المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ   وَقَدْ رأَينا أَن نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بفصلٍ جَمَعَ جُمْلَةً - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ   وَقَدْ رأَينا أَن نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بفصلٍ جَمَعَ جُمْلَةً

‌فَصْلٌ

وَقَدْ رأَينا أَن نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بفصلٍ جَمَعَ جُمْلَةً مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وغيرها مما (1) فِي مَعْنَاهَا، وَفِيهِ مِنْ نُكَتِ هَذَا الْكِتَابِ جُمْلَةٌ أُخرى، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِليه بِحَسْبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وإِن كَانَ فِيهِ طُولٌ، وَلَكِنَّهُ يَخْدِمُ مَا نَحْنُ فِيهِ إِن شَاءَ اللَّهُ تعالى.

وَذَلِكَ أَنه وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ قَوْمٍ يتسمَّون بالفقراءِ، يَزْعُمُونَ أَنهم سَلَكُوا طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، ويأَخذون فِي الذِّكْرِ الجَهْري (2) عَلَى صوتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ فِي الغناءِ وَالرَّقْصِ إِلى آخَرَ اللَّيْلِ، وَيَحْضُرُ مَعَهُمْ بَعْضُ المتسمِّين بِالْفُقَهَاءِ، يَتَرَسَّمُونَ بِرَسْمِ الشُّيُوخِ الْهُدَاةِ إِلى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ: هَلْ هَذَا الْعَمَلُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ أَم لَا؟.

فَوَقَعَ الْجَوَابُ بأَن ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، الْمُخَالَفَةِ طَرِيقَةَ (3) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَطَرِيقَةَ أَصحابه والتابعين لهم بإِحسان، فنفع الله بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ.

ثُمَّ إِن الجواب وصل (4) إِلى بعض البلدان، فقامت القيامة عَلَى الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْبِدَعِ، وَخَافُوا انْدِرَاسَ طَرِيقَتِهِمْ، وَانْقِطَاعَ أَكلهم بِهَا، فأَرادوا الِانْتِصَارَ لأَنفسهم، بَعْدَ أَن راموا ذلك بالانتساب إِلى شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ فَضِيلَتُهُمْ، وَاشْتُهِرَتْ فِي الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ طَرِيقَتُهُمْ، فلم يستقم (5) لَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ عليه القوم، فإِنهم

(1) قوله: "مما" ليس في (خ).

(2)

في (خ): "الجهوري".

(3)

في (غ) و (ر): "لطريقة".

(4)

في (غ) و (ر): "رحل".

(5)

في (م): "يستقر".

ص: 99

كانوا قد بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصول: الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَخلاق والأَفعال، وأَكل الْحَلَالِ، وإِخلاص النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في جميع (1) هذه الأُصول، فلم يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ تَحْتَ تَرْجَمَتِهِمْ.

وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سأَل بَعْضَ شُيُوخِ الوقت في مسأَلة تشبه هذه، ولكن (2) حَسَّن ظَاهِرَهَا بِحَيْثُ يَكَادُ بَاطِنُهَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ المتأَمِّل، فأَجاب عَفَا اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تعرُّض إِلى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ أَرسل بِهِ (3) إِلى بَلْدَةٍ أُخرى، فأُتي بِهِ، فَرَحَلَ إِلى غَيْرِ بَلَدِهِ وَشَهَرَ فِي شِيعَتِهِ أَن بِيَدِهِ حُجَّةً لِطَرِيقَتِهِمْ تَقْهَرُ كُلَّ حُجَّةٍ، وأَنه طَالِبٌ لِلْمُنَاظَرَةِ فِيهَا، فدُعيَ لِذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ وَلَا قَعَدَ، غير أَنه قال: هَذِهِ (4) حُجَّتِي، وأَلقى بِالْبِطَاقَةِ الَّتِي بِخَطِّ الْمُجِيبِ، وكان هو وَأَشْيَاعُهُ (5) يَطِيرُونَ بِهَا فَرَحًا، فَوَصَلَتِ المسأَلة إِلى غَرْنَاطَةَ، وطُلب مِنَ الْجَمِيعِ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا (6) لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا إلَاّ (7) أَن يُظْهِرَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا (8) الَّذِي يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ لأَنه مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ الْقَوِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.

وَنَصُّ خُلَاصَةِ السُّؤَالِ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فُلَانٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي رِبَاطٍ عَلَى ضَفَّةِ البحر في الليالي الفاضلة، يقرؤُون جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ مَا أَمكن فِي الْوَقْتِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بأَنواع التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ بَيْنِهِمْ قوَّالٌ يَذْكُرُ شَيْئًا فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُلْقِي مِنَ السَّمَاعِ مَا تَتُوق النَّفْسُ إِليه (9) وَتَشْتَاقُ سَمَاعَهُ؛ مِنْ

(1) قوله: "جميع" ليس في (خ) و (م).

(2)

في (خ) و (م): "لكن".

(3)

في (ر) و (غ): "فيه".

(4)

في (خ): "إن هذه" ..

(5)

في (خ): "هو ومجيبه وأشياعه"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كذا! ولعلها: "ومحبه"، أو:"ومحبوه".

(6)

في (خ) و (غ): "أحد".

(7)

في (خ): "الأول" بدل "إلا". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لفظ "الأول" لا يظهر له معنى هنا، وكذا في السطر (19) من الصحيفة (263)، والظاهر أن المقام مقام الاستثناء، وأن العبارة ربما دخل فيها التحريف والسقط. اهـ. وانظر التعليق رقم (5)(ص98).

(8)

قوله: "فيها" ليس في (غ) و (ر).

(9)

في (غ) و (م): "ما تشوق النفوس إليه".

ص: 100

صِفَاتِ (1) الصَّالِحِينَ، وَذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَيُشَوِّقُهُمْ بِذِكْرِ الْمَنَازِلِ الْحِجَازِيَّةِ، وَالْمَعَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَتَوَاجَدُونَ اشْتِيَاقًا لِذَلِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ مَا حَضَرَ مِنَ الطَّعَامِ، ويحمدون الله تعالى، وَيُرَدِّدُونَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَبْتَهِلُونَ بالأَدعية (2) إِلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَيَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ ولإِمامهم وَيَفْتَرِقُونَ.

فَهَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ؟ أَم يَمْنَعُونَ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ؟ وَمَنْ دَعَاهُمْ مِنَ المحبِّين إِلى مَنْزِلِهِ بِقَصْدِ التبرُّك، هَلْ (3) يُجِيبُونَ دَعْوَتَهُ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْوَجْهِ (4) الْمَذْكُورِ أَم لَا؟.

فأَجاب بِمَا مَحْصُولُهُ: مَجَالِسُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ هِيَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَتَى بِالشَّوَاهِدِ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ. وأَما الإِنشادات الشِّعْرِيَّةُ؛ فإِنما الشِّعْرُ كلامٌ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي شعراءِ الإِسلام:{إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (5)؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ (6) بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} (7) الآيات، بكوا عند سماعها، فنزل الاستثناءُ (8).

(1) في (ر) و (غ): "صفة".

(2)

في (ر) و (غ): "الأدعية".

(3)

في (م): "فهل".

(4)

في (غ) و (ر): "على الوصف".

(5)

سورة الشعراء: آية (227).

(6)

قوله: "عبد الله" ليس في (غ) و (ر).

(7)

سورة الشعراء: آية (224).

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26042)، ومن طريقه وطريق آخر أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير"(16068 و16077)، وأخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(19/ 418 و419)، ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري؛ قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} ؛ جاء حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وكعب بن مالك

، الحديث.

وأخرجه ابن أبي حاتم (16067 و16074)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 488)، كلاهما من طريق الوليد بن كثير، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي الحسن مولى بني نوفل؛ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رواحة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *}

، الحديث.

وسكت عنه الحاكم والذهبي.

والحديث بهذا الإسناد ضعيف لإرساله.

وفي سنده أبو الحسن سالم البرّاد الذي قال عنه ابن إسحاق في روايته: "مولى تميم=

ص: 101

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=الداري"، وقال الوليد بن كثير: "مولى بني نوفل"، ولم يذكر أن اسمه سالم.

فبناء على رواية ابن إسحاق، فهو مجهول الحال؛ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(9/ 356 رقم 1610)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره البخاري في "الكنى" من "تاريخه"(9/ 22 رقم 170)، ووقع عنده: "أبو الحسن البزاز مولى تميم الداري، نسبه محمد بن إسحاق، يعد في أهل المدينة

"، ثم ذكر رواية له عن علي رضي الله عنه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.

وبناء على رواية الوليد بن كثير، فيكون هو المترجم عند البخاري في الموضع السابق برقم (168)، والذي قال عنه البخاري:"أبو الحسن مولى الحارث بن نوفل الهاشمي، سمع ابن عباس، روى عنه عمرو بن معتب".

ونقل ابن أبي حاتم في الموضع السابق رقم (1608) عن أبيه أنه وثقه، وقال:"سئل أبو زرعة عن أبي الحسن مولى بني نوفل، فقال: مدني ثقة".

وعلى أي الحالين فهو تابعي وليس بصحابي، فالحديث مرسل وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة"(11/ 32 ـ 33) في القسم الأول من يمكن أن يشتبه بهذا، فقال:"أبو البرّاد غلام تميم الداري"، وذكر أن المستغفري ذكره في الصحابة، وذكر له حديثاً ذكر أن سنده ضعيف، وفيه أن تميماً الداري رضي الله عنه أمر غلامه هذا أن يسرج المسجد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يزهر، فقال:"من فعل هذا؟ " قالوا: تميم يا رسول الله! قال: "نوّرت الإسلام نوَّر الله عليك في الدنيا والآخرة، أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها"، فقال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: لي ابنة يا رسول الله! تسمى: أم المغيرة بنت نوفل، فافعل فيها ما أردت، فأنكحه إياها على المكان؛ أي: في مكانه.

وهذا لو صح وثبت أنه هو فيمكن أن يجمع بين قولي محمد بن إسحاق والوليد بن كثير، فيكون أصل ولائه لتميم الداري، ثم لبني نوفل عن طريق إرث أم المغيرة لزوجها تميم أوهبته لها.

وللحديث ثلاث طرق أخرى:

1 ـ أخرجها ابن أبي حاتم في "التفسير"(16070) من طريق بشر بن عمارة، عن أبي روق عطية بن الحارث، عن الضحاك، عن ابن عباس، ذكر أن الله استثنى، فقال:{إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ؛ يعني: حسان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك؛ كانوا يذبّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهجاء المشركين.

وسنده ضعيف لضعف بشر بن عمارة كما في ترجمته في "التقريب"(703).

والضحاك بن مزاحم الهلالي لم يسمع من ابن عباس؛ باعترافه على نفسه بذلك. انظر: "تهذيب الكمال"(13/ 293 ـ 294).

2 ـ أخرجها ابن سعد في "الطبقات"(3/ 528)، وابن أبي حاتم برقم (16069)،=

ص: 102

وَقَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (1)، وَرَقَّت نفسُهُ الْكَرِيمَةُ، وذَرَفَتْ عَيْنَاهُ لأَبيات أُخت النَّضْر؛ لِمَا طُبِعَ عليه من الرأفة والرحمة (2).

=كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة؛ قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} إلى قوله: {يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} ؛ قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! قد علم الله أني منهم، فأنزل الله:{إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى قوله: {يَنْقَلِبُونَ} .

وعروة تابعي، فالسند ضعيف لإرساله.

3 ـ أخرجها ابن جرير الطبري (19/ 418) من طريق شيخه محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار؛ قال: نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} إلى آخر السورة في حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك.

وسنده ضعيف جداً؛ فبالإضافة لإرساله، وجهالة الراوي عن عطاء بن يسار، فإنه من رواية محمد بن حميد الرازي وقد اتهمه بالكذب عدد من الأئمة. انظر: ترجمته بطولها في "تهذيب الكمال"(25/ 97 ـ 108).

(1)

روى البخاري (453، 3212)، ومسلم (2485)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن عمر مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس". قال: نعم.

وأخرج الترمذي (2847)، والنسائي (2873، 2893)، وابن حبان في "صحيحه"(4521، 5788/ الإحسان)، وابن خزيمة (2680)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله

اليوم نضربكم على تنزيله

ضرباً يُزيل الْهَاَم عن مَقِيْلِهِ

ويُذهل الخليل عن خليله

فقال له عمر: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟!

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خلِّ عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من نَضْح النَّبل".

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث أيضاً عن معمر

"، وذكر كلاماً اعترض عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 502)، ومال إلى تصحيح الحديث، وذكر أن له طريقين إحداهما على شرط الشيخين، والأخرى على شرط مسلم، فانظره إن شئت.

(2)

ذكرها ابن إسحاق في "السيرة" كما في "السيرة" لابن هشام (3/ 42 ـ 43) بلا إسناد، وهي في قصة قتل النبي صلى الله عليه وسلم للنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، فقالت أخته قُتيلة بنت الحارث أبياتاً مطلعها:

يا راكباً إن الأُثَيْل مظنّة

من صبح خامسةٍ وأنت موفّق=

ص: 103

وأَما (1) التَّوَاجُدُ عِنْدَ السَّمَاعِ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ أثر (2) رِقَّة النَّفْسِ، وَاضْطِرَابُ الْقَلْبِ، فيتأَثّر الظَّاهِرُ بتأَثُّر الْبَاطِنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3)؛ أَيِ: اضْطَرَبَتْ رَغَبًا أَو رَهَبًا (4). وَعَنِ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ يَحْصُلُ اضْطِرَابُ الْجِسْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} (5){وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (6). وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (7). فإِنّما التَّوَاجُدُ رِقَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهَزَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَنَهْضَةٌ رُوحَانِيَّةٌ. وَهَذَا هُوَ التَّوَاجُدُ عَنْ وَجْدٍ، وَلَا يسع (8) فِيهِ نَكِيرٌ مِنَ الشَّرْعِ. وَذَكَرَ السُّلَمي (9) أَنَّهُ كان يستدل بهذه الآية في (10) حركة الوَاجِد (11) فِي وَقْتِ السَّمَاعِ؛ وَهِيَ (12):{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} (13){فَقَالُوا رَبَّنَا} (14) الآية. وكان يقول: إِن القلوب

=إلى أن قالت:

أمحمدٌ! يا خير ضَنْءِ كريمةٍ

في قومها والفحل فحلٌ مُعْرق

ما كان ضرّك لو مَنَنْتَ وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

فقال صلى الله عليه وسلم: "لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه".

ولم يذكر لها ابن إسحاق سنداً، فهي لا تصح، وليس في سياق ابن إسحاق بكاء النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكرها أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب"(13/ 137 ـ 139)، وفيها:"فلما بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذلك بكى حتى أخضلت الدموع لحيته، وقال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه".

ولكن وقع عنده أنها قتيلة بنت النضر، لا أخته، فالله أعلم. ولم يذكر ابن عبد البر للقصة إسناداً، ولكن قال:"ذكر هذا الخبر عبد الله بن إدريس في حديثه، وذكره الزبير"، ثم نقل عن الزبير ـ يعني ابن بكار ـ قوله:"وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها هذه، ويذكر أنها مصنوعة".

(1)

في (م): "وإنما".

(2)

قوله: "أثر" ليس في (خ) و (م).

(3)

سورة الأنفال: آية (2).

(4)

في (غ) و (ر): "ورهباً".

(5)

إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م)، وبعده:"الآية".

(6)

سورة الكهف: آية (18).

(7)

سورة الذاريات: آية (50).

(8)

في (خ): "يسمع".

(9)

في (غ) و (ر) و (م): "ذكره السلمي".

(10)

في (خ): "على".

(11)

في (خ) و (م): "الوجد".

(12)

قوله: "وهي" ليس في (غ) و (م) و (ر).

(13)

إلى هنا انتهى ذكر الآية في (غ) و (ر) و (م).

(14)

سورة الكهف: آية (14).

ص: 104

مَرْبُوطَةٌ بِالْمَلَكُوتِ، حَرَّكَتْهَا (1) أَنوار الأَذكار، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ السَّمَاعِ.

وَوَرَاءَ هَذَا تَوَاجُدٌ لَا عَنْ وَجْد، فَهُوَ مَنَاطُ الذَّمّ؛ لِمُخَالَفَةِ ما ظهر لما بطن، وقد يغرب (2) فِيهِ الأَمر عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى اسْتِنْهَاضِ الْعَزَائِمِ، وَإِعْمَالِ الْحَرَكَةِ فِي يَقَظَةِ الْقَلْبِ النَّائِمِ. يَا أَيُّها النَّاسُ ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا (3)، وَلَكِنْ (4) شَتَّان مَا بَيْنَهُمَا (5).

وأَما مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَصْدُهُ ونيَّته، فَهَذَا مَا ظَهَرَ تَقْيِيدُهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يتولَّى السَّرَائِرَ، وَإِنَّمَا الأَعمال بالنيات. انتهى ما قيَّده.

(1) في (خ): "وحركتها".

(2)

كذا في جميع النسخ. وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "يعزب".

(3)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "لعله أراد حديث: "اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا"، فاقتبسه بالمعنى، وهو في "سنن ابن ماجه" من حديث سعد بن أبي وقاص بسند جيد".

وهذا الحديث الذي ذكره رشيد رضا هو: ما أخرجه ابن ماجه (1337 و4196)، وأبو يعلى (689)، والبيهقي (10/ 231)، ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا أبو رافع، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن بن السائب؛ قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص وقد كُفّ بصره، فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقال: مرحباً بابن أخي! بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنّوا به، فمن لم يتغنّ به فليس منا".

وفي سنده أبو رافع إسماعيل بن رافع بن عويمر الأنصاري المدني، القاصّ، وهو ضعيف الحديث كما في "التقريب"(446).

وتابعه عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة وهو ضعيف أيضاً كما في "التقريب"(3837)، وروايته عند البزار في "مسنده"(4/ 69 رقم 1235)، والدورقي في "مسند سعد"(128 و129).

ومدار الحديث على عبد الرحمن بن السائب بن أبي نهيك المخزومي، ويقال: اسمه عبد الله، ويقال: هو عبيد الله بن أبي نهيك، وهو مقبول كما في "التقريب"(3894).

(4)

في (ر) و (غ): "لكن".

(5)

في (غ): "ما هنا" وفي (م) و (ر): "ما هما".

ص: 105

فكان مما (1) ظهر لي في بيان (2) هَذَا الْجَوَابِ: أَن مَا ذَكَرَهُ (3) فِي مَجَالِسِ الذكر صحيح إِذا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِتُدَارِسِ الْقُرْآنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَتَعَلَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَأْخُذَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الَّتِي جاءَ فِي مِثْلِهَا مِنْ حديث أَبي هريرة رضي الله عنه، عنه عليه السلام (4):"مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّت بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ"(5)، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ الاجتماع على تلاوة كتاب (6) اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الذِّكْرِ، فإِنه اجْتِمَاعٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَفِي رِوَايَةٍ أُخرى (7) أَنه قَالَ: "لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ

"، الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَا الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ. وإِذا اجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى التَّذَكُّرِ لِنِعَمِ اللَّهِ، أَو التَّذَاكُرِ فِي الْعِلْمِ إِن كَانُوا عُلَمَاءَ، أَو كَانَ فِيهِمْ عَالِمٌ فَجَلَسَ إِليه متعلِّمون، أَو اجْتَمَعُوا يُذَكِّر (8) بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ـ وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَصحابه، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ـ، فَهَذِهِ الْمَجَالِسُ كُلُّهَا مَجَالِسُ ذِكْرٍ (9)، وَهِيَ الَّتِي جاءَ فِيهَا مِنَ الأَجر مَا جاءَ.

كَمَا يُحْكى عَنْ ابن (10) أَبِي لَيْلَى أَنه سُئِلَ عَنِ الْقَصَصِ، فَقَالَ: أَدركت أَصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يجلسون (11) ويحدِّث هذا بما سمع، ويحدِّث

(1) في (غ) و (ر): "ما".

(2)

قوله: "بيان" ليس في (خ) و (م).

(3)

في (خ): "أن ذكره"، وقوله:"أن ما ذكره" مكرر في (غ).

(4)

في (خ)"عن النبي صلى الله عليه وسلم".

(5)

أخرجه مُسْلِمٌ (2699) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

(6)

في (خ): "كلام" بدل "كتاب".

(7)

أخرجه مسلم (2700) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.

(8)

في (ر) و (غ): "فذكر".

(9)

في (ر): "ذكر الله".

(10)

قوله: "ابن" سقط من (غ) و (ر).

(11)

في (ر) و (غ): "يجالسون".

ص: 106

هذا (1) بِمَا سَمِعَ، فأَما أَن يُجلسوا خَطِيبًا فَلَا (2).

وَكَالَّذِي (3) نَرَاهُ (4) مَعْمُولًا بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؛ مِنَ اجْتِمَاعِ الطَّلَبَةِ عَلَى مُعَلِّمٍ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، أَوْ عِلْماً من العلوم الشرعية، أَو يجتمع (5) إِليه الْعَامَّةُ، فَيُعَلِّمُهُمْ أَمر دِينِهِمْ، ويذكِّرهم بِاللَّهِ، ويبيِّن لَهُمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا، ويبيِّن لَهُمُ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ لِيَحَذَرُوا مِنْهَا، ويجتنبوا (6) مَوَاطِنَهَا وَالْعَمَلَ بِهَا.

فَهَذِهِ مَجَالِسُ الذِّكْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الَّتِي حَرَمَها (7) اللَّهُ أَهلَ الْبِدَعِ مِنْ هؤلاءِ الفقراءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنهم سَلَكُوا طَرِيقَ (8) التصوُّف، فقلَّما (9) تَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ قراءَة الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى اللَّحْنِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ يتعبَّد، وَلَا كَيْفَ يَسْتَنْجِي أَو يتوضأَ أَو يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَيْفَ يَعْلَمُونَ (10) ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ حُرِمُوا مَجَالِسَ الذِّكْرِ الَّتِي تَغْشَاهَا الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلُ فِيهَا السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهَا الْمَلَائِكَةُ؟ فَبِانْطِمَاسِ هَذَا النُّورِ عَنْهُمْ ضَلُّوا، فَاقْتَدَوْا بِجُهَّالٍ أَمثالهم، وأَخذوا يقرؤُون الأَحاديث النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فَيُنْزِلُونَهَا عَلَى آرَائِهِمْ، لَا عَلَى مَا قَالَ أَهل الْعِلْمِ فِيهَا. فَخَرَجُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلى أَنْ يَجْتَمِعُوا، وَيَقْرَأَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ يَكُونُ حَسَنَ الصَّوْتِ، طيِّب النَّغْمَةِ، جيِّد التَّلْحِينِ، تُشْبِهُ قِرَاءَتُهُ الغناءَ الْمَذْمُومَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَذْكُرُ (11) اللَّهَ! فيرفعون أصواتهم ويُمَشُّون (12)

(1) في (خ) و (م): "وهذا" بدل "ويحدث هذا".

(2)

أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(40) من طريق عيسى بن يونس، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة؛ قال: سألت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القصص

، فذكره.

وسنده ضعيف لضعف محمد بن أبي ليلى الراوي عن الحكم، فقد قال عنه ابن حجر في "التقريب" (6121):"صدوق سيء الحفظ جداً".

(3)

في (خ): "وكان كالذي".

(4)

في (غ) و (ر): "تراه".

(5)

في (خ): "تجتمع".

(6)

في (خ): "ويتجنبوا".

(7)

في (ر) و (غ): "حرم".

(8)

قوله: "طريق" من (خ) فقط.

(9)

في (خ): "وقلما".

(10)

في (غ) و (ر): "يعملون".

(11)

في (خ) و (غ) و (ر): "تذكروا".

(12)

في (خ): "يمشون".

ص: 107

ذَلِكَ الذِّكْرَ مُدَاوَلَةً، طَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ، وَطَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ أُخرى، عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ يُشْبِهُ الغناءَ، وَيَزْعُمُونَ أَن هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَنْدُوبِ إِليها، وَكَذَبُوا! فإِنه لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَولى بإِدراكه وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وإِلا فأَين فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السنة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهراً عَالِيًا؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً (1) إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2). وَالْمُعْتَدُونَ فِي التَّفْسِيرِ: هُمُ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بالدعاءِ.

وَعَنْ أَبي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس (3)! أَربعوا على أَنفسكم، إنكم ليس تَدْعُونَ أَصمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنكم تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ"(4). وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَكُونُوا رضي الله عنهم يُكَبِّرُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْآيَةِ. وَقَدْ جاءَ عَنِ السَّلَفِ أَيضاً النَّهْيُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا هؤلاءِ الْمُبْتَدِعُونَ (5)، وجاءَ عَنْهُمُ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَاجِدِ المتَّخذة لذلك، وهي الرُّبُطُ التي يشبِّهونها (6) بالصُّفَّة. ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ وضَّاح (7) وَغَيْرُهُمَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ هؤلاءِ أَنهم حسَّنوا الظَّنَّ بأنفسهم (8) فيما هم عليه (9)، وأَساؤوا الظَّنَّ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ أَهل الْعَمَلِ (10) الرَّاجِحِ الصَّرِيحِ (11)، وأَهل الدين

(1) في (خ)"وخيفة".

(2)

سورة الأعراف: آية (55).

(3)

قوله: "أيها الناس" ليس في (خ) و (م).

(4)

أخرجه البخاري (2992 و4202 و6384 و6610 و7386)، ومسلم (2704).

(5)

تقدم تخريجه (في القسم الأول ص251).

(6)

في (خ) و (م): "يسمونها".

(7)

في "البدع والنهي عنها"(ص34 وما بعدها).

(8)

في (خ) و (م): "بأنهم" بدل "بأنفسهم"، وهي صحيحة بمراعاة التعليق التالي.

(9)

في (خ): "فيما هم عليه مصيبون"، وكذا في (م)، لكن طمس على قوله:"مصيبون".

(10)

في (غ) و (ر) و (م): "بالسلف الصالح والعمل".

(11)

قوله: "الراجح الصريح" من (خ) فقط.

ص: 108

الصَّحِيحِ. ثُمَّ لَمَّا طَالَبَهُمْ (1) لِسَانُ الْحَالِ بِالْحُجَّةِ، أخذوا كلام المجيب وهم لا يعلمونه (2)، وقوَّلوه مَا لَا يَرْضَى بِهِ العلماءُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ؛ إِذ سُئِلَ عن ذكر فقراء زماننا، فأَجاب بأَن الغالب في (3) مجالس الذكر المذكورة في الأَحاديث أَنها هِيَ (4) الَّتِي يُتْلَى (5) فِيهَا الْقُرْآنُ، وَالَّتِي يُتَعَلَّم فِيهَا الْعِلْمُ وَالدِّينُ، وَالَّتِي تُعمر بِالْوَعْظِ (6) وَالتَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ كَمَجَالِسِ (7) سُفْيَانَ الثوري، والحسن، وابن سيرين، وأَضرابهم.

وأما (8) مَجَالِسُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ: فَقَدْ صُرِّح بِهَا فِي (9) حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّاحين (10)، لَكِنْ لَمْ يُذكر فِيهِ جهر (11) بِالْكَلِمَاتِ، وَلَا رَفْعَ أَصوات، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. لَكِنَّ الأَصل الْمَشْرُوعَ إِعلان الْفَرَائِضِ وَإِخْفَاءُ النَّوَافِلِ، وأَتى بِالْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *} (12)، وَبِحَدِيثِ:"أَربعوا عَلَى أَنفسكم"(13). قَالَ: وفقراءُ الْوَقْتِ قد تحيَّزوا (14) بآيات (15)،

(1) في (غ) و (ر): "طلبهم".

(2)

في (خ): "لا يعلمون".

(3)

قوله: "الغالب في" ليس في (خ) و (م).

(4)

قوله: "هي" ليس في (غ) و (م) و (ر).

(5)

في (خ): "يختلا". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: في الأصل: "يختلا" هكذا، فصححها ناسخ الورق الذي نطبع عنه، فجعلها:"يختلى"، وكلاهما غلط. اهـ.

(6)

في (خ): "بالعلم" بدل "بالوعظ".

(7)

في (غ) و (ر): "كمجاليس".

(8)

في (خ) و (م): "أما".

(9)

قوله: "في" ليس في (ر) و (غ).

(10)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 251 ـ 252)، والترمذي (3600) كلاهما من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ أو عن أبي سعيد، هو شكّ، يعني الأعمش ـ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض، فُضُلاً عن كتّاب الناس، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تبادروا: هلمّوا إلى بغيتكم

" الحديث بطوله.

وقد أخرجه البخاري (6408) من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ ولم يشك ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق

" الحديث.

وأخرجه مسلم (2689) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة

" الحديث.

(11)

في (خ): "جهراً".

(12)

سورة مريم: الآية (4).

(13)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

(14)

في (خ) و (م): "تخيروا".

(15)

في (غ): "بئات"، وفي (م): يشبه أن تكون: "بنات".

ص: 109

وَتَمَيَّزُوا بأَصوات، هِيَ إِلى الاعتداءِ أَقرب مِنْهَا إِلى الاقتداءِ، وَطَرِيقَتُهُمْ إِلى اتِّخَاذِهَا مَأْكَلَةً وَصِنَاعَةً أَقرب مِنْهَا إِلى اعْتِدَادِهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً. انْتَهَى مَعْنَاهُ عَلَى اخْتِصَارِ أَكثر الشَّوَاهِدِ.

وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَن فَتْوَاهُ الْمُحْتَجَّ بِهَا لَيْسَ مَعْنَاهَا مَا رَامَ هؤلاءِ الْمُبْتَدَعَةُ، فإِنه سُئِلَ فِي هَذِهِ عَنْ فقراءِ الْوَقْتِ، فأَجاب بذمِّهم، وأَن حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَنَاوَلُ عَمَلَهُمْ. وَفِي الأُولى إِنَّمَا سُئِلَ عَنْ قوم يجتمعون لقراءَة كتاب الله (1)، أَو لِذِكْرِ اللَّهِ. وَهَذَا السُّؤَالُ يَصْدُقُ عَلَى قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ مَثَلًا فِي الْمَسْجِدِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، أَو يَتْلُو الْقُرْآنَ لِنَفْسَهُ (2)، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَجَالِسِ المعلِّمين والمتعلِّمين، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عليه، فلا يَسَعُهُ ولا غيره (3) مِنَ العلماءِ إِلا أَن يَذْكُرَ مَحَاسِنَ ذَلِكَ والثواب عليه، فلما سئل عن أَهل الابتداع (4) فِي الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ، بَيَّن مَا يَنْبَغِي أَن يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ (5).

وأَما مَا ذَكَرَهُ فِي الإِنشادات الشِّعْرِيَّةِ، فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الَّذِي لَا رَفَثَ فِيهِ، وَلَا يذكِّر بِمَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ إِذا أُنْشِدَ، عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يُنْشَدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَو عَمِلَ بِهِ (6) الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ يُقتدى بِهِ مِنَ العلماءِ؛ وَذَلِكَ أَنه كَانَ يُنشد ويُسمع لِفَوَائِدَ (7)، مِنْهَا: الْمُنَافَحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وعن الإسلام وأَهله، فكانوا في زمانه يعارضون به الكفار في أشعارهم التي يذمون فيها الإسلام وأهله، ويمدحون بها الكفر وَأَهْلِهِ (8)، وَلِذَلِكَ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَدْ نُصب لَهُ مِنْبَرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ إِذا وَفَدَتِ الْوُفُودُ؛ حَتَّى يقولوا:

(1) في (خ): "لقراءة القرآن".

(2)

في (خ): "نفسه".

(3)

في (خ) و (م): "وغيره".

(4)

في (خ) و (م): "البدع".

(5)

قوله: "العلي العظيم" من (خ) فقط.

(6)

قوله: "به" ليس في (غ) و (ر).

(7)

في (غ) و (ر): "الفوائد".

(8)

من قوله: "فكانوا في زمانه" إلى هنا سقط من (خ) و (م).

ص: 110

خَطِيبُهُ أَخطب مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُ أَشعر مِنْ شاعرنا، ويقول له صلى الله عليه وسلم:"اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ"(1)، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ في سبيل الله، ليس للفقراءِ مِنْ فَضْلِهِ فِي غِنَائِهِمْ بِالشِّعْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِحَاجَاتِهِمْ، وَيَسْتَشْفِعُونَ بِتَقْدِيمِ الأَبيات بَيْنَ يَدَيْ طَلَبَاتِهِمْ؛ كَمَا فعل كعب (2) بن زهير رضي الله عنه (3)، وأُخت

(1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 72)، وأبو داود (4976)، والترمذي (2846)، والطبراني (4/ 37 رقم 3580)، والحاكم (3/ 487) جميعهم من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر

، الحديث.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد".

وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".

وفي سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد ـ واسم أبي الزناد عبد الله بن ذكوان ـ، المدني، وهو صدوق تغيّر حفظه لما قدم بغداد كما في "التقريب"(3886)، ولكنه لم ينفرد به.

فقد أخرجه الطبراني برقم (3581) عن شيخه محمد بن هشام المعروف بابن أبي الدميك، عن إبراهيم بن زياد سَبَلان، عن إسماعيل بن مجالد، عن هلال الوزّان، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع لحسّان منبراً ينشد عليه هجاء المشركين.

وهذا إسناد حسن رجاله ثقات، عدا إسماعيل بن مجالد فهو مختلف فيه كما ترى ذلك في ترجمته في "تهذيب الكمال"(3/ 184 ـ 187)، والراجح أنه صدوق كما هو اختيار الذهبي في "الكاشف"(403)، وأما ابن حجر فقال في "التقريب" (480):"صدوق يخطئ".

وقوله صلى الله عليه وسلم لحسان: "اهجهم وجبريل معك": أخرجه البخاري (3213)، ومسلم (2486).

(2)

قوله: "كعب" ليس في (خ).

(3)

أي: في قصيدته المشهورة: بانت سعاد.

وهذه القصيدة وقصتها برغم شهرتها فليس لها إسناد يصح، ويبدو أن لإبراهيم بن المنذر الحزامي فيها مؤلفاً، فقد قال الحاكم في "المستدرك" (3/ 583):"هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي".

وقد جمع طرقها وتكلم عليها الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله في رسالة له فيها مفردة، وكذا الشيخ الدكتور سعود الفنيسان.

ومن أشهر طرقها: ما أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2706)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 579)، وعنه البيهقي في "سننه"(10/ 243)، كلاهما=

ص: 111

النضر بن الحارث (1)، مثل مَا يَفْعَلُ (2) الشعراءُ مَعَ الكبراءِ، هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الشِّعْرِ ذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ. وَنَظِيرُهُ فِي سَائِرِ الأَزمنة تَقْدِيمُ الشُّعَرَاءِ (3) للخلفاءِ وَالْمُلُوكِ وَمَنْ (4) أَشبههم قِطَعاً من أَشعارهم بين يدي حاجاتهم؛ لا كما (5) يفعله فقراء (6) الوقت المتجرِّدون (7) للسِّعَايَةِ عَلَى النَّاسِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ. وفي الحديث:"لا تحلّ (8) الصَّدَقَةُ لِغَنيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّة سوِيّ"(9)، فَإِنَّهُمْ يُنْشِدُونَ الأَشعار الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ

=من طريق إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير، عن أبيه، عن جده.

وصحح الحاكم هذا الطريق، وفيه الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير، ولم أجد له ترجمة، ولا لأبيه وجده.

وله طرق أخرى معضلة ومرسلة تجدها عند الحاكم والبيهقي في "السنن" و"دلائل النبوة"(5/ 207 ـ 211)، وعند ابن حجر في "الإصابة"(8/ 289 ـ 292).

(1)

تقدم تخريجه (ص103 ـ 104).

(2)

في (غ) و (ر): "مثل يفعل".

(3)

في (خ) و (م): "الشعر".

(4)

في (ر) و (غ): "وما" بدل "ومن".

(5)

في (خ) و (م): "كما".

(6)

في (خ): "أهل" بدل "فقراء".

(7)

في (خ) و (م): "المجردون".

(8)

في (خ): "لا تصح".

(9)

هو حديث صحيح، ورد عن عدّة من الصحابة، منهم: عبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، ومن حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن رجلين من الصحابة.

أما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه الطيالسي (2271)، وعبد الرزاق (7155)، وابن أبي شيبة (10663)، والدارمي (1/ 386)، وأبو داود (1631)، والترمذي (652)، وابن الجارود (363)، جميعهم من طريق سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سويّ".

قال الترمذي: "حديث حسن".

وفي سنده ريحان بن يزيد العامري وهو مقبول كما في "التقريب"(1987).

وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن أبي شيبة (10664)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 377 و389)، وابن ماجه (1839)، والنسائي (2597)، وابن الجارود (364)، وابن حبان في "صحيحه"(3290/ الإحسان)، جميعهم من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصِيْن عثمان بن عاصم، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به مثله.

وسالم بن أبي الجعد كثير الإرسال عن الصحابة كما في "التقريب"(2183)، ولم يصرح بالسماع هنا، ولم أجد من نصّ على أنه سمع من أبي هريرة رضي الله عنه،=

ص: 112

رَسُولِهِ؛ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، ويَتَمَندَلُونَ (1) بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الأَسواق والمواضع القذرة، ويجعلون ذلك آلة لأَخذ (2) مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، لَكِنْ بأَصواتٍ مُطْرِبَةٍ يُخَافُ بسببها الفتنة (3) عَلَى النساءِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ.

وَمِنْهَا: أَنهم رُبَّمَا أَنشدوا الشِّعْرَ فِي الأَسفار الجهادية تنشيطاً لِكَلَالِ

=وقال الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 399): "قال صاحب "التنقيح": رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة".

وأبو بكر بن عياش ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح كما في "التقريب"(8042).

ولكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه الدارقطني (2/ 118) من طريق إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، به. وأخرجه أبو يعلى (6199)، وابن خزيمة (2387)، والحاكم (1/ 407)، والبيهقي (7/ 13 ـ 14)، جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة يبلغ به، فذكره مثله.

ويبدو أن سفيان كان يشك في رفعه، ففي رواية البيهقي:"فقيل لسفيان: هو عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لعلّه".

وهذا سند صحيح إن سلم من علّة شك سفيان، أو مخالفة إسرائيل له في الطريق السابقة التي رواها عن منصور، عن سالم.

وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(7859)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(885)، كلاهما من طريق وهب بن بقية، عن خالد الطحان الواسطي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به مثله.

وسنده صحيح إن كان حصين سمع من أبي حازم، فإني لم أجد من نص عليه.

أما حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: فأخرجه ابن أبي شيبة (10666)، وأحمد (4/ 224)، وأبو داود (1630)، والنسائي (2598)، جميعهم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار؛ قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه عن الصدقة، قال: فرفع فيهما البصر وصوّبه، وقال:"إنكما لجلدان"، فقال:"أما إن شئتما أعطيتكما، ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب".

وسنده صحيح. وقال الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 401): "قال صاحب "التنقيح": حديث صحيح، ورواته ثقات. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: ما أجوده من حديث! هو أحسنها إسناداً".

وللحديث طرق أخرى ذكرها جميعها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "الإرواء"(877)، وحكم عليه بمجموعها بالصحة.

(1)

أي: يتظاهرون.

(2)

في (م): "بأخذ".

(3)

قوله: "الفتنة" ليس في (خ) و (م).

ص: 113

النفوس، وتنبيهاً للرواحل أَن تنهض بأثقالها (1)، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ تَحْسِينِ النَّغَمَات مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، بَلْ كَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ مطلقاً من غير أَن يَعْتَمِلُوا (2) هَذِهِ التَّرْجيعات الَّتِي حَدَثَتْ بِعَدَهُمْ، بَلْ كَانُوا يرقِّقون الصوت ويُمَطِّطُونه على وجهٍ يَلِيقُ بأُمّية (3) الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا صَنَائِعَ الْمُوسِيقَى (4)، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلذاذ (5) وَلَا إِطراب يُلْهِي، وإنما كان لهم فيه (6) شيء من النشاط؛ كما كان أَنْجَشَةُ (7) وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَحْدُوَانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (8)، وَكَمَا كَانَ الأَنصار يَقُولُونَ عِنْدَ حَفْرِ (9) الْخَنْدَقِ:

نَحْنُ الَّذين (10) بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبداً

فيجيبهم رسول الله (11) صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ (12): اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ (13) ".

وَمِنْهَا: أَن يتمثَّل الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ أَو الأَبيات مِنَ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِهِ لِيَعِظَ نَفْسَهُ، أَو يُنَشِّطها، أَوْ يُحَرِّكها لِمُقْتَضَى مَعْنَى الشِّعْرِ، أَو يذكرها لغيره (14) ذِكْرًا مُطْلَقًا؛ كَمَا حَكَى أَبو الْحَسَنِ القَرَافي الصُّوفي عن الحسن: أَن قوماً

(1) في (خ) و (م): "في أثقالها".

(2)

في (خ) و (م): "يتعلموا".

(3)

علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "لا يليق".اهـ.

(4)

في (خ) و (م): "المويسقي".

(5)

في (م): "لداد".

(6)

"فيه" زيادة من (غ).

(7)

في (م): "نحشة".

(8)

أما حديث عبد الله بن رواحة: فتقدم تخريجه (ص103). وأما حديث أنجشة: فأخرجه البخاري في "صحيحه"(6149 و6161 و6202 و6210 و6211)، ومسلم (2323)، كلاهما من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وغلام أسود يقال له: أنجشة يحدو، فقال له رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أنجشة! رويدك سوقاً بالقوارير".

(9)

قوله: "حفر" سقط من (ر)، واستدرك في الهامش، ولم يتَّضح جيداً في التصوير.

(10)

في (خ): "الذون".

(11)

قوله: "رسول الله" ليس في (خ).

(12)

قوله: "بقوله" من (خ) فقط.

(13)

أخرجه البخاري (2834 و2835)، ومسلم (1805).

(14)

قوله: "لغيره" ليس في (خ).

ص: 114

أَتوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالُوا: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِن لَنَا إِماماً إِذا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تغنَّى، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هُوَ؟ فذُكر لَهُ (1) الرَّجُلُ، فَقَالَ: قُومُوا بِنَا إِليه، فإِنا إِن وجَّهنا إِليه يَظُنُّ أَنّا تجسَّسنا عَلَيْهِ أَمره. قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتوا الرَّجُلَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَن نَظَرَ إِلى عُمَرَ قَامَ فَاسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! مَا حَاجَتُكَ؟ وَمَا جاءَ بِكَ؟ إِن كَانَتِ الْحَاجَةُ لَنَا كُنَّا أَحقَّ بِذَلِكَ مِنْكَ أَن نأْتيك، وإِن كَانَتِ الْحَاجَةُ لَكَ فأَحق مَنْ عَظَّمْنَاهُ خليفةُ خليفةِ (2) رسول صلى الله عليه وسلم. قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيَحَكَ! بَلَغَنِي عَنْكَ (3) أَمر ساءَني! قَالَ: وَمَا هو يا أَمير المؤمنين؟ فإني أعينك من نفسي، قال له عمر: بلغني أنك إذا صلَّيت تغنَّيت. قال: نعم يا أمير المؤمنين (4)! فقال (5) عمر (6): أتتمجَّن (7) فِي عِبَادَتِكَ؟ قَالَ: لَا يَا أَمير المؤمنين، ولكنها (8) عِظَةٌ أَعِظُ بها نفسي. فقال (9) عُمَرُ: قُلْها، فإِن كَانَ كَلَامًا حَسَنًا قُلْتُهُ (10) مَعَكَ، وإِن كَانَ قَبِيحًا نَهَيْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ:

وفُؤَادٌ كُلَّما عَاتَبْتُهُ

عَادَ في (11) الهُجْران يَبْغي تَعَبي (12)

لَا أَراهُ الدَّهْرَ إِلاّ لاهِياً

فِي تَمَادِيْهِ فَقَدْ بَرّحَ بِي

يَا قَرِينَ السُّوء مَا هَذَا الصِّبا

فَنِيَ العُمر كَذَا فِي اللَّعِبِ (13)

وشَبَابٌ بَانَ (14) عَنِّي فمَضَى

قَبْلَ أَن أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي

مَا أُرجّي (15) بَعْدَهُ إِلا الفَنَا

ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيّ مَطْلَبي

(1) قوله: "له" ليس في (خ).

(2)

في (م) ضرب على قوله: "خليفة" الأولى، وفي (خ):"خليفة" مرة واحدة.

(3)

في (خ): "عنك عنك".

(4)

من قوله: "فإني أعينك" إلى هنا سقط من (خ) و (م).

(5)

في (ر) و (غ): "قال".

(6)

قوله: "عمر" ليس في (خ).

(7)

في (ر) و (غ): "أوتتمجن".

(8)

في (خ) و (م): "لكنها".

(9)

في (خ) و (م): "قال".

(10)

في (م): "قلت".

(11)

في (خ) و (م): "في مدى" بدل "عاد في".

(12)

في (م): "تعب" وفي (غ) و (ر): "لعبي".

(13)

في (م): "ما للعب".

(14)

في (م): "بار".

(15)

في (م): "ما أرجو".

ص: 115

وَيْحَ نَفْسِي! لَا أَرَاهَا أَبداً

فِي جميلٍ لَا، وَلَا فِي (1) أَدَبِ

نفسُ لَا كنتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى

رَاقِبِي المَوْلى وخافِي وارْهَبي

قال (2): فقال عمر رضي الله تعالى عَنْهُ:

نفسُ لَا كنتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى

رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي

ثُمَّ قَالَ عُمَرُ (3): عَلَى هَذَا فليغنِّ مَنْ غنَّى (4).

فتأَمَّلوا قَوْلَهُ: "بلغني عنك أَمر ساءَني"، مَعَ قَوْلِهِ:"أَتتمجَّن فِي عِبَادَتِكَ"، فَهُوَ مِنْ أَشدّ مَا يَكُونُ فِي الإِنكار، حتّى (5) أَعلمه أَنه يردد على (6) لِسَانُهُ أَبياتَ حِكْمةٍ فِيهَا عِظَةٌ (7)، فَحِينَئِذٍ (8) أَقرّه وَسَلَّمَ لَهُ.

هَذَا وَمَا أَشبهه كَانَ فِعْلَ الْقَوْمِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّنْشِيطِ لِلنُّفُوسِ وَلَا الْوَعْظِ عَلَى مجرَّد الشِّعْرِ، بَلْ وَعَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُلِّ مَوْعِظَةٍ، وَلَا كَانُوا يَسْتَحْضِرُونَ لِذِكْرِ الأَشعار المغنِّين، إِذ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ، وَلَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الغناءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَزماننا (9) شيءٌ، وإِنّما دَخَلَ فِي الإِسلام بَعْدَهُمْ حِينَ خَالَطَ الْعَجَمُ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ بيَّن ذَلِكَ أَبو الْحَسَنِ القَرَافي، فَقَالَ: إِن (10) الْمَاضِينَ مِنَ الصَّدْرِ الأَوّل حُجَّة عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا يُلَحِّنون الأَشعار وَلَا يُنَغِّمُونَها

(1) قوله: "في" ليس في (م).

(2)

قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر).

(3)

قوله: "عمر" من (خ) فقط.

(4)

أخرج هذه القصة ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 312) من طريق الفضل بن عمير بن تميم المروزي، عن عبيد الله بن محمد العيشي، عن أبيه، عن مزيدة بن قعنب الرهاوي؛ قال: كنا عند عمر

، فذكرها مع اختلاف يسير.

ولم أجد ترجمة لمزيدة بن قعنب ولا للفضل بن عمير.

(5)

في (غ): "على".

(6)

قوله: "على" ليس في (خ) و (م).

(7)

في (خ): "موعظة".

(8)

في (غ): "ثم".

(9)

في (غ) و (ر): "أزمنتنا"، وفي (خ):"أزمات" وعلق عليها رشيد رضا بقوله: في الأصل: "أزمات"، فهو تحريف ظاهر. اهـ.

(10)

في (خ): "أي".

ص: 116

بأَحسن (1) مَا يَكُونُ مِنَ النَّغَم، إِلا مِنْ وَجْهِ إِرسال الشِّعْرِ واتِّصال الْقَوَافِي. فإِن كَانَ صوتُ أَحدهم أَشْجَى (2) مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا إِلى أَصل الخِلْقة لَا يَتَصَنَّعون وَلَا يَتَكَلّفون.

هَذَا مَا قَالَ (3). فَلِذَلِكَ نصَّ العلماءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ المُحْدَث، وَحَتَّى سُئل مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ الغناءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ (4) أَهل المدينة، فقال: إِنما يفعله عندنا (5) الفُسّاق (6). وَلَا كَانَ (7) المتقدِّمون أَيضاً يَعُدُّون الغناءَ جُزْءاً مِنْ أَجزاءِ طَرِيقَةِ التعبُّد، وَطَلَبِ رقَّة النفوس، وخشوع القلوب، حتى يقصدوه قَصْدًا، ويتعمَّدوا اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، فَيَجْتَمِعُوا لأَجل الذِّكْرِ الجَهْري، ثم الغناء (8)، والشَّطْح، والرَّقْص، والتَّغَاشِي، والصِّيَاح، وَضَرْبِ الأَقدام عَلَى وزن إيقاع الأَكُفِّ (9) أَو الْآلَاتِ، وَمُوَافَقَةِ (10) النَّغَمَات. هَلْ فِي كَلَامِ النبي صلى الله عليه وسلم أو عمله (11) الْمَنْقُولِ فِي الصِّحَاحِ (12)، أَوْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَو أَحدٍ من العلماءِ من ذَلِكَ (13) أَثر؟ أَو فِي كَلَامِ المُجِيب مَا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا؟.

بَلْ سُئل عَنْ إِنشاد الأَشعار بالصَّوامع كَمَا يَفْعَلُهُ المؤذِّنون الْيَوْمَ فِي الدعاءِ بالأَسحار؟ فأَجاب بأَن ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُضَافَةٌ إِلى بِدْعَةٍ؛ لأَن الدعاءَ بِالصَّوَامِعِ بِدْعَةٌ، وإِنشاد الشِّعْرِ وَالْقَصَائِدِ (14) بِدْعَةٌ أُخْرَى، إِذ لَمْ يكن ذلك

(1) في (ر): "فأحسن".

(2)

في (خ): "أشجن".

(3)

قوله: "هذا ما قال" مكرر في (غ).

(4)

في (ر) و (غ): "يتعلمه".

(5)

قوله: "عندنا" ليس في (خ) و (م).

(6)

رواه عبد الله بن أحمد في "العلل"(1581) عن أبيه، عن إسحاق بن عيسى الطباع؛ أنه سأل مالكاً

، فذكره. وسنده حسن.

(7)

في (خ): "ولكن".

(8)

قوله: "ثم الغناء" ليس في (خ) و (م).

(9)

في (خ) و (م): "الكف".

(10)

في (م): "وموافقات".

(11)

في (خ): "وعمله".

(12)

في (ر) و (غ): "الصحيح".

(13)

قوله: "من ذلك" ليس في (خ): وقوله: "من" ليس في (م).

(14)

في (ر) و (غ) و (م): "وإنشاد القصائد".

ص: 117

فِي زَمَنِ (1) السَّلَف المُقْتَدَى بِهِمْ.

كَمَا أَنه سُئِلَ عَنِ الذِّكْر الجَهْري أَمام الْجِنَازَةِ، فأَجاب بأَن السُّنَّة فِي اتِّباع (2) الْجَنَائِزِ الصَّمْت والتَّفَكُّر والاعتبار، وأَن ذلك فعل السلف. قال (3): وَاتِّبَاعُهُمْ سُنّة، وَمُخَالَفَتُهُمْ بِدْعَةٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَنْ يأْتِيَ آخرُ هَذِهِ الأُمَّة بأَهدى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوّلُها (4).

وأَما مَا ذَكَرَهُ (5) المُجِيب فِي التَّوَاجُدِ عِنْدَ السَّماع مِنْ أَنَّهُ أَثر رِقَّةِ النَّفس وَاضْطِرَابِ الْقَلْبِ، فإِنه لَمْ يبيِّن ذَلِكَ الأَثر مَا هُوَ، كَمَا أَنه لَمْ يبيِّن مَعْنَى الرِّقَّة، وَلَا عرَّج عَلَيْهَا بتفسيرٍ يُرشد إلى معنى (6) التَّوَاجُدِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وإِنما فِي كَلَامِهِ أَن ثَمَّ أَثراً ظَاهِرًا يَظْهَرُ عَلَى جِسْمِ المُتَوَاجِد، وَذَلِكَ الأَثر يَحْتَاجُ إِلى تَفْسِيرٍ. ثُمَّ التَّوَاجُدُ يَحْتَاجُ إِلَى شرحٍ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِيهِ (7).

وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي التَّوَاجُد (8) مَا كَانَ يَبْدُو عَلَى جملةٍ مِنْ أَصحاب رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو البُكاءُ، واقْشِعْرَارُ الجِلْد التَّابِعِ لِلْخَوْفِ، الْآخِذِ (9) بمَجَامِع الْقُلُوبِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ

(1) في (ر) و (م): "زمان".

(2)

في (غ): "التباع".

(3)

قوله: "قال" ليس في (خ) و (م).

(4)

لم أجده بهذا اللفظ، والظاهر أن المصنف عبَّر بالمعنى عما اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله من قوله:"لا يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله"، وهذا ينسب إليه مباشرة كما في "منهاج السنة"(2/ 444) وغيره.

بينما أسنده ابن عبد البر في "التمهيد"(23/ 10) بسند صحيح من طريق أشهب، عن الإمام مالك قال: كان وهب بن كيسان يقعد إلينا، ولا يقوم أبداً حتى يقول لنا: اعلموا أنه لا يُصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله. قلت: يريد ماذا؟ قال: يريد في بادئ الإسلام، أو قال: يريد التقوى.

(5)

في (غ) و (ر): "وأما ما ذكر".

(6)

في (خ) و (م)"فهم".

(7)

قوله: "فيه" ليس في (خ).

(8)

من قوله: "وذلك الأثر" إلى هنا سقط من (غ) و (ر).

(9)

في (ر): "لا لاخذ".

ص: 118

جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1)، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (2)، وَقَالَ:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، إلى قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3).

وعن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه؛ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصلّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ؛ يَعْنِي مِنَ الْبُكَاءِ (4).

والأَزِيزُ: صوتٌ يشبه غَلَيان القِدْر.

وَعَنِ الْحَسَنِ؛ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ *} (5)، فَرَبَى لَهَا رَبْوةً، عِيد مِنْهَا عِشْرِينَ يَوْمًا (6).

وعن عُبيد (7) بن [عُمَير](8)؛ قال: صلَّى بنا عمر بن الخطاب

(1) سورة الزمر: الآية (23).

(2)

سورة المائدة: الآية (83).

(3)

سورة الأنفال: الآيات (2 ـ 4).

(4)

أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(109) وأبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص136)، وأحمد في "المسند"(4/ 25 و26)، وأبو داود في "سننه"(904)، والترمذي في "الشمائل"(315)، والنسائي (1214)، وابن خزيمة في "صحيحه"(900)، وابن حبان في "صحيحه"(665، و753/ الإحسان)، جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن أبيه رضي الله عنه، به.

وسنده صحيح.

(5)

سورة الطور: الآيتان (7 و8).

(6)

أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص136 ـ 137) من طريق هشام بن حسان، عن الحسن البصري، فذكره.

وسنده ضعيف؛ لأن الحسن البصري لم يسمع من عمر رضي الله عنه، فإنه إنما ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر كما في "تهذيب الكمال"(6/ 97). والراوي عن الحسن هو هشام بن حسان، وفي روايته عنه مقال، لأنه لم يسمع منه أكثر حديثه فيما يقال، انظر "تهذيب الكمال"(30/ 184 ـ 193).

(7)

قوله: "عبيد" جاء في آخر السطر في نسخة (م)، فألحق به بخط مغاير قوله:"الله"، وهكذا جاء في طبعة رشيد رضا:"عبيد الله".

(8)

في جميع النسخ: "عمر"، والتصويب من مصادر التخريج.

ص: 119

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْفَجْرَ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ يُوسُفَ فقرأَها، حَتَّى إِذا (1) بَلَغَ:{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (2) بكى (3) حتى انقطع، فركع (4).

وَفِي رِوَايَةٍ: لِمَا انْتَهَى إِلى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (5) بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ وراءِ الصُّفوف (6).

وَعَنْ أَبي صَالِحٍ؛ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَهل الْيَمَنِ فِي زَمَانِ (7) أَبي بَكْرٍ رضي الله عنه؛ سَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَقَالَ أَبو بكر: هكذا كُنّا ثُمَّ قَسَت القلوب (8).

(1) قوله: "إذا" ليس في (غ) و (ر).

(2)

سورة يوسف: الآية (84).

(3)

في (غ) و (ر): "فبكى".

(4)

قوله: "فركع" ليس في (خ) و (م).

وهذا الأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص137) من طريق النضر بن إسماعيل، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، به. وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو صدوق، إلا أنه سيء الحفظ جداً كما في "التقريب"(6121).

وذكر ابن حجر في "فتح الباري"(2/ 206) أن ابن المنذر أخرجه من طريق عبيد بن عمير.

ولم ينفرد به ابن أبي ليلى.

فقد أخرجه أبو عبيد في الموضع السابق من طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاص، عن عمر مثله، إلا أنه ذكر صلاة العتمة بدل الفجر.

وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة فقيه فاضل، إلا أنه كان يدلِّس كما في "التقريب"(4221)، ولم يصرِّح بالسماع.

ويتقوَّى أيضاً بالطريق الآتية.

(5)

سورة يوسف: آية (86).

(6)

هذه الرواية أخذها المصنف ـ كما أخذ الروايتين قبلها ـ من "فضائل القرآن" لأبي عبيد. ولكن أبا عبيد لم يسند هذه الرواية، وإنما أخرجها مسندة: عبد الرزاق في "المصنف"(2716)، وسعيد بن منصور في "سننه"(1138 / التفسير)، وابن سعد في الطبقات (6/ 126)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35516)، جميعهم من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد؛ قال: سمعت نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني لفي آخر الصفوف:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} .

وسنده صحيح.

(7)

في (غ) و (ر): "زمن".

(8)

في (خ) و (م): "هكذا كنا حتى قست قلوبنا".=

ص: 120

وَعَنِ ابْنِ أَبي لَيْلَى: أَنه قرأَ سُورَةَ مَرْيَمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1)، فَسَجَدَ بِهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رأُسه قَالَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ قَدْ سَجَدْنَاهَا، فأَين البكاءُ؟ (2).

إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ الدالَّة عَلَى أَنَّ أَثَرَ الْمَوْعِظَةِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ تصنُّع إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا.

وَمِثْلُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (3) ـ ذكره بعض المفسرين ـ، وذلك أنهم (4) لَمَّا أَلقى اللَّهُ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ؛ حَضَرُوا عِنْدَ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ، فتحرَّكت فأْرة أَو هِرَّة خاف لأَجلها الملك، فنظر الفتية بعضهم إِلى بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَن (5) قَامُوا مصرِّحين بِالتَّوْحِيدِ، مُعْلِنِين بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، مُنْكِرِينَ عَلَى الْمَلِكِ (6) نِحْلَةَ الْكُفْرِ، باذِلين أَنفسهم فِي ذَاتِ اللَّهِ، فأَوعدهم، ثم أجّلهم (7)، فَتَوَاعَدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَارِ، إِلَى أَن كَانَ مِنْهُمْ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. فليس في شيءٍ من (8) ذَلِكَ صَعْقٌ وَلَا صِياح (9)، وَلَا شَطح، وَلَا تَغَاشٍ مُسْتَعْمَلٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ شأْن فقرائنا اليوم.

=والأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص135)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 33 ـ 34)، كلاهما من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح ذكوان السمان، فذكره.

وسنده رجاله ثقات، لكنه ضعيف لإرساله؛ فإن أبا صالح لم يسمع من أبي بكر رضي الله عنه كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (201)، و"جامع التحصيل"(ص174).

(1)

سورة مريم: آية (58).

(2)

أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن (ص140) من طريق إسماعيل بن مجالد، عن هلال الوزّان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به.

وفي سنده إسماعيل بن مجالد بن سعيد الهمداني وهو صدوق، إلا أنه يخطئ كما في "التقريب"(480)، فالحديث ضعيف لأجله.

(3)

سورة الكهف: آية (14).

(4)

في (خ): "أنه"،

(5)

في (خ): "إلى أن".

(6)

قوله: "على الملك" ليس في (غ) و (م).

(7)

في (خ) و (م): "أخلفهم".

(8)

قوله: "شيء من" ليس في (خ).

(9)

قوله: "ولا صياح" ليس في (غ).

ص: 121

وخرَّج (1) سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي "تَفْسِيرِهِ"(2) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (3) عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ قَالَ: قلت لِجَدَّتي أَسماءَ: كيف كان يصنع (4) أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قَرَؤُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُم اللَّهُ: تَدْمَعُ أَعينهم، وتَقْشَعِرّ جُلُودُهُمْ. قُلْتُ: إِنَّ نَاسًا (5) هَاهُنَا إِذا سَمِعُوا ذَلِكَ تأْخذهم عَلَيْهِ غَشْيَة. فَقَالَتْ: أَعوذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

وخرج أَبو (6) عبيد (7) من حديث أَبي حَازِمٍ؛ قَالَ: مرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهل الْعِرَاقِ سَاقِطٌ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا (8): إِذا قُرِئ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، أَو سَمِعَ اللَّهَ يُذْكَر خرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنا لَنَخْشَى الله وما (9) نسقط. وهذا إنكار.

(1) في (ر) و (غ) و (م): "خرج".

(2)

وهو جزء من "السنن"، والأثر فيه برقم (95)، وسنده صحيح، وقد خرجته وتكلمت عنه هناك، فانظره إن شئت.

(3)

قوله: "عبد الله بن" مكرر في (غ) و (ر).

(4)

قوله: "يصنع" سقط من (خ) و (م).

(5)

في (خ): "نسا".

(6)

في (خ) و (م): "ابن".

(7)

في "فضائل القرآن"(ص214) من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجُمَحي؛ قال: سمعت أبا حازم يقول: مرَّ ابن عمر

، فذكره.

وسنده حسن، فسعيد بن عبد الرحمن الجُمَحي ليس به بأس كما قال الإمام أحمد، وقد وثقه ابن معين وابن نمير وموسى بن هارون والعجلي وأبو عبد الله الحاكم، وقال عنه أحمد ما تقدم. وقال النسائي:"لا بأس به". وقال ابن عدي: "له أحاديث غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يهم عندي في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفاً، أو يصل مرسلاً، لا عَنْ تَعَمُّد". وقال أبو حاتم: "صالح". وقال يعقوب بن سفيان: "ليِّن الحديث". وقال زكريا الساجي: "يروي عن هشام وسهيل أحاديث لا يتابع عليها". وبالغ ابن حبان في تضعيفه. وقال ابن حجر: "صدوق له أوهام، وأفرط ابن حبان في تضعيفه". انظر: "تهذيب الكمال"(10/ 528 ـ 532)، و"تهذيب التهذيب"(2/ 30)، و"التقريب"(2363).

وأخرجه البغوي في "تفسيره"(4/ 77)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص282)، كلاهما من طريق سعيد بن عبد الرحمن، به.

(8)

في (غ) و (ر): "فقا".

(9)

في (خ): "ولا".

ص: 122

وَقِيلَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها (1): إِن قَوْمًا إِذا سمعوا القرآن صَعِقُوا (2)! فَقَالَتْ: إِنَّ (3) الْقُرْآنَ أَكرم مِنْ أَن (4) تَنْزِفَ عَنْهُ عُقُولُ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (5).

وَعَنْ أَنس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنه سُئِلَ عَنِ الْقَوْمِ يُقرأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فيُصْعَقون، فَقَالَ: ذَلِكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ (6).

وَخَرَّجَ أَبُو نعيم (7)

(1) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص214 ـ 215) من طريق هشام بن حسان؛ قال: قيل لعائشة

، فذكره.

وسنده ضعيف؛ فهشام بن حسان لم يلق أحداً من الصحابة كما قال ابن المديني، انظر:"جامع التحصيل"(ص293).

(2)

قوله: "صعقوا" سقط من (م)، وفي (خ):"إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم".

(3)

قوله: "إن" ليس في (غ) و (ر)، وليس هو في الطبعة التي صار العزو إليها من "فضائل القرآن" لأبي عبيد، وهو مثبت في بعض نسخه؛ كما في النسخة المغربية بتحقيق أحمد الخياضي رقم (374).

(4)

في (م): "أكرم ميزان".

(5)

سورة الزمر: آية (23).

(6)

أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص215) من طريق زيد بن الحباب، عن مسيّب العنبري، عن قتادة، عن أنس، به.

وفي سنده مسيّب العنبري ولم أجد له ترجمة.

والظاهر أنه تصحّف عن "شبيب بن مهران أبي زياد القسملي البصري" المترجم في "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 233)، "والجرح والتعديل"(4/ 360)، فإنه يروي عن قتادة، وعنه زيد بن الحباب، وقد أخرج هذا الأثر من طريقه البخاري في الموضع السابق عن قتادة، وذكر ـ أي البخاري ـ أن زيد بن الحباب رواه عنه.

ثم وجدته في الطبعة المغربية من "فضائل القرآن" لأبي عبيد (375): "شبيب العبدي"، وهو ابن مهران، فزال الإشكال والحمد لله.

وأخرجه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص282) من طريق إبراهيم بن الحجاج، عن شبيب، به. ولم يتكلم البخاري ولا ابن أبي حاتم عن شبيب بجرح ولا تعديل، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"(6/ 443)، وذكره الذهبي في "ميزان الاعتدال"(3662)، ونقل عن السيف ابن المجد الحافظ قوله:"فيه بعض الكلام".

(7)

في "الحلية"(3/ 167)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص282 ـ 283)، من طريق سليمان بن أحمد الطبراني، عن شيخه محمد بن العباس، عن=

ص: 123

عن عامر (1) بن عبد الله بن الزبير (2)؛ قَالَ: جِئْتُ أَبي، فَقَالَ: أَين كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقواماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَيَرْعُدُ أَحدُهم حَتَّى يُغشى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (3)، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ. فقال: لا تقعدْ معهم (4) بعدها. فرآني كأَنه لَمْ يأَخذ ذَلِكَ فيَّ، فَقَالَ: رأَيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتْلُو الْقُرْآنَ، ورأَيت أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ (5)، فَلَا يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفتَرَاهُم أَخشعَ لِلَّهِ مَنْ أَبي بكر وعمر؟ فرأَيت أن ذلك كذلك، فتركتهم. انتهى (6).

وَهَذَا يُشْعِر (7) بأَن ذَلِكَ كلَّه تعمُّلٌ وتكلُّفٌ لَا يُرضى بِهِ أهلُ الدِّين.

وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بن سيرين عن الرجل يُقْرَأُ عنده القرآن (8) فَيَصْعَقُ؛ فَقَالَ: مِيعَادُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَن يُجْلَسَ عَلَى حَائِطٍ، ثُمَّ يُقرأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَوّله إِلى آخِرِهِ، فإِن وَقَعَ فَهُوَ كما قال (9).

=الزبير بن بكار، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، به.

والطبراني أخرجه في "المعجم الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(10/ 377 رقم 17650).

والزبير بن بكار أخرجه في "الموفقيات" كما في "الدر المنثور"(7/ 222).

وسنده ضعيف لضعف عبد الله بن مصعب كما يتضح من ترجمته في "لسان الميزان"(4/ 360).

(1)

في (خ) و (م): "جابر" بدل "عامر".

(2)

في (خ): "أن ابن الزبير رضي الله عنه".

(3)

سقط لفظ الجلالة "الله" من (ر).

(4)

قوله: "معهم" ليس في (خ)، و (م).

(5)

قوله: "القرآن" ليس في (م).

(6)

قوله: "انتهى" ليس في (خ).

(7)

قوله: "يشعر" ليس في (خ).

(8)

قوله: "القرآن" ليس في (خ).

(9)

أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص215) من طريق زيد بن الحباب، عن حمران بن عبد العزيز وجرير بن حازم؛ أنهما سمعا محمد بن سيرين

، فذكره.

كذا جاء فيه: "حمران بن عبد العزيز"، وصوابه:"عمران".

فقد أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 265) من طريق زياد بن يحيى، عن عمران بن عبد العزيز؛ قال: سمعت محمد بن سيرين، فذكره.

ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص283).

وأخرجه ابن الجوزي أيضاً من طريق أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن جرير بن حازم، عن ابن سيرين، به.=

ص: 124

وهذا الكلام أصل (1) حَسَنٌ في الفرق بين (2) الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ؛ لأَنه إِنما كَانَ عِنْدَ الْخَوَارِجِ نَوْعًا مِنَ القِحَّة (3) فِي النُّفُوسِ الْمَائِلَةِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَدْ تُغَالِطُ النَّفْسُ فِيهِ فَتَظُنُّهُ انْفِعَالًا صَحِيحًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنه لَمْ يظهر على (4) أَحدٍ من الصحابة هُوَ (5) وَلَا مَا يُشْبِهُهُ، فإِن مَبْنَاهُمْ كَانَ على الحق، فلم يكونوا لِيَسْتَعْمِلوا (6) فِي دِينِ اللَّهِ (7) هَذِهِ اللُّعَبَ الْقَبِيحَةَ المُسْقِطة للأَدب والمروءَة.

نَعَمْ قَدْ لَا يُنكر اتِّفَاقُ الغَشْي وَنَحْوِهِ، أَو الْمَوْتِ لِمَنْ سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ بحقٍّ فضعُف عَنْ مُصَابَرَةِ الرِّقَّة الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِهَا، فَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ الضَّابِطَ مِيزَانًا للمُحِقّ والمُبْطِل، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فإِن القِحَةَ لَا تَبْقَى مَعَ خَوْفِ السُّقوط مِنَ الْحَائِطِ (8)، فَقَدِ اتَّفَقَ من ذلك بعض النوادر ظهر (9) فيها (10) عذر المُتَواجِد (11).

فحُكي عَنْ أَبي (12) وَائِلٍ؛ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وَمَعَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (13)، فَمَرَرْنَا عَلَى حَدَّاد، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلى حديدةٍ فِي النَّارِ، فَنَظَرَ الرَّبِيعُ إِليها فَتَمَايَلَ ليَسْقُط. ثُمَّ إِن عَبْدَ اللَّهِ مَضَى كَمَا هُوَ حَتَّى أَتينا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ عَلَى أَتُّون (14)، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ قرأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ

=قال حفص بن عمر: وكان محمد بن سيرين يذهب إلى أن هذا تصنُّع، وليس بحقٍّ من قلوبهم.

فتبين بهذه الطرق أن سنده صحيح إلى ابن سيرين.

(1)

قوله: "أصل" ليس في (خ).

(2)

قوله "الفرق بين" ليس في (خ) و (م).

(3)

القِحّةُ: الجفاء، والقُحّ: هو الجافي من الناس. انظر: "لسان العرب"(2/ 553).

(4)

في (م): "عن".

(5)

في (خ): "لا هو".

(6)

في (خ): "يستعملوا".

(7)

في (م): "في الدين الله".

(8)

قوله: "من الحائط" من (خ) فقط

(9)

في (خ): "وظهر".

(10)

في (ر) و (غ): "فيه".

(11)

في (خ): "التواجد".

(12)

في (م): "عن ابن أبي".

(13)

في (خ): "خيثمة"، وفي (م):"خيثم".

(14)

الأَتّون: هو موقد النار كما سيأتي عند المصنِّف، وانظر "لسان العرب" (13/ 7). وفي (ر):"أثون" بالثاء.

ص: 125

سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *}، إلى قوله:{دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (1)؛ قال (2): فَصَعِقَ الرَّبِيعُ ـ يَعْنِي غُشي عَلَيْهِ ـ، فَاحْتَمَلْنَاهُ فأَتينا بِهِ أَهله. قَالَ: ورابَطَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلى الظُّهْرِ فَلَمْ يُفِقْ؛ فَرَابَطَهُ إِلى الْمَغْرِبِ فأَفاق؛ ورجع عبد الله إِلى أَهله (3).

فهذه حالة (4) طرأَت لِوَاحِدٍ (5) مَنْ أَفاضل التَّابِعِينَ بِمَحْضَرِ صَحَابِيٍّ، ولم ينكر عليه لعلمه بأَن (6) ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَاقَتِهِ، فَصَارَ بِتِلْكَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ إِذاً.

وحُكي أَن شابًّا كان يصحب الجنيد إِمام الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ (7)، فَكَانَ الشَّابُّ إِذا سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ يَزْعَقُ، فَقَالَ لَهُ الجنيد يوماً: إِن فعلت

(1) سورة الفرقان: الآيتان (12، 13).

(2)

قوله: "قال" ليس في (خ) و (م).

(3)

أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص138 ـ 139)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير"(6/ 104)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 382)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 110)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص279)، جميعهم من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن عيسى بن سُليم، عن أبي وائل، به.

وفي سنده عيسى بن سُليم ذكره العقيلي في "الضعفاء"(3/ 382)، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال:"لا أعرفه".

وأنه قال أيضاً: "حدثنا يحيى بن آدم؛ قال: سمعت حمزة الزيات قال لسفيان: ـ أي الثوري ـ إنهم يروون عن ربيع بن خثيم أنه صعق! قال: ومن يروي هذا؟ إنما كان يرويه ذلك القاص، فلقيته فقلت: عمن تروي أنت ذا؟ منكراً له".

قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص280) عقب ذكره لهذه الحكاية: "فهذا سفيان الثوري ينكر أن يكون الربيع بن خثيم جرى له هذا؛ لأن الرجل كان على السَّمْت الأول، وما كان في الصحابة من يجري له مثل هذا، ولا التابعين. ثم نقول ـ على تقدير الصحة ـ: إن الإنسان قد يغشى عليه من الخوف، فيسكنه الخوف ويسكته، فيبقى كالميت، وعلامة الصادق أنه لو كان على حائط لوقع؛ لأنه غائب، فأما من يدعي الوجد ويتحفظ من أن تزل قدمه، ثم يتعدى إلى تخريق الثياب وفعل المنكرات في الشرع، فإنا نعلم قطعاً أن الشيطان يلعب به".

وذكر الذهبي في "ميزان الاعتدال"(6566) عيسى بن سليم هذا وقال: "لا يعرف".

(4)

في (خ): "حالات".

(5)

في (غ) و (ر): "بواحد".

(6)

في (خ): "أن".

(7)

في (خ): "الجنيد رضي الله عنه وهو إمام الصوفية إذ ذاك".

ص: 126

ذَلِكَ مَرَّةً أُخرى لَمْ تَصْحَبْنِي. فَكَانَ إِذا سَمِعَ شَيْئًا يَتَغَيَّرُ، وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ حَتَّى كَانَ يقطر كلّ شعرة من بدنه بِقَطْرةٍ (1)، فَيَوْمًا مِنَ الأَيام صَاحَ صَيْحَةً تَلِفَتْ نَفْسُهُ (2).

فَهَذَا الشَّابُّ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ السَّلَفُ؛ لأَنه لَوْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ الأُولى غَلَبَةً (3) لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ، وإِن كَانَ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (4)، وَعَلَيْهِ أَدّبه الشَّيْخُ (5) حِينَ أَنكر عليه وأوعده (6) بالفُرْقَةِ، إِذْ فَهِمَ مِنْهُ أَن تِلْكَ الزَّعْقَةَ مِنْ بَقَايَا رُعُونَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا خَرَجَ الأَمر عَنْ كَسْبِهِ (7) ـ بِدَلِيلِ مَوْتِهِ ـ، كَانَتْ صَيْحَتُهُ عَفْوًا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا إِن شاءَ اللَّهُ.

بِخِلَافِ هؤلاءِ الْقَوْمِ (8) الَّذِينَ لَمْ يشُمُّوا مِنْ أَوصاف الفضلاءِ رائحة، فأَخذوا في التشبُّه (9) بهم، فأَبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج، وياليتهم وقفوا عند هذا الحدّ المذموم، ولكنهم (10) زادوا على ذلك الرَّقْص والزَّفَن (11) وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رأْسه، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ للحمقى، لكونه من أَعمال الصبيان

(1) في (خ): "حَتَّى كَانَ يَقْطُرُ الْعَرَقُ مِنْهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ من بدنه قطرة".

(2)

أخرج هذه الحكاية القشيري في "الرسالة"(ص204) عن شيخه أبي حاتم السجستاني؛ قال: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد

، فذكرها.

وذكرها أيضاً الغزالي في "الإحياء"(2/ 302)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة"(1/ 399).

(3)

في (خ): "غلبته".

(4)

في (خ) و (م): "خيثم".

(5)

كتب في (خ) بخط دقيق فوق كلمة "الشيخ": (أي الجنيد).

(6)

في (خ) و (م): "ووعده".

(7)

في (غ) و (ر): "على كسبه".

(8)

في (ر) و (غ): "الفقراء".

(9)

في (خ) و (م): "بالتشبه".

(10)

في (خ): "ولكن".

(11)

الزّفَن: هو الرقص، وأصله: اللعب والدفع والضرب بالرجل. انظر: "لسان العرب"(13/ 197)، و"التعاريف" للمناوي (ص386 ـ 387).

ص: 127

والمجانين، المُبْكي للعقلاءِ، رحمةً لمن يَتَّخذ (1) مِثْلُ هَذَا طَرِيقًا إِلى اللَّهِ، وتشبُّهاً (2) بِالصَّالِحِينَ.

وَقَدْ صَحّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سارية رضي الله عنه؛ أنه (3) قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ منها القلوب

، الحديث (4).

(1) في (خ): "رحمة لهم؛ إذْ لم يتخذ"، وفي (م):"رحمة لهم ولم يتخذ".

(2)

في (م): "وتشبيهاً".

(3)

قوله: "أنه" ليس في (خ).

(4)

حديث صحيح كما قال المصنف، وقد روي عن العرباض رضي الله عنه من أربع طرق:

1 و2: طريقا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي: أخرجهما الإمام أحمد (4/ 126 ـ 127) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا ثور بن يزيد، ثنا خالد بن معدان؛ قال: ثنا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر؛ قال: أتينا العرباض بن سارية ـ وهو ممن نزل فيه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ـ، فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال عرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (4599).

وأخرجه ابن أبي عاصم (32 و57)، وابن حبان في "صحيحه"(5/الإحسان)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 97)، ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم، به، ولفظ ابن أبي عاصم مختصر.

وأخرجه أحمد (4/ 126)، والدارمي (1/ 44)، والترمذي (2676)، والحاكم (1/ 95 ـ 96)، جميعهم من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن ثور بن يزيد، به، ولم يذكروا حجر بن حجر.

وأخرجه ابن ماجه (44) من طريق عبد الملك بن الصباح، عن ثور، به ولم يذكر حجر بن حجر أيضاً.

وكذا أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(31 و54) من طريق عيسى بن يونس، عن ثور، مختصراً.

وأخرجه أحمد (4/ 127)، والترمذي في الموضع السابق، وابن أبي عاصم (27)،=

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=ثلاثتهم من طريق بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، به، ولم يذكروا حجر بن حجر، ووقع في رواية أحمد:"عن ابن أبي بلال" بدل "عبد الرحمن بن عمرو".

وأخرجه أحمد أيضاً (4/ 127)، والحاكم (1/ 96)، كلاهما من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، عن خالد بن معدان، به دون ذكر حجر بن حجر أيضاً، ووقع عند أحمد:"عن أبي بلال"، فلعله سقط منه:"ابن"، فيكون كالرواية السابقة، ويبقى النظر: هل هو عبد الرحمن بن عمرو، وكنية أبيه:"أبو بلال"، فتتفق الرواية؟ أو يكون رجلاً آخر، فيكون في الحديث اختلاف؟ ولم يترجم ابن حجر في "تعجيل المنفعة" لابن أبي بلال، ولا لأبي بلال، فالظاهر أنه يرى أنه عبد الله بن أبي بلال الخزاعي المترجم في "التهذيب"(2/ 311)، فإن كان كذلك فهو اختلاف لا يؤثر إلا على طريقي بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم عن خالد، ولا يؤثر على باقي الطرق.

وقد صحح الحديث ابن حبان كما تقدم، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم:"هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعاً، ولا أعرف له علة".

وكان قد قال قبل ذلك: "هذا حديث صحيح ليس له علّة، وقد احتجّ البخاري بعبد الرحمن بن عمرو وثور بن يزيد

".

وكان قد ذكر قبل ذلك أن البخاري احتجّ بعبد الرحمن بن عمرو، وهو وهم منه، فلعله التبس عليه بغيره ممن روى له البخاري، وأما عبد الرحمن هذا فهو ابن عمرو بن عَبَسَة السُّلَمي، الشامي، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، ولم يرو له البخاري، وهو مقبول كما في "التقريب"(3991)، وقد تابعه حُجْر بن حُجْر الكَلَاعي الحمصي، وهو مقبول مثله كما في "التقريب"(1152).

وقد أخرجه أحمد (4/ 126)، وابن أبي عاصم (33 و56 و58)، والحاكم (1/ 96)، من طريق معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو، عن العرباض، به.

وأخرجه ابن أبي عاصم (30) من طريق يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عمرو، به مختصراً.

3 ـ طريق يحيى بن أبي المطاع، عن العرباض. أخرجه ابن ماجه (42)، وابن أبي عاصم (26 و55)، والحاكم (1/ 97)، ثلاثتهم من طريق عبد الله بن العلاء بن زبر، عن يحيى، به.

4 ـ طريق المهاجر بن حبيب، عن العرباض. أخرجه ابن أبي عاصم (28 و29 و59) مختصراً.

وصحح الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله هذا الحديث في تعليقه على "السنة" لابن أبي عاصم.

ص: 129

فقال الإمام العالم السني أبو بكر الآجُرِّي (1) رضي الله عنه (2): مَيِّزوا هَذَا الْكَلَامَ؛ فَإِنَّهُ (3) لم يقل (4): صَرَخْنا من موعظته، وَلَا زَعَقْنا (5)، وَلَا طَرَقْنا عَلَى رَؤُوسِنَا، وَلَا ضَرَبْنَا عَلَى صُدُورِنَا، وَلَا زَفَنّا، وَلَا رَقَصْنَا ـ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ؛ يَصْرُخُونَ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ وَيَزْعَقُونَ، وَيَتَغَاشَوْنَ (6) ـ. قَالَ: وَهَذَا (7) كُلُّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَلْعَبُ بِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيُقَالُ (8) لِمَنْ فَعَلَ هَذَا:

اعْلَمْ (9) أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَصدق النَّاسِ مَوْعِظَةً، وأَنصح النَّاسَ لأُمته، وأَرقّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ الناس: من (10) جاءَ بعده ـ ولا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ ـ، مَا صَرَخُوا عِنْدَ موعظته، ولا زَعَقُوا، ولا رقصوا، ولا زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانُوا أَحقَّ النَّاسِ بِهَذَا (11) أَن يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ فَاعْلَمْ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

وَلَا بُدَّ مِنَ النظر في الأَمر (12) الْمُوجِبِ للتأَثُّر الظَّاهِرِ فِي السَّلَفِ الأَوَّلين مَعَ هؤلاءِ المُدَّعين، فَوَجَدْنَا الأَوّلين يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الأَثر بسبب سماع (13) ذكر الله تعالى، وَبِسَبَبِ سَمَاعِ (14) آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (15)، وَبِسَبَبِ رُؤْيَةٍ اعتباريَّة؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عِنْدَ رؤيته للحدَّاد وللأَتُّون (16) ـ وَهُوَ مَوْقَدُ النَّارِ ـ، وَلِسَبَبِ قراءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَو غيرها، ولم نجد أَحداً

(1) قوله: "الآجري" متقدم في (خ) على قوله: "العالم".

(2)

مظنَّة كلام الآجري هذا: كتابه "أخلاق أهل القرآن"، ولم أجد فيه هذا الكلام، ونقل بعضه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص281).

(3)

قوله: "فإنه" من (خ) فقط.

(4)

في (غ): "يقولوا".

(5)

قوله: "ولا زعقنا" ليس في (خ).

(6)

في (خ): "ويتناشون".

(7)

في (ر) و (غ): "هذا".

(8)

في (غ) و (ر) و (م): "يقال".

(9)

في (م): "علم".

(10)

في (غ): "فمن"، وفي (ر):"ممن".

(11)

في (خ): "أحق الناس به".

(12)

في (خ): "الأمر كله".

(13)

قوله: "سماع" ليس في (خ).

(14)

في (خ): "ذكر الله أو بسماع".

(15)

قوله: "وبسبب سماع آية من كتاب الله" مكرر في (غ).

(16)

في (خ): "والأتون".

ص: 130

مِنْهُمْ ـ فِيمَا نَقَلَ العلماءُ ـ يَسْتَعْمِلُونَ الترنُّم بالأَشعار لِتَرِقَّ نُفُوسُهُمْ، فتتأَثر ظَوَاهِرُهُمْ، وَطَائِفَةُ الفقراءِ عَلَى الضدّ منهم؛ فإِنهم يسمعون (1) الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَا تتأَثر ظَوَاهِرُهُمْ (2)، فإِذا قام المُزَمْزِمُ (3) تسابقوا (4) إلى حركاتهم المعروفة لهم، فَبِالْحَرِيِّ أَن لا يتأَثَّروا إلا (5) عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُبْتَدَعَةِ؛ لأَن الْحَقَّ لَا يُنْتِجُ إِلا حَقًّا، كَمَا أَن الْبَاطِلَ لَا يُنْتِجُ إِلا بَاطِلًا.

وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْبَنِي النَّظَرُ فِي حَقِيقَةُ الرِّقَّة الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ المحرِّكة لِلظَّاهِرِ. وَذَلِكَ أَن الرِّقَّةَ ضِدُّ الْغِلَظِ، فتقول: هَذَا رَقِيقٌ لَيْسَ بِغَلِيظٍ، وَمَكَانٌ رَقِيقٌ: إِذَا كان ليِّن التراب، ضدُّه (6) الغليظ، فإِذ وُصِفَ بِذَلِكَ الْقَلْبُ (7) فَهُوَ رَاجِعٌ إِلى لِينِهِ وتأَثره ضِدُّ الْقَسْوَةِ، ويُشْعِر بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (8)؛ لأَن القلب الرقيق إذا وردت عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةُ خَضَعَ لَهَا وَلَانَ وانْقَادَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (9)؛ فإِن الوَجَلَ تأَثُّرٌ وَلِينٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ الْمَوْعِظَةِ، فَتَرَى الْجِلْدَ مِنْ أَجل ذَلِكَ يَقْشَعِرّ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَاللِّينُ إِذا حلَّ بِالْقَلْبِ ـ وهو باطن الإِنسان ـ، وَحَلَّ (10) بِالْجِلْدِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ ـ وَهُوَ ظَاهِرُ الإِنسان ـ، فَقَدْ حَلَّ الِانْفِعَالُ بِمَجْمُوعِ الإِنسان، وَذَلِكَ يَقْتَضِي السُّكُونَ لا الحركة والانزعاج، والسكوت لا الصياح،

(1) في (خ) و (م): "يستعملون".

(2)

من قوله: "وطائفة الفقراء" إلى هنا مُكرر في (خ).

(3)

في (خ): "المزمر". والزَّمْزَمَةُ: الأصوات التي تدار وتتابع من الخياشيم والحلوق ولا تكاد تفهم، ويقال لصوت الرَّعد إذا تتابع: زَمْزَمَة، وزَمْزَمَ الأسد: إذا صوَّت، وَتَزَمْزَمَتْ الإبل: إذا هدرت، وفرس مُزَمْزِمٌ في صوته: إذا كان يطرِّب فيه. انظر "لسان العرب"(12/ 273 ـ 274).

(4)

في (غ) و (ر) و (م): "سابقوا"، والمثبت من (خ).

(5)

قوله: "إلا" ليس في (خ).

(6)

في (خ): "ومثله" بدل: "ضده".

(7)

قوله: "القلب" ليس في (خ).

(8)

سورة الزمر: آية (23).

(9)

سورة الأنفال: آية (2)، وقوله تعالى:"قلوبهم" ليس في (ر) و (غ).

(10)

في (خ): "حل".

ص: 131

وَهِيَ (1) حَالَةُ السَّلَف الأوَّلين ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ. فإِذا رأَيت أَحداً سَمِعَ مَوْعِظَةً ـ أَيّ مَوْعِظَةٍ كَانَتْ ـ؛ فظهر (2) عَلَيْهِ مِنَ الأَثر مَا ظَهَرَ عَلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ عَلِمْتَ أَنها رِقَّةٌ هِيَ أَوّل الوَجْد، وأَنها صَحِيحَةٌ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا.

وإِذا رأَيت أَحداً سَمِعَ مَوْعِظَةً قُرْآنِيَّةً أَو سُنِّية أَو حِكَمِيَّة فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شيء، حتى يسمع شعراً مترنّماً (3) به (4)، أَو غِنَاءً مُطْرِبًا فتأَثَّر؛ فإِنه لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ انْزِعَاجٌ بِقِيَامٍ، أَو دَوَرَانٍ، أَو شَطح، أَو صِيَاحٍ، أَو مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَسَبَبُهُ: أَن الَّذِي حلَّ بِبَاطِنِهِ لَيْسَ بالرِّقَّة الْمَذْكُورَةِ أَوّلاً، بَلْ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُنَاسِبُ الغناءَ؛ لأَن الرِّقَّة ضِدُّ الْقَسْوَةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وَالطَّرَبُ ضِدُّ الْخُشُوعِ ـ كَمَا يَقُولُهُ الصُّوفِيَّةُ ـ، وَالطَّرَبُ مُنَاسِبٌ لِلْحَرَكَةِ؛ لأَنه ثَوَرَانُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ اشترك مع الإِنسان فيه الحيوان (5)؛ كالإِبل والخيل (6)؛ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الأَطفال، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْخُشُوعُ ضِدُّه؛ لأَنه رَاجِعٌ إِلى السُّكُون، وَقَدْ فُسِّر بِهِ لُغَةً، كَمَا فُسِّر الطَّرَب بأَنه خِفّة تصيب (7) الإِنسان مِنْ حُزْنٍ، أَو سُرُورٍ.

قَالَ (8) الشَّاعِرُ (9):

طربَ الْوَالِهِ (10) أَو كالمُخْتَبَل (11)

(1) في (م): "هي".

(2)

في (خ) و (م): "فيظهر".

(3)

في (خ): "مرقَّما" وفي (م): "مرنّماً".

(4)

قوله: "به" ليس في (خ) و (م).

(5)

في (خ): "اشترك فيه مع الإنسان الحيوان".

(6)

في (خ) و (م): "والنحل".

(7)

في (خ): "تصحب".

(8)

في (ر): "وقال".

(9)

قوله: "قال الشاعر" سقط من (غ). وهذا عجز بيت للنابغة الجعدي، وصدره:

وأراني طَرِباً في إثرهم

........................

انظر "أدب الكاتب" لابن قتيبة (1/ 18).

(10)

في (خ): "الوالد".

(11)

في (خ) و (م): "أو كالمتخيل"، وصوبت بهامش (م) بخط مغاير.

وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: شطر من أبيات للنابغة الجعدي، والشطر=

ص: 132

وَالتَّطْرِيبُ: مَدُّ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ.

وَبَيَانُهُ: أَن الشِّعْرَ الْمُغَنَّى بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَمرين:

أَحدهما: مَا فِيهِ مِنَ (1) الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْقُلُوبِ، فَفِيهَا تَعْمَلُ وَبِهَا تَنْفَعِلُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُنْسَبُ السَّمَاعُ إِلى الأَرواح.

وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنَ النَّغَمات المُرَتَّبة عَلَى النِّسَب التَّلْحِينِيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الطِّبَاعِ (2) فيُهيِّجها (3) إِلى مَا يُنَاسِبُهَا، وَهِيَ الْحَرَكَاتُ عَلَى اخْتِلَافِهَا، فَكُلُّ تأَثر في القلب من جهة السماع يحصُلُ (4) عنه آثار السكون وَالْخُضُوعِ فَهُوَ رِقَّة، وَهُوَ التَّوَاجُدُ الَّذِي أَشار إِليه كَلَامُ المُجِيبِ، وَلَا شَكَّ أَنه مَحْمُودٌ. وَكُلُّ تأَثُّر يَحْصُلُ عَنْهُ ضِدّ السُّكُون؛ فَهُوَ طَرَبٌ لَا رِقَّة فِيهِ (5) وَلَا تَوَاجُدَ، وَلَا هُوَ عِنْدَ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَحْمُودٌ، لَكِنَّ هؤلاءِ الفقراءِ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ التَّوَاجُدِ ـ فِي الْغَالِبِ ـ إِلا الثَّانِي الْمَذْمُومَ. فَهُمْ إِذاً مُتَوَاجِدُونَ بِالنَّغَمِ وَاللُّحُونِ، لَا يُدْرِكُونَ مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ شَيْئًا (6)، فَقَدْ بَاؤُوا (7) إِذاً بأَخسر الصَّفْقَتَيْنِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ.

وإِنما جاءَهم الْغَلَطُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ المناطَيْن عَلَيْهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنهم استدلُّوا بِغَيْرِ دَلِيلٍ. فقوله تعالى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (8)، وَقَوْلُهُ:{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} (9): لا دليل فيه على هذا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ (10) قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} (11): كذا (12) أَيْنَ فيه أَنهم قاموا

=الأول: "وأراني طرباً في إثرهم"، والواله: الثاكل (وكان في نسختنا: الوالد). والمختبل ـ بفتح الباء ـ: من اختبل عقله؛ أي: جُنّ، (وكان في نسختنا: المتخيل). اهـ.

(1)

قوله: "من" ليس في (م).

(2)

في (خ): "الطبائع".

(3)

في (ر) و (غ): "فتهيجها".

(4)

في (خ): "تحصل".

(5)

قوله: "فيه" من (خ) فقط.

(6)

في (ر) و (غ): "شحة".

(7)

في (م): "بانوا"، وفي (ر):"باءو".

(8)

سورة الذاريات: الآية (50).

(9)

سورة الكهف: الآية (18).

(10)

في (غ): "وكذا".

(11)

الآية: (14) من سورة الكهف. وقوله: "ربنا" من (خ) فقط.

(12)

قوله: "كذا" ليس في (خ).

ص: 133

يَرْقُصُونَ؟ أَو يَزْفُنُون؟ أَو يَدُورُونَ عَلَى أَقدامهم؟ أو نحو (1) ذَلِكَ؟ فَهُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ هَذَا الباب (2).

وَوَقَعَ فِي كَلَامِ المُجيب لَفْظُ السَّمَاعِ غَيْرَ مُفَسَّر، ففهم مِنْهُ الْمُحْتَجُّ أَنه الغناءُ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ (3) شِيعَتُهُ، وَهُوَ فَهْمُ عُمُومِ النَّاسِ، لَا فَهْمُ الصُّوفِيَّةِ، فإِنه (4) عندهم ينطلق (5) عَلَى كُلِّ صَوْتٍ أَفاد حِكْمَةً يَخْضَعُ لَهَا القلب، ويلين لها الجلد، وهو الذي يَجِدُون فيه (6) ويتواجدون عِنْدَهُ (7) التَّوَاجُدَ الْمَحْمُودَ، فَسَمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ سَمَاعٌ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ السُّنَّةِ، وَكَلَامُ الحكماءِ والفضلاءِ، حَتَّى أَصوات الطَّيْرِ وَخَرِيرُ الماءِ، وَصَرِيرُ الْبَابِ. وَمِنْهُ سماع المنظوم أَيضاً إِذا أَعطى حِكْمَةً، وَلَا يَسْتَمِعُونَ هَذَا الأَخير إِلا فِي الْفَرَطِ بَعْدَ الْفَرَطِ (8)، وَعَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الإلْذاذ (9) وَالْإِطْرَابِ، ولا هم ممن يداوم (10) عَلَيْهِ أَو يَتَّخِذُهُ عَادَةً؛ لأَن ذَلِكَ كُلَّهُ قَادِحٌ فِي مَقَاصِدِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا.

وَلِذَلِكَ (11) قال الجُنيد رحمه الله: إِذا رأَيت المُرِيد يُحِبُّ السَّمَاع فَاعْلَمْ أَن فِيهِ بقيَّةً مِنَ البَطَالة (12).

وَإِنَّمَا لَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ إِنِ اتَّفَقَ: وَجْهُ الْحِكْمَةِ ـ إِنْ كَانَ فيه حكمة ـ،

(1) في (خ): "ونحو".

(2)

في (خ): "الجواب".

(3)

في (م): "يستعمله".

(4)

في (م): "فإنهم".

(5)

في (خ): "يطلق".

(6)

في (م): "عنده" بدل "فيه".

(7)

في (خ): "وهو الذي يتواجدون عنده".

(8)

قوله: "بعد الفرط" ليس في (خ)، وعلق عليه بهامش (م) بقوله:"الفرط: الحين، وأن تأتيه بعد الأيام، لا لأكثر من خمسة عشر، ولا أقل من ثلاثة".

(9)

في (خ): "الالتذاذ".

(10)

في (م): "يدوم".

(11)

قوله: "ولذلك" ليس في (خ).

(12)

أخرجه القشيري في "الرسالة"(ص203) من طريق شيخه أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي؛ قال: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت الجنيد يقول

، فذكره.

وعن القشيري نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة"(1/ 395).

ص: 134

فَاسْتَوَى عِنْدَهُمُ النَّظْم والنَّثْر. وإِن أَطلق أَحد مِنْهُمُ السَّمَاعَ عَلَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ الْمُضَافِ إِلَى شعر أو غيره (1)، فمن حيث فهم منه (2) الْحِكْمَةَ لَا مِنْ حَيْثُ يُلَائِمُ الطِّبَاع؛ لأَن من سمعه منهم مِنْ حَيْثُ يَسْتَحْسِنُهُ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْفِتْنَةِ، فَيَصِيرُ إِلى ما صار إليه أهل (3) السَّمَاعُ المُلِذّ المُطْرِب.

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَن السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ: مَا ذُكر (4) عَنْ أَبي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ أَنه قَالَ: مَنِ ادَّعَى السماع ولم يسمع صوت الطيور (5) وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مُفْتَرٍ مُدَّعٍ (6). وقال الحصري: أَيْشٍ أَعمل بسماع ينقطع إذا انقطع (7) من (8) يُسمع مِنْهُ؟ يَنْبَغِي (9) أَن يَكُونَ سَمَاعُكَ سَمَاعًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ (10).

وَعَنْ أَحمد بْنِ سَالِمٍ (11) قَالَ: خَدَمْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ

(1) من قوله: "على الصوت الحسن" إلى هنا سقط من (خ).

(2)

قوله: "منه" ليس في (خ).

(3)

قوله: "أهل" ليس في (خ) و (م).

(4)

قوله: "ما ذكر" سقط من (غ).

(5)

في (خ) و (م): "الطير".

(6)

أخرجه القشيري في "الرسالة"(ص201) من طريق شيخه أبي عبد الرحمن السلمي؛ قال: سمعت أبا عثمان المغربي يقول

، فذكره. وعن القشيري نقله شيخ الإسلام في "الاستقامة"(1/ 412).

(7)

قوله: "إذا انقطع" ليس في (خ) و (م).

(8)

في (خ): "ممن".

(9)

في (خ): "وينبغي".

(10)

أخرجه القشيري في الموضع السابق من طريق شيخه محمد بن أحمد بن محمد التميمي؛ قال: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الحصري يقول في بعض كلامه

، فذكره.

وعن القشيري نقله شيخ الإسلام في "الاستقامة"(1/ 416 ـ 417). وذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين"(1/ 286).

(11)

كذا في جميع الأصول. ورجّح نور الدين شريبة في تعليقه على "طبقات الصوفية" للسلمي (ص208) أنه محمد بن أحمد بن سالم البصري، وذكر أن كثيراً ما يخلطون بينه وبين أبي الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن سالم.

قلت: أبو الحسن أحمد أبوه، فلو قال: يخلطون بينه وبين أبيه لكان أجود. وسبب الخلط أنه وأبوه من تلامذة سهل التستري، فإذا جاء في خبر:"قال ابن سالم" لم يتميز من هو. وانظر سير أعلام النبلاء (16/ 272).

وقصة سهل هاهنا يرويها الابن محمد بن أحمد، ومن طريقه أخرجها القشيري في "الرسالة"(ص205).

ص: 135

سِنِينَ، فَمَا رأَيته تَغَيَّرَ عِنْدَ سَمَاعِ شيءٍ يَسْمَعُهُ مِنَ الذِّكْرِ أَو الْقُرْآنِ أَو غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قُرئ بَيْنَ يديه:{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1): رأيته (2) تغيَّر وارْتَعَدَ وَكَادَ يَسْقُطُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى حَالِ صَحْوه سأَلته عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَا حَبِيبِي! ضَعُفْنَا.

وَقَالَ السُّلَمى: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَوَاحِدٌ يَسْتقي الماءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكَرة، فَقَالَ لِي: يَا أَبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! تَدْرِي أَيْشٍ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكْرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ (3).

فَهَذِهِ الْحِكَايَاتُ وأَشباهها تَدُلُّ عَلَى أَن السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وأَنهم لَا يُؤْثِرُونَ سَمَاعَ الأَشعار عَلَى غيرها، فضلاً عن (4) أَن يَتَصَنَّعُوا فِيهَا بالأَغاني المُطْربة. وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ وَبَعُدُوا عَنْ أَحوال السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَخذ الْهَوَى فِي التَّفْرِيعِ فِي السَّمَاعِ حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْمَصْنُوعُ عَلَى قَانُونِ الأَلحان؛ فَتَعَشَّقَتْ بِهِ الطِّباع، وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهِ وَدَامَ ـ وإِن كَانَ قَصْدُهُمْ بِهِ الرَّاحَةَ فَقَطْ ـ، فَصَارَ قَذًى (5) فِي طَرِيقِ سُلُوكِهِمْ فَرَجَعُوا بِهِ القَهْقَرى، ثُمَّ طال الأَمَدُ حتى اعتقده الجهال من أهل (6) هذا (7) الزمان (8) وما قاربه قربة (9)، وجُزْءًا (10) من أَجزاءِ طريقة التصوف، وهو الأَدْهَى والأمَرّ (11).

وَقَوْلُ المُجِيب: وأَما مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلى منزله فتجاب دعوته، وله في

(1) سورة الحديد: الآية (15).

وقوله تعالى: {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ليس في (خ) و (م).

(2)

قوله: "رأيته" ليس في (خ) و (م).

(3)

في (خ): "الله" مرة واحدة.

وقول السلمي هذا أخرجه القشيري في الموضع السابق عنه.

وعن القشيري نقله ابن القيم في "مدارج السالكين"(2/ 412 ـ 413).

(4)

في (خ) و (م): "على" بدل "عن".

(5)

في (ر) و (غ): "قد جاء" بدل "قذى" وفي (م): "قد"، والمثبت من (خ) فقط.

(6)

قوله: "أهل" سقط من (م).

(7)

قوله: "هذا" سقط من (غ).

(8)

في (خ): "الجهال في هذا الزمان".

(9)

في (خ): "أنه قربة".

(10)

في (م): "جزءاً".

(11)

قوله: "الأمر" ليس في (خ) و (م).

ص: 136

دعوته (1) قصده: مطابق بحسب ما ذُكر أَوْ لا؛ فإن مَنْ (2) دَعَا قَوْمًا إِلى مَنْزِلِهِ لتعلُّم آيَةٍ أَو سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (3)، أَو سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَو مُذَاكَرَةٍ فِي عِلْمٍ، أَو فِي نعم الله، أَو مؤانسة بشعر (4) فِيهِ حِكْمَةٌ لَيْسَ فِيهِ غناءٌ مَكْرُوهٌ وَلَا صَحِبَهُ شَطْحٌ وَلَا زَفَن وَلَا صِيَاحٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، ثُمَّ أَلْقَى إِليهم شيئاً مِنَ الطَّعَامِ (5) عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التكلُّف وَالْمُبَاهَاةِ، ولم يقصد بذلك بدعة، ولا امتيازاً بفرقة تَخْرُجُ بأَفعالها وأَقوالها عَنِ السُّنَّةِ (6)، فَلَا شَكَّ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ؛ لأَنه دَاخِلٌ فِي حُكْمِ المأْدُبَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا حُسْنَ العِشْرَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ (7) والإِخوان، والتودُّد بَيْنَ الأَصحاب، وَهِيَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ، فإِن كَانَ فِيهَا تَذَاكُرٌ فِي عِلْمٍ أَو نَحْوِهِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الخير.

ومثاله ما يحكى عن محمد بن خفيف؛ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْقَاضِي عَلِيِّ بْنِ أَحمد، فَقَالَ لِي: يَا أَبا (8) عَبْدِ اللَّهِ! قلت (9): لبيك أَيها القاضي، فقال (10): هَاهُنَا أَحكي (11) لَكُمْ حِكَايَةً تَحْتَاجُ أَن (12) تَكْتُبَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ. فَقُلْتُ: أَيها الْقَاضِي! أَما الذَّهَبُ فَلَا أَجده، وَلَكِنِّي أَكتبها بِالْحِبْرِ الْجَيِّدِ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنه قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحمد بْنِ حَنْبَلٍ: إِنَّ الْحَارِثَ المُحَاسِبي يَتَكَلَّمُ فِي عُلُومِ الصُّوفِيَّةِ، وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْآيِ، فَقَالَ أَحمد: أَحب أَن أَسمع كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَجمعك مَعَهُ. فَاتَّخَذَ دَعْوَةً، وَدَعَا الْحَارِثَ وَأَصْحَابَهُ، وَدَعَا أَحمد. فَجَلَسَ أحمد (13) بِحَيْثُ يَرَى الْحَارِثَ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فتقدَّم وصلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وأَحضر الطَّعَامَ، فَجَعَلَ يأْكل وَيَتَحَدَّثُ معهم، فقال أَحمد: هذا من السنة.

(1) قوله: "في دعوته" من (خ) فقط.

(2)

قوله: "من" ليس في (خ) و (م).

(3)

لفظ الجلالة: "الله" ليس في (م).

(4)

في (خ) و (م): "في شعر".

(5)

في (غ): "طعام".

(6)

علق رشيد رضا هنا بقوله: هذا خبر "بأن" في قول: بأن من دعى. اهـ.

(7)

في (م): "الميزان" وكتب في الحاشية: "لعله الجيران".

(8)

في (م): "فقال لي أبا".

(9)

في (ر) و (غ): "فقلت".

(10)

في (خ): "قال".

(11)

قوله: "أحكي" من (خ) فقط.

(12)

قوله: "أن" من (خ) فقط.

(13)

قوله: "أحمد" ليس في (خ) و (م).

ص: 137

فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ وَغَسَلُوا أَيديهم جَلَسَ الْحَارِثُ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَراد مِنْكُمْ أَن يسأَل شَيْئًا فليسأَل، فَسُئِلَ عَنِ الإِخلاص، وعن الرياءِ، ومسائل كثيرة فأجاب عنها (1)، واستشهد بِالْآيِ وَالْحَدِيثِ، وأَحمد يَسْمَعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا من ذلك. فلما مرَّ (2) هَوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ أَمر الْحَارِثُ قَارِئًا يقرأُ شَيْئًا من القرآن على الحَدْرِ (3)، فقرأَ، فبكى بعضهم وانْتَحَبَ آخَرُونَ، ثُمَّ سَكَتَ القارئُ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ، ثُمَّ قَامَ إِلى الصَّلَاةِ. فَلَمَّا أَصبحوا قال أَحمد: قد كان بلغني (4) أَن ها هنا مَجَالِسَ لِلذِّكْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فإِن كَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ فَلَا أُنكر مِنْهَا شَيْئًا (5).

فَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَن أَحوال الصُّوفِيَّةِ تُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وأَن مَجَالِسَ الذِّكْرِ لَيْسَتْ مَا زَعَمَ هؤلاءِ، بَلْ مَا تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وأَما (6) مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ فَهُوَ مما يُنكر.

(1) قوله: "فأجاب عنها" ليس في (خ).

(2)

قوله: "مرّ" في موضعه بياض في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولعل الساقط كلمة "مضى"، يقال: مضى هدء، وهدى من الليل، وجئتك بعد هدء من الليل. اهـ.

(3)

في (غ) و (ر): "الحذَر"، وفي (خ) يشبه أن تكون:"الحدو"، والمثبت من (م).

(4)

في (غ) و (ر): "يبلغني".

(5)

هذه الحكاية أخرجها الحاكم ـ كما في "ميزان الاعتدال"(1/ 430)، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (2/ 279) ـ، فقال: سمعت أحمد بن إسحاق الصِّبْغي؛ سمعت إسماعيل بن إسحاق السراج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه

، ثم ذكر الحكاية، وفيها: ثم ابتدأ رجل منهم وسأل الحارث، فأخذ في الكلام ـ وكأن على رؤوسهم الطير ـ، فمنهم من يبكي، ومنهم من يخنّ، ومنهم من يزعق، وهو في كلامه، فصعدت الغرفة، فوجدت أحمد قد بكى حتى غُشي عليه

، إلى أن قال: فلما تفرقوا قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى هذا فلا أرى لك صحبتهم.

وأخرجها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 214) من طريق محمد بن نعيم الضّبّي ـ وهو أبو عبد الله الحاكم ـ، عن أحمد بن إسحاق الصبغي، به.

قال الذهبي عقب ذكره لها في "الميزان": "قلت: إسماعيل وثّقه الدارقطني، وهذه حكاية صحيحة السند منكرة، لا تقع على قلبي، أستبعد وقوع هذا من مثل أحمد".

(6)

في (ر) و (غ): "وأن".

ص: 138

وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ المُقْتدى بِهِمْ (1)، فإِذاً لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هؤلاءِ المتأَخِّرون (2)؛ إِذ بَايَنُوا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

والأَمثلة فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ لَوْ تُتُبِّعَتْ لَخَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وإِنما ذَكَرْنَا أَمثلة تبيِّن مِنَ اسْتِدْلَالَاتِهِمُ الْوَاهِيَةِ مَا يُضَاهِيهَا، وَحَاصِلُهَا الْخُرُوجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ العلماءُ، وَبَيَّنَهُ الأَئمة، وَحَصَرَ أَنواعه الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

وَمَنْ نَظَرَ إِلى طُرُقِ (3) أَهل الْبِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لأَنها سَيَّالة لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وعلى (4) وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زائغٍ وكافرٍ أَن يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وكفرِهِ؛ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلى الشَّرِيعَةِ.

فَقَدْ رأَينا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنه اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ؛ كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ (5) عيسى مع الله في الربوبية (6) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (7)، واستدل

(1) لكن أنكر عليه الإمام أحمد وبعض أئمة عصره أموراً ظهرت منه. ذكر الخطيب في "تاريخه"(8/ 215 ـ 216) أن أبا القاسم النصراباذي قال: "بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى في دار ببغداد ومات فيها، ولم يصلّ عليه إلا أربعة نفر".

وذكر عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه قال: "شهدت أبا زرعة ـ وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه ـ، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب! هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمين، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتونا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحمن الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع! ".

(2)

في (ر) و (غ): "لهؤلاء المتأخرين".

(3)

في (خ): "طريق".

(4)

في (خ): "وعلى كل".

(5)

في (غ): "تشريع".

(6)

قوله: "في الربوبية" ليس في (خ) و (م).

(7)

سورة النساء: الآية (171).

ص: 139

على كونهم (1) مِنْ (2) أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ (3) تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (4) الْآيَةَ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (5). وبعض الحلولية استدل على قوله بقول الله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (6). والتناسُخِيّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} (7).

وكذلك يمكن (8) كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، أَو حَرَّفَ المَنَاطَات، أَو حمَّل الآيات مالا تحتمله عند السلف الصالح، أَو تمسَّك بالواهية من (9) الأحاديث، أَو أَخذ (10) الأَدلة (11) ببادي الرأْي: أَن (12) يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَو قَوْلٍ أَو اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ أَو حَدِيثٍ لا يعوز ذلك (13) أَصلاً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ كُلِّ فِرْقَةٍ شُهِرَتْ بِالْبِدْعَةِ عَلَى بِدْعَتِهَا بِآيَةٍ أَو حَدِيثٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ـ، وَسَيَأْتِي لَهُ نَظَائِرُ أَيضاً إِن شاءَ اللَّهُ. فَمَنْ طَلَبَ خَلَاصَ نَفْسِهِ تثبَّت حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَمَنْ تَسَاهَلَ رَمَتْهُ أَيدي الْهَوَى فِي مَعَاطِبَ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا، إِلا مَا شاءَ الله.

(1) قوله: "كونهم من" سقط من (م).

(2)

في (خ): "أن الكفار" بدل "كونهم".

(3)

في (ر) و (غ): "بقوله".

(4)

سورة البقرة: الآية (62).

(5)

سورة البقرة: الآيتان (47 و122).

(6)

سورة الحجر: الآية (29)، وسورة ص: الآية (72).

(7)

سورة الانفطار: الآية (8). ووقع في (غ): "ربك" بدل "ركبك".

(8)

قوله: "يمكن" ليس في (خ).

(9)

قوله: "من" ليس في (خ).

(10)

في (غ): "وأخذ".

(11)

في (خ): "بالأدلة".

(12)

في (خ): "له أن".

(13)

في (خ): "لا يفوز بذلك".

ص: 140