ اليهود، وهي أنهم إذا عجزوا عن الطعن في نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، زعموا أنه بعث إلى العرب خاصة، لا إلى الكافة.
"ثم قال ابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فرصَّه النبي": بفتح الصاد المهملة المشددة، وهو الصواب؛ أي: فتناوله وضغطه حتى ضمَّ بعضه بعضًا بالعصر، وإنما لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ادعى النبوة بحضرته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان غير بالغ، أو لأنه في أيام مهادنة الرسول عليه الصلاة والسلام اليهودَ وحلفائهم، وهو منهم، أو دخيلٌ فيهم.
"ثم قال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام:
"آمنت بالله ورسله، ثم قال لابن صياد: ماذا ترى؟ قال: يأتيني صادق وكاذب "؛ أي: كانت له تارات يصيب في بعضها، ويخطئ في بعضها؛ لأن ذلك كان شيئًا يلقيه إليه الشيطان، ويجريه على لسانه؛ قد يكون صادقًا، وقد يكون كاذبًا.
"قال النبي صلى الله عليه وسلم: خلطَ عليك الأمر"؛ أي: هو شيطان خلَّط عليك الكذب بالصدق؛ ليغويك.
"قال صلى الله عليه وسلم: إني خبأتُ لك خبيئًا"؛ أي: أضمرت لك مضمرًا؛ لتخبرني عنه.
"وخبأ له "؛ أي: اضمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فقال: هو الدُّخُّ" بضم الدال المهملة والخاء المعجمة المشددة: لغة في الدخان.
"فقال: اخسَأْ": كلمة زجر واستهانة؛ أي: ابعد واسكت صاغرًا، فإنك وإن أخبرت عن خبيئتي:"فلن تعدوَ قدرك"؛ أي: لن تستطيع أن تتجاوز الحد الذي حُدَّ لك، يريد: أن الكهانة لا ترفع صاحبها عن القدر الذي هو عليه، وإن أصاب في كهانته، وإنما امتحنه صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ليظهر إبطال حاله للصحابة، وأنه كاهن ساحر، يأتيه الشيطانُ، فيلقي على لسانه.
وقيل: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فلن تعدو قدرك" أنه دعاء عليه بعدم بلوغه قدره من مطالعة الغيب؛ وحيًا كما للأنبياء، أو إلهامًا كما للأولياء.
"قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! أتأذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال عليه الصلاة والسلام: إن يكن هو": الضمير المستكن يعود إلى الدجَّال، والمنفصل إلى [ابن] صياد، ويجوز بالعكس، والضمير المنفصل خبر (كان).
قيل: كان حقه أن يقال: إن يكن إياه، فوضع المرفوع المنفصل موضع المنصوب المنفصل، وقيل: في (يكن) ضمير للشأن، وهو مبتدأ محذوف
الخبر، والتقدير: إن يكن الشأن ابن صياد الدجال.
"لا تُسلِّط عليه"؛ أي: لا تقدر أن تقتله؛ لأن قاتله عيسى عليه السلام.
"وإن لم يكن هو، فلا خيرَ لك في قتله": منعه صلى الله عليه وسلم عن قتله؛ لأنه كان صغيرًا، وقد منع صلى الله عليه وسلم عن قتل الصبيان، أو لأنه كان من أهل الذمة.
وهذا يدل على أن عهد الوالد يجري على ولده الصغير.
"قال ابن عمر: انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُبي بن كعب الأنصاري يؤمان"؛ أي: يقصدان.
"النخل التي فيها ابن صياد، فطفق"؛ أي: شرع.
"رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقي"؛ أي: يستر نفسه.
"بجذوع النخل، وهو يختلُ"؛ أي: يراود ويطلب من حيث لا يشعر.
"أن يسمع من ابن صياد شيئًا قبل أن يراه"؛ يعني: يريد أن يسترقَ السمع منه؛ ليعلم أنه على الحق، أو على الباطل.
"وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة"؛ أي: دثار.
"له فيها زَمْزَمة": بزايين معجمتين؛ أي: صوت لا يفهم منه شيء.
"فرأتْ أم [ابن] صياد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل فقالت: أي صاف! وهو اسمه، هذا محمد، فتناهى ابن صياد"؛ أي: امتنع من زمزمته، وسكت عنها.
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تركته"؛ أي: أمه على حاله، ولم تخبره بمجيئي، لبيَّن باختلاف كلامه ما يهوِّنُ عليكم شأنه، وقيل: أي: أوضح ما في نفسه، وكنت أسمع ما يقول.
"قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثنى على الله بما هو
أهله، ثم ذكر الدجَّال فقال: إني أنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور".
* * *
4249 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيَ قال: لقِيَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ في بَعْضِ طُرُقِ المَدينةِ، فقالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ " فقال هو: تَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "آمنتُ بالله وملائِكتِهِ وكتبهِ ورُسُلِهِ، ما تَرَى؟ " قال: أَرَى عَرْشًا على الماءَ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"تَرَى عَرْشَ إِبْليسَ على البَحْرِ، وما تَرَى؟ " قالَ: أَرَى صادِقَيْنِ وكاذِبًا، أو كاذِبَيْنِ وصَادِقًا، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لُبسَ عليهِ فَدَعوهُ".
"عن أبي سعيد الخدري أنه قال: لقيه"؛ أي: ابن صياد.
"رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر في بعض طرق المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فقال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ما ترى؟ " قال ابن صياد: "أرى عرشًا على الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى عرشَ إبليس على البحر، وما ترى؟ قال: أرى صادقين وكاذبًا، أو كاذبين وصادقًا"؛ يعني: يأتيني شخصان يخبران بما هو صدق، وآخرُ بما هو كذب، أو بالعكس، والشك منه يدل على افترائه؛ لأن المؤيَّد لا يكون كذلك.
"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لُبس عليه"؛ أي: خُلِط الأمر عليه في كهانته.
"فدعوه"؛ أي: اتركوه، وأعرضوا عنه؛ فإنه لا يحدث بشيء يقول عليه.
* * *
4250 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ ابن صَيَّادٍ سَأَلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عنْ تُربةِ الجنَّةِ، فقال:"دَرْمَكَة بَيْضاءُ مِسْكٌ خالِصٌ".
"عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن ابن صياد سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن تربة الجنة، فقال: دَرْمَكةٌ" بفتح الدال وسكون الراء المهملتين: ترقيق (1) الحُوارى، ويروى:(درمقة)، وهو بمعناه، فقوله:"بيضاء"؛ للتأكيد، شبَّه تربة الجنة بها لبياضها.
"مسك خالص": شبَّهها بالمسك؛ لطيبها.
* * *
4251 -
عن نافعٍ قال: لقيَ ابن عُمرَ ابن صَيَّادٍ في بَعْضِ طُرُقِ المدينةِ، فقالَ لهُ قولًا أَغْضَبَهُ، فانتَفَخَ حتَّى مَلأَ السِّكَّةَ، فدخلَ ابن عُمرَ على حَفْصَةَ وقدْ بَلَغَها، فقالتْ لهُ: رَحِمَكَ الله، ما أَرَدْتَ منْ ابن صَيَّادٍ؟ أما علِمْتَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّما يَخْرُجُ منْ غَضْبةٍ يغضَبُها".
"قال نافع: لقي ابن عمر ابن صياد في بعض طرق المدينة، فقال له"؛ أي: ابن عمر لابن صياد "قولًا أغضبه" ذلك القول.
"فانتفخ"؛ أي: صار بدنه منتفخًا من الغضب.
"حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر على حفصة، وقد بلَّغها"؛ أي: ابن عمر تلك القصة التي جرى بينه وبين ابن صياد إلى حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
"فقالت له: رحمك الله! ما أردت": (ما) للاستفهام، محله نصب؛ لكونه مفعول (أردت) مقدمًا عليه؛ أي: أي شيء أردت "من ابن صياد؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما يخرج"؛ أي: الدجَّال.
(1) في"ت" و"غ": " الرقيق، والتصويب من "القاموس"، (مادة: درمك).
"من غضبة يغضبها؟ "؛ يعني: إنما يخرج حين يغضب، وهذا يدل على أنَّ ابن صياد هو الدجال.
* * *
4252 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: صَحِبْتُ ابن صَيَّادٍ إلى مَكَّةَ، فقالَ لي: ما لقيتُ من النَّاسِ؟ يَزْعُمونَ أنِّي الدَّجَّالُ، ألسْتَ سَمِعْتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: إنَّهُ لا يُولَدُ له؟ وقدْ وُلِدَ لي، أوَ ليسَ قدْ قالَ: هو كافِرٌ؟ وأنا مُسْلِمٌ، أَوَ لَيس قدْ قالَ: لا يَدْخلُ المدينةَ ولا مَكَّةَ؟ وقدْ أَقْبَلْتُ منَ المدينةِ وأنا أُريدُ مَكَّةَ، ثمّ قالَ لي في آخِر قولهِ: أَمَا والله إنِّي لأَعْلَمُ مَوْلدَهُ ومكانهُ وأيْنَ هوَ، وأعرفُ أباهُ وأُمَّهُ، قال: فَلَبَسَنِي، قال: قلتُ لهُ: تبًّا لكَ سائِرَ اليَوْمِ. قال، وقيلَ لَهُ: أيسُرُّكَ أنَّكَ ذاكَ الرَّجُلُ؟ قال: فقالَ: لوْ عُرِضَ عليَّ ما كَرِهْتُ.
"عن أبي سعيد الخدري قال: صحبتُ ابن صياد إلى مكة، فقال لي: ما لقيت": (ما) هذه استفهام بمعنى الإنكار.
"من الناس؟ يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لا يولد له، وقد وُلِد لي؟ أليس قد قال: هو كافر، وأنا مسلم؟ أو ليس قد قال: لا يدخل المدينة ولا مكة، وقد أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة؟ ": ذهب القائل بأنه الدجال إلى أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يولد له، ولا يدخل المدينة ولا مكة": أنه لا يكون كذلك بعد خروجه.
"ثم قال لي في آخر قوله: أما إني لأعلم"؛ أي لا أعرف مولده"؛ أي: زمان ولادة الدجال.
"ومكانه"؛ أي: مكان ولادته.
"وأين هو؟؛ أي: أعلم مكانه الذي الآن فيه.
"وأعرف أباه وأمه، قال"؛ أي: أبو سعيد.
"فلبسني" أي: ابن صياد، من (التلبيس) بمعنى: التخليط، حيث لم يعين مولده وموضعه، بل تركه ملتبسًا، فالتبسَ عليَّ، أو معناه: أوقعني في الشك بقوله: ولد لي وبدخول المدينة ومكة، وكان ظني أنه دجال.
"قال: قلت له: تبًا لك سائر اليوم"؛ أي: خسرانا لك جميع اليوم أو باقي اليوم؛ يعني: ما تقدم من اليوم قد خسرت فيه، فكذا في باقيه.
"قال" أبو سعيد: "وقيل له: أيسرك أنك ذلك الرجل؟ "؛ يعني: الدجال.
"قال: فقال لو عُرِض علي"؛ أي: هذا الأمر "ما كرهت"، بل قبلت، (ما) هذه نافية، وهذا دليلٌ واضح على كفره.
* * *
4253 -
وقالَ ابن عُمَرَ: لقِيتُهُ وقد نَفَرَتْ عَيْنُه، فَقُلْتُ: متَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ ما أَرَى؟ قال: لا أَدْرِي، قلتُ: لا تَدرِي وهيَ في رَأْسِكَ؟ قال: إنْ شاءَ الله خلَقَها في عَصاكَ، قال: فنخَر كأشَدِّ نَخِيرِ حِمارٍ سَمِعْتُ.
"وقال ابن عمر رضي الله عنه: لقيته وقد نفرت عينه "؛ أي: ورمت، وأصله من النفار؛ لأن الجلد ينفر عن اللحم؛ للداء الحادث بينهما، والجملة وقعت حالًا من الضمير المنصوب في (لقيته).
"فقلت: متى فعلت عينك ما أري" من الورم؟ أسند الفعل إلى العين مجازًا، والمراد غيره، كأنه لبس على ابن صياد؛ ليختبره أيوافقه، أو يخالفه.
"قال: لا أدري، قلت: لا تدري وهي"؛ أي: العين.
"في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك": يريد أن تكون العين في رأسي لا يقتضي أن أكون منها على خبر؛ فإن الله قادر على أن يخلق مثلها في عصاك، والعصا لا تكون منها على خبر، وكأنه ادعى بذلك الاستغراق وعدم
الإحساس في أفكاره، بحيث تشغله تلك الأفكار عن الإحساس.
"قال: فنخر": بفتح النون والخاء المعجمة؛ أي: صَوَّت صوتًا منكرًا.
"كأشد نخير حمار سمعتُ": والنخير: صوت بالأنف.
* * *
4254 -
عن مُحَمَّدِ بن المُنْكَدِر رضي الله عنه قال: رَأَيتُ جابرَ بن عبدِ الله يَحْلِفُ بالله أنَّ ابن الصَيَّادَ الدَّجَّالُ، قلتُ: تَحلِفُ بالله؟ قال: إنِّي سَمِعْتُ عُمرَ يَحلِفُ على ذلكَ عندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمْ يُنكِرْهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.
"عن محمد بن المنكدر أنه قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدَّجالُ، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك"؛ أي: على أن ابن صياد الدجال "عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ": لعل عمر أراد بذلك: أن ابن صياد من الدجَّالين، يخرجون فيدعون النبوة، أو يضلون الناس ويلبسون الأمر عليهم، وإنما لم ينكر عليه السلام عند حلفه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عرف أنه مِن جملِة مَنْ حَذَّر (1) الناسَ منه.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4255 -
عن نافِع قالَ: كانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: "والله ما أَشُكُّ أنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ ابن صَيَّادٍ".
"من الحسان":
" عن نافع رضي الله عنه أنه قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشكُّ أن المسيحَ
(1) في"غ": "حذره".
الدجالَ ابن صياد".
* * *
4256 -
وعن جابر رضي الله عنه قالَ: "فُقِدَ ابن صيّادٍ يومَ الحَرَّةِ".
"وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: فُقِد ابن صياد يوم الحرَّةِ": وهو يوم مشهور بين العرب، وقعت فيه حرب بين عسكر يزيد وأهل المدينة؛ أي: فُقِدَ من ذلك الزمان.
* * *
4257 -
عن أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَمْكُثُ أبَوا الدَّجَّالِ ثلاثينَ عامًا لا يُولَدُ لهما ولَدٌ، ثمَّ يُولَدُ لهُما غُلامٌ أَعْوَرُ أَضرَس، وأقلُّهُ مَنْفَعَةً، تنامُ عَيْناهُ ولا يَنامُ قلبُهُ"، ثمَّ نعتَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَبَويهِ فقالَ:"أبوه طُوَالٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ، كأنَّ أنفَهُ مِنْقارٌ، وأُمُّهُ امرأةٌ فِرضَاخِيّةٌ طَويلةُ اليدَيْنِ"، فقالَ أبو بَكْرَةَ رضي الله عنه: فَسَمِعْنا بمَولودٍ في اليهودِ بالمدينةِ، فذهبتُ أنا والزُّبَيْرُ بن العَوّامِ حتَّى دخَلْنَا على أبَويهِ، فإذا نَعْتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهما، فقُلْنا: هلْ لكُما وَلَدٌ؟ فقالا: مَكَثْنا ثلاثينَ عامًا لا يُولَدُ لنا وَلَدٌ، ثمَّ وُلِدَ لنا غُلامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ وأقلُّهُ مَنْفَعَةً، تنامُ عَيْناهُ ولا ينَامُ قلبُهُ، قال: فَخَرَجْنا منْ عِنْدِهِما فإذا هو مُنْجَدِلٌ في الشَّمْسِ في قَطيفَةٍ ولهُ هَمْهَمَةٌ، فكَشَفَ عنْ رأسِهِ فقالَ: ما قُلتُما؟ قُلْنا: وهلْ سَمِعْتَ ما قُلناه؛ قال: "نعمْ، تنامُ عَيْنايَ ولا ينَامُ قلبي".
"عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: يمكث أبوا الدجالِ ثلاثين عامًا لا يُولَد لهما ولا، ثم يولد لهما غلامٌ أعورُ أضرسُ"؛ أي: عظيم الضرس، وهو السن، وقيل: هو الذي يولد مع الضرس.
"وأقله"؛ أي: أقل الغلام؛ أي: لا غلام أقل منه.
"منفعةً، تنام عيناه، ولا ينامُ قلبها: وعدم نوم القلب قد يكون لاستيلاء الأفكار الفاسدة على المخيلة؛ لما يلقيه إليه الشيطان، وهذا من أوصاف الكهنة، وقد يكون من الأفكار الصالحة، كما في الأنبياء والأولياء.
"ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: وصف.
"أبويه، فقال: أبوه طُوال": بالضم والتخفيف؛ أي: طويل، وقد يشدد مبالغة.
"ضرب اللحم"؛ أي: خفيف اللحم مستدق.
"كأن أنفه منقار"؛ أي: في أنفه طول بحيث يشبه منقار الطائر.
"وأمه امرأة فِرضاخية": بكسر الفاء؛ أي: ضخمة، عظيمة الثديين، والياء للمبالغة.
"طويلة اليدين، فقال أبو بكرة: فسمعنا بمولود في اليهود بالمدينة، فذهبت أنا والزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه، فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما"؛ أي: وصفه موجود في أبويه.
"فقلنا: هل لكما ولد؟ فقالا: مكثنا ثلاثين عامًا لا يولد لنا ولد، ثم ولد لنا غلام أعور أضرس، وأقله منفعة، تنام عيناه، ولا ينام قلبه، قال: فخرجنا من عندهما فإذا هو منجدل"؛ أي: غلام ملقى على وجه الأرض.
"في الشمس، وله همهمةٌ" أي: كلام خفي ضعيف لا يُفهَم.
"فكشف"؛ أي: الغلام القطيفة "عن رأسه، فقال: ما قلتما؟ قلنا: وهل سمعت ما قلنا؟ قال: نعم، تنام عيناي، ولا ينام قلبي".
* * *
4258 -
وعن جابرٍ رضي الله عنه: أنَّ امرأةً منَ اليهودِ بالمَدينةِ ولَدَتْ غُلامًا مَمْسُوحَةً عَيْنُهُ طالعَةٌ نابُهُ، فأشْفَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يكونَ الدَّجَّالَ، فَوَجَدَهُ تَحْتَ قَطيفَةٍ يُهَمْهِمُ، فآذنتهُ أُمّهُ فقالت: يا عبدَ الله! هذا أبو القاسم، فَخَرَجَ منَ القَطِيْفَةِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما لها؟ قاتَلَها الله، لو تَرَكتْهُ لبَيَّنَ"، فَذَكَرَ مِثلَ مَعْنَى حديثِ ابن عُمَرَ، فقالَ عُمرُ بن الخَطَّابِ رضي الله عنه: ائذَنْ لي يا رسولَ الله! فأقتُلَهُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنْ يكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صاحبَهُ، وإنَّما صاحِبُهُ عيسَى ابن مَرْيَمَ عليه السلام، وإلا يكُنْ هوَ فَلَيسَ لكَ أنْ تقتُلَ رَجُلًا منْ أَهْلِ العَهْدِ"، فلمْ يزَلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُشْفِقًا أنهُ الدَّجَّالُ.
"وعن جابر رضي الله عنه: أن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا ممسوحةً عينه، طالعةً نابه"؛ أي: سنه.
"فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: خاف.
"أن يكون الدجال، فوجده تحت قطيفة يُهمهِمُ، فآذنته"؛ أي: أعلمته "أمه، فقالت: يا عبد الله! هذا أبو القاسم، فخرج من القطيفة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لها": (ما) للاستفهام مبتدأ، و (لها) خبره؛ أي: أيُّ شيء لها؟ "قاتلها الله"؛ أي: دعاء عليها.
"لو تركته لبيَّن. فذكر مثل معنى حديث ابن عمر"، ومعنى حديثه هو: أنه قال قولًا أغضبه.
"فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله فأقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: إن يكن هو"؛ أي: ابن صياد الدجال.
"فلست صاحبه"؛ أي: قاتله.
"إنما صاحبه عيسى ابن مريم": و (إنما) تفيد الحصر، معناه: لا يقدر أحدٌ على قتله إلا عيسى ابن مريم.
"وإن لم يكن هو، فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد، فلم يزلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفقًا"؟ أي: خائفًا "أنه الدجال".
والوجه في الأحاديث الواردة في ابن صياد على ما فيها من الاختلاف والتضاد: أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم حسبه الدجال قبل التحقيق بخبر المسيح الدجال، فلما أُخبر - عليه الصلاة السلام - بما أخبر به من شأنه وقصته في حديث تميم الداري، ووافق ذلك ما عنده، تبين له صلى الله عليه وسلم أن ابن صياد ليس بالذي توهمه، ويؤيده ما ذكره أبو سعيد حين صحبه إلى مكة.
وأما توافق النعوت في أبوي الدجال وأبوي ابن صياد؛ فليس مما يقطع به قولًا؛ فإن اتفاق الوصفين لا يلزم منه اتحاد الموصوفين.
وكذا حلف عمر وابنه رضي الله عنهما مع عدم إنكاره عليه الصلاة والسلام عليه، وكذا إشفاقه عليه السلام من ابن صياد أن يكون دجالًا، كلُّ ذلك قبل تبيُّنِ الحال، وقد كان ابن صياد دجَّال الفِعالِ موافقًا له في بعض علاماته، فجرَّأ ذلك على الحلف، وأورث في النبي صلى الله عليه وسلم إشفاقًا منه.