المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ وَمِنْهَا: بناءُ (1) طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تأْويلات لَا - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ وَمِنْهَا: بناءُ (1) طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تأْويلات لَا

‌فَصْلٌ

وَمِنْهَا: بناءُ (1) طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تأْويلات لَا تُعْقَلُ يَدَّعُونَ فِيهَا أَنَّهَا هِيَ (2) الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ، لَا مَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيُّ مِنْهَا (3)، مُسْنَدَةً (4) عِنْدَهُمْ إِلى أَصل لَا يُعْقَلُ، وذلك أَنهم فيما ذكر العلماءُ: قَوْمٌ أَرادوا إِبطال الشَّرِيعَةِ (5)، جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وإِلقاءَ ذلك فيما بين المسلمين (6) لينحلَّ الدِّينُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ إِلقاء ذَلِكَ صَرَاحًا، فيُرَدُّ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَتَمْتَدُّ (7) إليهم أَيدي الحكام، فصرفوا عنايتهم (8) إِلَى التَّحَيُّل عَلَى مَا قَصَدُوا بأَنواع مِنَ الحيل، من جملتها: صرف الهمم (9) عن (10) الظَّوَاهِرِ، إِحَالَةً عَلَى أَن لَهَا بَوَاطِنَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وأَن الظَّوَاهِرَ غَيْرُ مُرَادَةٍ. فَقَالُوا: كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الظَّوَاهِرِ فِي الكتاليف وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهِيَ أَمثلة وَرُمُوزٌ إِلَى بَوَاطِنَ.

فَمِمَّا زَعَمُوا فِي الشَّرْعِيَّاتِ: أَنَّ الْجَنَابَةَ مُبَادَرَةُ الدَّاعِي لِلْمُسْتَجِيبِ (11) بإِفشاءِ سِرٍّ إِليه قَبْلَ أَن يَنَالَ رُتْبَةَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَمَعْنَى (12) الْغُسْلِ: تَجْدِيدُ الْعَهْدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَمَعْنَى مجامعة البهيمة مفاتحة (13) من لا عهد له

(1) في (غ) و (ر): "فناء".

(2)

قوله: "هي" ليس في (غ) و (ر) و (م).

(3)

قوله: "منها" سقط من (خ).

(4)

في (م): "مستندة".

(5)

قوله: "الشريعة" مكرر في (غ).

(6)

في (خ) و (م): "الناس" بدل "المسلمين".

(7)

في (غ) و (ر): "تمتد".

(8)

في (خ): "أعناقهم".

(9)

في (خ): "الهم".

(10)

في (خ): "من".

(11)

قوله: "للمستجيب" ليس في (غ).

(12)

في (غ) و (ر): "وهي".

(13)

في (خ): "مقابحة".

ص: 74

ولم يؤدّ شيئاً من صدقة النجوى ـ وهي مائة وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَهُمْ ـ. قَالُوا: فَلِذَلِكَ أَوجب الشَّرْعُ الْقَتْلَ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا (1)، وإِلا فَالْبَهِيمَةُ مَتَى يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهَا؟

وَالِاحْتِلَامُ (2): أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ إِلى إفشاءِ السِّرِّ فِي غَيْرِ محلِّه، فعليه الغسل؛ أَي: تجديد المعاهدة، والطهور (3): هُوَ التَّبَرُّؤُ مِنَ اعْتِقَادِ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. وَالتَّيَمُّمُ: الأَخذ مِنَ المأْذون إِلَى أَن يَسْعَدَ (4) بِمُشَاهَدَةِ (5) الدَّاعِي وَالْإِمَامِ (6). وَالصِّيَامُ: هُوَ الإِمساك عَنْ كَشْفِ السِّرِّ.

وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الإِفك كثير من الأُمور الإِلهية، وأُمور التَّكْلِيفِ، وأُمور الْآخِرَةِ، وَكُلُّهُ (7) حَوْمٌ عَلَى إِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، إِذْ هُمْ ثَنَوِيَّةٌ وَدَهْرِيَّة وإباحِيَّة، مُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّةِ (8) وَالشَّرَائِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُمْ مُنْكِرُونَ لِلرُّبُوبِيَّةِ (9)، وَهُمُ المُسَمَّون بِالْبَاطِنِيَّةِ (10).

وَرُبَّمَا تمسَّكوا بالحروف والأَعداد؛ كقولهم (11): إن (12) الثقب (13) في (14) رأَس الآدمي سبع، والنجوم (15) السَّيَّارة سبعة (16)، وأَيام الأُسبوع سبعة (15)، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَن دُورَ الأَئمة سَبْعَةٌ سبعة (17)، وبه يتمّ. وأَن

(1) في (خ): "به".

(2)

في (م): "والاستلام".

(3)

في (خ): "والطهر".

(4)

في (غ) يشبه أن تكون: "يشهد" بدل "يسعد".

(5)

في (م): "مشاهدة".

(6)

في (م): "أو الإمام".

(7)

في (غ): "وكلها".

(8)

في (م): "للتوبة".

(9)

في (غ): "للرسل".

(10)

علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: انقسمت الباطنية إلى عدة فرق، يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة، والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة في مجاز ولا كناية، والقول بإمام معصوم، وقد يسمونه باسم آخر، ويجعلونه بعد ذلك إلهاً، وآخر فرقهم البابية والبهائية. اهـ.

(11)

قوله: "كقولهم" ليس في (خ) و (م).

(12)

في (خ): "بأن".

(13)

في (م): "النقب".

(14)

في (غ) و (ر) و (م): "على" بدل "في".

(15)

في (خ): "والكواكب" بدل "والنجوم".

(16)

في (خ) و (م): "سبع".

(17)

قوله: "سبعة" الثانية ليس في (خ).

ص: 75

الطبائع أَربع، وفصول السنة أربعة (1)، فدل على أن الأصول (2) الأَربعة هِيَ (3): السَّابِقُ وَالتَّالِي ـ الْإِلَهَانِ (4) عِنْدَهُمْ ـ، وَالنَّاطِقُ والأساس ـ وهما الإِمامان ـ. والبروج اثنا عشر، فدل (5) على الحجج الاثني عَشَرَ (6)، وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلى أَنواع مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَجَمِيعُهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَابَلُ بِالرَّدِّ؛ لأَن كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ سِوَى هَؤُلَاءِ رُبَّمَا (7) يَتَمَسَّكُونَ بِشُبْهَةٍ تَحْتَاجُ (8) إِلَى النَّظَرِ فِيهَا مَعَهُمْ، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ خَلَعُوا فِي الْهَذَيَانِ الرِّبْقَةَ، وَصَارُوا (9) عُرْضَةً للَّمز، وَضُحْكَةً لِلْعَالِمِينَ. وَإِنَّمَا يَنْسِبُونَ (10) هَذِهِ الأَباطيل إِلى الإِمام الْمَعْصُومِ الَّذِي زعموه، وإبطال هذه الْإِمَامَةِ (11) مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ المتكلِّمين، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ.

فَلَا يَخْلُو أَن يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِما من جهة دعوى بالضرورة وَهُوَ مُحَالٌ (12)؛ لأَن الضَّرُورِيَّ هُوَ (13) مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ عِلْمًا وَإِدْرَاكًا، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ.

وإما من جهة الإِمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأْويلات، فيقال (14) لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ: مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى تصديق الإمام المعصوم دون (15) تصديق محمد صلى الله عليه وسلم مع (16) المعجزة، وليس لإمامك معجزة؟ والقرآن (17) يَدُلُّ عَلَى أَن الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ، لَا مَا زَعَمْتَ. فَإِنْ قَالَ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ رُمُوزٌ إِلَى بواطن فهمها الإِمام (18) المعصوم، ولم يفهمها الناس،

(1) في (خ) و (م): "أربع".

(2)

في (خ): "أصول".

(3)

في (غ) و (ر): "وهي".

(4)

في (غ): "الإمامان" ويشبه أن تكون هكذا في (ر).

(5)

في (خ): "يدل".

(6)

في (خ) و (م): "على أن الحجج اثنا عشر".

(7)

في (خ): "وربما".

(8)

في (غ) و (ر): "يحتاج".

(9)

في (م): "صاروا".

(10)

في (غ) و (ر): "يسندون".

(11)

في (خ): "وإبطال الأئمة".

(12)

في (غ) و (ر): "الضرورة وإما محال".

(13)

قوله: "هو" من (خ) فقط.

(14)

قوله: "فيقال" سقط من (م)، وفي (خ)"فنقول".

(15)

قوله: "تصديق الإمام المعصوم دون" ليس في (خ)، وقوله:"المعصوم" سقط من (غ) و (ر).

(16)

في (خ): "سوى" بدل "مع".

(17)

في (خ) و (م): "فالقرآن".

(18)

قوله: "الإمام" ليس في (غ) و (ر).

ص: 76

فَتَعَلَّمْنَاهَا مِنْهُ. قِيلَ لَهُمْ: مِنْ أَي جِهَةٍ تعلمتموها منه (1)؟ أَبمشاهدة قلبه بالعين؟ أَم (2) بسماع منه؟ فلا بُدَّ (3) مِنْ الِاسْتِنَادِ إِلى السَّمَاعِ بالأُذن. فَيُقَالُ: فَلَعَلَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ، وَلَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ، فَلَا يُوثَقُ بِمَا فَهِمْتَ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ. فإِن قَالَ: صَرَّحَ بِالْمَعْنَى (4)، وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُهُ ظَاهِرٌ لَا رَمْزَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ ظَاهِرُهُ. قِيلَ لَهُ (5): وَبِمَاذَا عَرَفْتَ قَوْلَهُ لك (6): إِنه ظاهر لا رمز فيه، أَنه (7) كَمَا قَالَ؟ إِذ يُمْكِنُ أَن يَكُونَ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا (8)، فَلَا يَزَالُ الْإِمَامُ يُصَرِّحُ بِاللَّفْظِ وَالْمَذْهَبُ يَدْعُو إِلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ رَمْزًا. وَلَوْ (9) فَرَضْنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَنْكَرَ الْبَاطِنَ، فَلَعَلَّ تَحْتَ إِنكاره رَمْزًا (10) لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا (11)، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الظَّاهِرِ على (12) أَنه لَمْ يَقْصِدْ إِلا الظَّاهِرَ، لَاحْتَمَلَ أَن يكون في طلاقه رمز هو بَاطِنُهُ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فإِن قَالَ: ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى حَسْمِ بَابِ التَّفْهِيمِ. قِيلَ لَهُ (13): فأَنْتم حسمتموه بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فإِن الْقُرْآنَ دَائِرٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْحَشْرِ، وَالنَّشْرِ، والأَنبياء، وَالْوَحْيِ، وَالْمَلَائِكَةِ، مُؤَكَّدًا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَسَمِ، وأَنتم تَقُولُونَ: إِن ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّ تَحْتَهُ رَمْزًا. فإِن جَازَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمصلحةٍ وسرٍّ لَهُ فِي الرَّمْزِ؛ جَازَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْصُومِكُمْ أَنْ يَظْهَرَ لَكُمْ خِلَافُ مَا يُضْمِرُهُ لِمَصْلَحَةٍ وسرٍّ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ.

قَالَ أَبو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ (14) رحمه الله (15): يَنْبَغِي أَن يَعْرِفَ الإِنسان أَن رُتْبَةَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ هِيَ (16) أَخسُّ مِنْ رُتْبَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِ الضَّلَالِ؛ إذ لا

(1) قوله: "منه" ليس في (غ).

(2)

في (خ): "أو".

(3)

في (خ): "ولا بد".

(4)

في (غ): "بالمعاني".

(5)

قوله: "له" ليس في (غ) و (ر).

(6)

قوله: "لك" ليس في (خ).

(7)

في (خ): "بل أنه".

(8)

قوله: "أيضاً" ليس في (غ) و (ر).

(9)

قوله: "لو" ليس في (غ) و (ر).

(10)

في (م): "رمز".

(11)

من قوله: "فلا يزال الإمام" إلى هنا سقط من (خ).

(12)

قوله: "على" ليس في (خ).

(13)

قوله: "له" من (خ) فقط.

(14)

قوله: "الغزالي" من (خ) فقط.

(15)

في "فضائح الباطنية"(ص52).

(16)

قوله: "هي" من (خ) فقط.

ص: 77

تَجِدُ (1) فِرْقَةً تَنْقُضُ مَذْهَبَهَا بِنَفْسِ الْمَذْهَبِ سِوَى هذه الفرقة (2) الَّتِي هِيَ الْبَاطِنِيَّةُ؛ إِذ مَذْهَبُهَا إِبطال النَّظَرِ، وتغيير الأَلفاظ عن موضوعاتها (3) بِدَعْوَى الرَّمْزِ، وَكُلُّ مَا يُتَصَوَّرُ أَن تَنْطِقَ بِهِ أَلسنتهم فإِما نَظَرٌ أَو نَقْلٌ، أَما النظر فقد أَبطلوه، وأَما النقل فَقَدْ جوَّزوا أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ مُعْتَصِمٌ (4)، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْعَوَاصِمِ"(5) مأْخذاً آخَرَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَسهل مِنْ هَذَا ـ وَقَالَ: إِنهم (6) لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ ـ، وَهُوَ أَن يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَدْعُونَهُ السُّؤَالَ بِـ"لِمَ؟ " خَاصَّةً، فَكُلُّ مَنْ وَجَّهْتَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ حكاية ظريفة يحسن موقعها هاهنا (7).

قال ابن العربي (8): خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي عَلَى الْفِطْرَةِ، فَلَمْ أَلْقَ في طريقي إلا مهتدياً، حتى بَلَغْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ ـ يَعْنِي الْإِمَامِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ مِنْ فرق الشيعة ـ، فهي أول بدعة لقيت، فلو فجأتني بدعة مشتبهة كالقول بخلق القرآن، أَوْ نَفْيِ الصِّفَاتِ، أَوِ الْإِرْجَاءِ؛ لَمْ آمَنْ الشيطان. فَلَمَّا رَأَيْتُ حَمَاقَاتِهِمْ أَقَمْتُ عَلَى حَذَرٍ، وَتَرَدَّدْتُ فِيهَا عَلَى أَقْوَامٍ أَهْلِ عَقَائِدَ سَلِيمَةٍ، وَلَبِثْتُ بَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ فوردت بيت المقدس، فألفيت فيها ثمانياً وعشرين حلقة ومدرستين: مدرسة للشافعية بباب الأسباط، وأخرى للحنفية، وكان فيه من رؤوس العلماء، ورؤوس الْمُبْتَدِعَةِ، وَمِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَثِيرٌ، فَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَنَاظَرْتُ كُلَّ طَائِفَةٍ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا أَبِي بكر الفهري وغيره من أهل السنة.

(1) في (م): "لا نجد".

(2)

قوله: "الفرقة" ليس في (خ) و (م).

(3)

في (خ): "موضوعها".

(4)

في (غ): "معصوم".

(5)

صفحة (44).

(6)

في (غ) و (ر): "إنه".

(7)

في (غ) و (ر): "هاهنا موقعها".

(8)

في "العواصم"(ص45 ـ 53)، وسبق أن أورد المصنف كلام ابن العربي هذا في المجلد الأول (ص260)، مع بعض الاختلاف، ولم ترد هذه القصة في (خ) و (م)؛ اكتفاء بورودها في أول موضع.

ص: 78

ثُمَّ نَزَلْتُ إِلَى السَّاحِلِ لِأَغْرَاضٍ، وَكَانَ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ النِّحَلِ الْبَاطِنِيَّةِ والإِمامية، فَطُفْتُ فِي مُدُنِ السَّاحِلِ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَنَزَلْتُ عَكَّا (1)، وَكَانَ رَأْسَ الإِمامية بِهَا حينئذٍ أَبُو الْفَتْحِ العَكِّي، وَبِهَا مِنْ أَهْلِ السنة شيخ يقال له: الفقيه الدبيقي، فَاجْتَمَعْتُ بِأَبِي الْفَتْحِ فِي مَجْلِسِهِ وَأَنَا ابْنُ الْعِشْرِينَ، فَلَمَّا رَآنِي صَغِيرَ السِّنِّ، كَثِيرَ الْعِلْمِ، متدرِّباً، وَلِعَ بِي، وَفِيهِمْ ـ لَعَمْرُ اللَّهِ! وَإِنْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ ـ انْطِبَاعٌ وَإِنْصَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالْفَضْلِ إذا ظهر، فكان لا يفارقني، ويساومني في الجدال ولا يفاترني، فتكلمت على إبطال مذهب الإمامية، والقول بالتعليم مِنَ الْمَعْصُومِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ.

وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ أسراراً وأحكاماً، والعقل لا يستقلّ بإدراكها، فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَاتَ الْإِمَامُ المبلِّغ عَنِ اللَّهِ لِأَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ هُوَ مُخَلَّد؟ فَقَالَ لِي: "مَاتَ"، وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّهُ تستَّر مَعِي. فَقُلْتُ: هَلْ خَلَفَهُ أَحَدٌ؟ فقال: خَلَفَهُ وصيُّه عَليّ. فقلت: فهل قضى بالحق وأنفذه؟ أم لا؟ قال: لم يتمكَّن بغلبة الْمُعَانِدِ. قُلْتُ: فَهَلْ أَنْفَذَهُ حِينَ قَدَرَ؟ قَالَ: مَنَعَتْهُ التَّقِيَّةُ وَلَمْ تُفَارِقْهُ إِلَى الْمَوْتِ، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى، فَلَمْ يمكن إلاّ المُدَاراة لِئَلَّا تَنْفَتِحَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الِاخْتِلَالِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ المداراة حق أم لا؟ قال: بَاطِلٌ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ. قُلْتُ: فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ؟ قَالَ: إِنَّمَا تُغْنِي الْعِصْمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، قُلْتُ: فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ أَمْ لَا؟ قال: لا. قلت: فالدين مهمل، والحق خامل؟ قَالَ: سَيَظْهَرُ. قُلْتُ: بِمَنْ؟ قَالَ: بِالْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ الدَّجَّالُ؟ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ضَحِكَ، وَقَطَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى غَرَضٍ مِنِّي لِأَنِّي خفت أن أفحمه فَيَنْتَقِمُ مِنِّي فِي بِلَادِهِ.

ثُمَّ قُلْتُ: وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْعَزَ إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ فَقَدْ ضيَّع فَلَا عِصْمَةَ لَهُ. وَأَعْجَبُ مِنْهُ: أن الباري تعالى

(1) وهي بلد على ساحل بحر الشام كما في "معجم البلدان"(4/ 143).

ص: 79

ـ عَلَى مَذْهَبِهِ ـ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلا بمعلم، وأرسله عاجزاً مضعوفاً، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ مَا عَلِمَ، فَكَأَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ وَمَا بَعَثَهُ. وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُ وَجَوْرٌ، لَا سيَّما عَلَى مَذْهَبِهِمْ. فَرَأَوْا مِنَ الْكَلَامِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ بِقَائِمَةٍ، وَشَاعَ الْحَدِيثُ، فَرَأَى رَئِيسُ الْبَاطِنِيَّةِ المُسَمَّيْن بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعِي. فَجَاءَنِي أَبُو الْفَتْحِ إلى مجلس الفقيه الدبيقي، وقال لي: إِنَّ رَئِيسَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ رَغِبَ فِي الْكَلَامِ مَعَكَ، فقلت: أنا مشغول، فقال: هاهنا مَوْضِعٌ مرتَّب قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحْرَسُ الطَّبَرَانيين ـ مَسْجِدٌ فِي قَصْرٍ عَلَى الْبَحْرِ ـ، وَتَحَامَلَ عَلَيَّ، فقمت ما بين حشمة وحسبة، ودخلنا قصر الْمَحْرَس، وصعدنا إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي زَاوِيَةِ الْمَحْرَسِ المشرقية، فرأيت النكراء فِي وُجُوهِهِمْ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قَصَدْتُ جِهَةَ الْمِحْرَابِ، فَرَكَعْتُ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، لَا عَمَلَ لِي فِيهِمَا إِلَّا تَدْبِيرُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْهُمْ. فَلَعَمْرُ الَّذِي (1) قَضَى عَلَيَّ بِالْإِقْبَالِ إِلَى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِنْ كُنْتُ رَجَوْتُ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أبداً، ولقد كنت أنظر إلى الْبَحْرِ يَضْرِبُ فِي حِجَارَةٍ سُودٍ مُحَدَّدَةٍ تَحْتَ طَاقَاتِ الْمَحْرَسِ، فَأَقُولُ: هَذَا قَبْرِي الَّذِي يَدْفِنُونِي فِيهِ، وَأُنْشِدُ فِي سِرِّي:

أَلَا هَلْ إِلَى الدُّنْيَا مَعَادٌ؟ وَهَلْ لَنَا

سِوَى الْبَحْرِ قَبْرٌ؟ أَوْ سِوَى الْمَاءِ أَكْفَانُ

وَهِيَ (2) كَانَتِ الشِّدَّةَ الرابعة من شدائد عمري التي أَنْقَذَنِي اللَّهُ مِنْهَا، فَلَمَّا سَلَّمْتُ اسْتَقْبَلْتُهُمْ وَسَأَلْتُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ عَادَةً، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ إليَّ نَفْسِي، وَقُلْتُ: أَشْرَفُ مِيتَةٍ فِي أَشْرَفِ مَوْطِنٍ أُنَاضِلُ فِيهِ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ لِي أَبُو الْفَتْحِ ـ وَأَشَارَ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ ـ: هَذَا سَيِّدُ الطائفة ومقدَّمها، فدعوت له وسكتّ، فبدرني وقال لي: قد بلغتني مجالسك، وانتهى إِلَيَّ كَلَامُكَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: قَالَ اللَّهُ وَفَعَلَ الله، فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ؟! أَخْبِرْنِي وَاخْرُجْ عَنْ هَذِهِ المَخْرَقَة (3) الَّتِي جَازَتْ لك على هذه

(1) في (ر): "فلعمر الله"، ثم صوبت في الهامش.

(2)

قوله: "وهي" من (ر) فقط.

(3)

أي: الكذب والاختلاق.

ص: 80

الطَّائِفَةِ الضَّعِيفَةِ وَقَدِ احْتَدَّ نَفَساً، وَامْتَلَأَ غَيْظًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهُ لَا يُتِمُّ الْكَلَامَ إِلَّا وَقَدِ اخْتَطَفَنِي أَصْحَابُهُ قَبْلَ الْجَوَابِ. فَعَمَدْتُ ـ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ـ إِلَى كِنَانَتِي، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِهِ فَسَقَطَ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ.

وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ الْجُرْجَانِيَّ قَالَ: كُنْتُ أُبَغِّضُ النَّاسَ فِيمَنْ يَقْرَأُ عِلْمَ الْكَلَامِ، فدخلت يوماً إلى الرَّيّ (1)، فدخلت جَامِعَهَا أوَّل دُخُولِي، وَاسْتَقْبَلْتُ سَارِيَةً أَرْكَعُ عِنْدَهَا، وَإِذَا بِجِوَارِي رَجُلَانِ يَتَذَاكَرَانِ عِلْمَ الْكَلَامِ، فتطيَّرت بِهِمَا، وَقُلْتُ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُ هَذَا الْبَلَدَ سَمِعْتُ فِيهِ مَا أَكْرَهُ، وَجَعَلْتُ أخفِّف الصَّلَاةَ حَتَّى أُبْعِدَ عَنْهُمَا، فَعَلِقَ بِي مِنْ (2) قَوْلِهِمَا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةَ أَسْخَفُ خَلْقِ اللَّهِ عُقُولًا، وينبغي للنحرير ألا يتكلَّف لَهُمْ دَلِيلًا، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُمْ بِـ"لِمَ؟ " فَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، وسلَّمت مُسْرِعًا.

وَشَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ كَشَفَ رَجُلٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقِنَاعَ فِي الْإِلْحَادِ، وَجَعَلَ يُكَاتِبُ وَشْمَكِيرَ الْأَمِيرَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ دِينَ مُحَمَّدٍ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، فَإِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ، وانجرَّت الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَارُوا منهم جلاً لَهُ دَهَاءٌ وَمُنَّة (3)، فَوَرَدَ عَلَى وَشْمَكِيرَ رَسُولًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَمِيرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ أَنْ تَتَخَصَّصَ عَنِ الْعَوَامِّ، وَلَا تقلِّد في عقيدتها، وإنما حقهم أن يفحصوا عن البراهين. فقال له وَشْمَكِيرُ: اخْتَرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي، وَلَا أُنْتَدَبُ لِلْمُنَاظَرَةِ بِنَفْسِي، فَيُنَاظِرُكَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَقَالَ لَهُ الْمُلْحِدُ: أَخْتاَرُ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا كان إماماً في الحديث، ولكن كان

(1) لرَّيّ: مدينة مشهورة، من أمهات البلاد، وأعلام المدن، كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محط الحاج على طريق السابلة، وقضية بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مِئَةٌ وستون فرسخاً، وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخاً اهـ من "معجم البلدان"(3/ 116).

(2)

قوله: "من" ليس في (غ).

(3)

الْمُنَّةُ: القوَّة، وخصّ بعضهم به قوّة القلب. "لسان العرب"(13/ 415).

ص: 81

وشمكير ـ بعامِّيَّتِهِ ـ يعتقد فيه أنه أعلم وجه الْأَرْضِ (1) بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ.

فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: ذَلِكَ مُرَادِي، رَجُلٌ جيِّد. فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بجُرْجان (2) لِيَرْحَلَ إِلَيْهِ إِلَى غَزْنَةَ (3). فَلَمْ يَبْقَ أحد من العلماء إلاّ أَيِسَ مِنَ الدِّين، وَقَالَ: سَيَبْهَتُ الإسماعيليُّ الكافرُ مَذْهَبًا الإسماعيليَّ الحافظَ نسباً، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا للملِكِ: إِنَّهُ لَا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم، فلجأوا إِلَى اللَّهِ فِي نَصْرِ دِينِهِ.

قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَلَمَّا جَاءَنِي الْبَرِيدُ، وَأَخَذْتُ فِي الْمَسِيرِ، وَتَدَانَتْ بي الدَّارُ؛ قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ! وَكَيْفَ أُنَاظِرُ فِيمَا لَا أَدْرِي؟ هَلْ أَتَبَرَّأُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَأُرْشِدُهُ إلى من يحسن الجَدَلَ، ويعلم حجج الله على دينه؟ وندمت على ما سلف من عمري ولم أَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، ثُمَّ أَذْكَرَنِي اللَّهُ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِجَامِعِ الرَّيّ، فَقَوِيَتْ نَفْسِي، وعَوَّلت عَلَى أَنْ أَجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتِي، وَبَلَغْتُ الْبَلَدَ، فَتَلَقَّانِي الْمَلِكُ ثم جمع الْخَلْقِ، وَحَضَرَ الإسماعيليُّ الْمَذْهَبِ مَعَ الإسماعيليِّ النَّسَبِ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْبَاطِنِيِّ: أُذْكُرْ قَوْلَكَ يَسْمَعُهُ الْإِمَامُ. فَلَمَّا أَخَذَ فِي ذِكْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ، قَالَ لَهُ الحافظ:"لِمَ"؟ فلما سَمِعَهَا الْمُلْحِدُ قَالَ: هَذَا إِمَامٌ قَدْ عَرَفَ مَقَالَتِي، فبُهِتَ.

قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرْتُ بِقِرَاءَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْإِسْلَامِ (4).

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحِينَ انتهى بي الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ قُلْتُ: إِنْ كَانَ في الأجل نساء فَهَذَا شَبِيهٌ بِيَوْمِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فوجَّهت إِلَى أَبِي الفتح الإمامي، وَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ فِي لَا شَيْءَ، ولو خرجت من عَكّا قبل أن

(1) في (غ): "وجه الله".

(2)

جرجان: مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان. "معجم البلدان"(2/ 119).

غَزْنَةُ: مدينة عظيمة، وولاية واسعة في طرف خراسان، وهي الحدّ بين الهند وخراسان "معجم البلدان"(4/ 201).

(3)

انظر تعليق الشيخ محمد الشقير على هذا الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب (ص268).

ص: 82

أَجْتَمِعَ بِهَذَا الْعَالِمِ مَا رَحَلْتُ إِلَّا عَرِيًّا عن نادرة الأيام، انظر إلى حذفه بالكلام ومعرفته؛ قَالَ لِي: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟ وَلَا يسأل مثل هَذَا إِلَّا مِثْلُهُ. وَلَكِنْ بَقِيَتْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ لا بد أَنْ نَأْخُذَهَا الْيَوْمَ عَنْهُ، وَتَكُونُ ضِيَافَتُنَا عِنْدَهُ. لِمَ قُلْتَ:"أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ"؟ فَاقْتَصَرْتَ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى "أَيِّ"، وَتَرَكْتَ الْهَمْزَةَ وهل وكيف وأين وكم وما، وهي أَيْضًا مِنْ ثَوَانِي حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ، وعَدَلْتَ عَنِ اللام (1) من حروفه، فهذا سؤال ثاني عن حكمة ثانية، ولأي معنيان فِي الِاسْتِفْهَامِ، فَأَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ قَصَدْتَ بِهَا؟ ولِمَ سألتَ بِحَرْفٍ مُحْتَمِلٍ (2)؟ وَلَمْ تَسْأَلْ بِحَرْفٍ مُصَرِّحٍ بمعنى واحد؟ هل وقع ذلك منك بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ حِكْمَةٍ؟ أَمْ بِقَصْدِ حِكْمَةٍ؟ فبيِّنْها لَنَا.

فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ افْتَتَحْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَانْبَسَطْتُ فِيهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ، حَتَّى اصفرَّ آخِرًا مِنَ الوَجَل، كَمَا اسْوَدَّ أَوَّلًا مِنَ الْحِقْدِ، وَرَجَعَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ الَّذِي كَانَ عَنْ يَمِينِهِ إِلَى آخَرَ كَانَ بِجَانِبِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّبِيُّ إِلَّا بَحْرٌ زَاخِرٌ مِنَ الْعِلْمِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وهم ما رأوا أحداً به رَمَقٌ؛ لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَهُمْ، وَلَوْلَا مَكَانُنَا مِنْ رِفْعَةِ الدولة ملك الشام، وأن والي عكا كان يحظينا، مَا تخلَّصت مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ (3) أَبَدًا.

وَحِينَ سَمِعْتُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مِنْ إِعْظَامِي؛ قُلْتُ: هَذَا مَجْلِسٌ عَظِيمٌ، وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ، ولكن يتواعد إِلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقُمْتُ وَخَرَجْتُ فَقَامُوا كُلُّهُمْ مَعِي، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَلِيلًا، فَقُلْتُ: لَا، وَأَسْرَعْتُ حَافِيًا وَخَرَجْتُ عَلَى الْبَابِ أغدو حتى أشرفت على قارعة الطريق، وبقيت هنالك مُبَشِّرًا نَفْسِي بِالْحَيَاةِ، حَتَّى خَرَجُوا بَعْدِي، وَأَخْرَجُوا لي [لالكي](4)، وَلَبِسْتُهَا، وَمَشَيْتُ مَعَهُمْ مُتَضَاحِكًا، وَوَعَدُونِي بِمَجْلِسٍ آخَرَ فَلَمْ أُوْفِ لَهُمْ، وَخِفْتُ وَفَاتِي فِي وَفَائِي.

(1) في (غ) و (ر): "الام".

(2)

في (غ): "مكتمل".

(3)

في (غ): "الغادة".

(4)

في (ر) و (غ): "الألكى"، وتقدم على الصواب في (1/ 269)، وكذا هو على الصواب=

ص: 83

قال ابن العربي: وقد كان قَالَ لِي أَصْحَابُنَا النَّصْرِيَّةُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: إِنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ اجْتَمَعَ بِرَئِيسٍ مِنَ الشِّيعَةِ، فَشَكَا إِلَيْهِ فَسَادَ الْخَلْقِ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بخروج الإمام المنتظر، فقال له نصر: هل لخروجه ميقات معلوم أَمْ لَا؟ قَالَ الشِّيعِيُّ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ أبو الفتح: ومعلوم هو أم مَجْهُولٌ؟ قَالَ: مَعْلُومٌ. قَالَ نَصْرٌ: وَمَتَى يَكُونُ؟ قَالَ: إِذَا فَسَدَ الْخَلْقُ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فلم تحبسونه عن الخلق قد فَسَدَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا أَنْتُمْ، فَلَوْ فَسَدْتُمْ لَخَرَجَ، فَأَسْرِعُوا بِهِ وَأَطْلِقُوهُ مِنْ سِجْنِهِ، وَعَجِّلُوا بِالرُّجُوعِ إلى مذهبنا، فبُهِتَ. وأظن أنه سَمِعَهَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْفَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ الزَّاهِدِ. انْتَهَى مَا حَكَاهُ ابْنُ العربي عن نفسه وغيره، وفيه غُنية في هذا المقام.

وَتَصَوُّرُ الْمَذْهَبِ كافٍ فِي ظُهُورِ بُطْلَانِهِ، إِلَّا أَنه مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وبُعده عَنِ الشَّرْعِ قَدِ اعْتَمَدَهُ طَوَائِفُ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ بِدَعًا فَاحِشَةً، مِنْهَا: مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، فإِنه عَدَّ نَفْسَهُ الْإِمَامَ الْمُنْتَظَرَ، وأَنه مَعْصُومٌ، حَتَّى أَن مَنْ شَكَّ فِي عِصْمَتِهِ، أَو فِي (1) أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ المنتظر فهو كَافِرٌ.

وَقَدْ زَعَمَ ذَوُوهُ أَنه أَلَّف فِي الإِمامة كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ أَن اللَّهَ اسْتَخْلَفَ آدَمَ وَنُوحًا وإِبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عليهم السلام، وأَن مدة الخلافة

=في بعض نسخ "العواصم"، وفي بعضها:"لالكتى"، وهو صحيح أيضاً، وهو الذي أثبته المحقق. واللالكة ـ ويقال: اللالجةِ ـ: ضرب من النعال كما في حاشية د. إحسان عباس على "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (1/ 373)(ترجمة أحمد بن علي أبي الحسن البتّي، الكاتب)؛ تعليقاً على قوله: "وكان يلبس الخفين، والمبطّنة، ويتعمم العمَّة الثغرية، وإن لبس لالجة لم تكن إلا مربديّة".

ووقع في "الكامل" لابن الأثير (10/ 115): "فنصب منجنيقاً

، وخرج جماعة من العامة فأخذوه، وجرى عنده قتال كثير، فأخذ بعض العامة لالكة من رجليه فيها المسامير الكثيرة، ورمى بها أميراً يقال له: جاولي الأسدي وكبيرهم، فأصاب صدره، فوجد لذلك ألماً شديداً، وأخذ اللاكة، وعاد عن القتال إلى صلاح الدين، وقال: قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها، وألقى اللاكة، وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنَفَةً حين ضرب بهذه".اهـ.

(1)

قوله: "في" ليس في (غ) و (ر).

ص: 84

ثَلَاثُونَ سُنَّةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ فِرَق وأَهواءُ، وشُح مُطاع، وهَوًى مُتَّبع، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ برَأْيِهِ، فَلَمْ يَزَلِ الأَمر عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَاطِلُ ظَاهِرٌ وَالْحَقُّ كَامِنٌ، وَالْعِلْمُ مَرْفُوعٌ ـ كَمَا أَخبر عليه الصلاة والسلام والجهل ظاهر، لم يَبْقَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلا رَسْمُه، حَتَّى جاءَ اللَّهُ بالإِمام، فأَعاد الله بِهِ الدِّينَ ـ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:"بَدَأَ الْإِسْلَامُ (1) غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ"(2)، وَقَالَ: إِنَّ طَائِفَتَهُ هُمُ الغرباءُ، زَعْمًا مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ زَائِدٍ عَلَى الدَّعْوَى، وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ: جاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نقيَّة، لَمْ يُرَ (3) مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وأَن بِهِ قَامَتِ (4) السَّمَوَاتُ والأَرض، وَبِهِ (5) تَقُومُ، وَلَا ضِدَّ لَهُ (6)، وَلَا مِثْلَ، ولا ندّ (7)، وكذب! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا كَمَا نزَّل أَحَادِيثَ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ فِي الْفَاطِمِيِّ (8) عَلَى نفسه وأَنه هو

(1) في (خ): "الدين" بدل "الإسلام".

(2)

تقدم تخريجه (ص65).

(3)

في (م): "تر".

(4)

في (غ) و (ر): "قد قامت".

(5)

في (خ): "به".

(6)

قوله: "له" ليس في (غ).

(7)

في (غ) و (ر): "ولا ندّ ولا مثل".

(8)

يعني أحاديث المهدي، ومن أهمها: حديث ابن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وأم سلمة رضي الله عنهم.

أما حديث ابن مسعود: فيرويه عاصم بن أبي النَّجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يُبعث فيه رجل مني ـ أو: من أهل بيتي ـ يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلماً وجوراً".

أخرجه أبو داود (4281) واللفظ له، والترمذي (2230 و2231)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".

وصححه ابن حبان (6824 و6825/ الإحسان).

وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه أحمد (3/ 17، 21 ـ 22، 26 ـ 27، 28، 36، 37، 52، 70)، وأبو يعلى (987، 1128)، وابن حبان (6823، 6826)، ثلاثتهم من طريق أبي الصديق النَّاجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، ثم يخرج رجل من أهل بيتي ـ أو عترتي ـ، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً".

وسنده صحيح. وأخرجه الترمذي (2232) وحسنه.=

ص: 85

بِلَا (1) شَكٍّ.

وأَول إِظهاره لِذَلِكَ: أَنه قَامَ فِي أَصحابه خَطِيبًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الفعَّال لما يريد، القاضي بما يشاءُ، لَا رادَّ لأَمره، وَلَا معقِّب لِحُكْمِهِ، وصلى الله على النبي المبشِّر بالمهدي الذي (2) يملأُ الأَرض قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَبْعَثُهُ اللَّهُ إِذا نُسخ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وأُزيل العدل بالجور، مكانه المغرب (3) الأَقصى، وزمانه آخر الزمان (4)، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، وَنَسَبَهُ نَسَبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ظَهَرَ جَوْرُ الأُمراء، وامتلأَت الأَرض بِالْفَسَادِ، وَهَذَا آخِرُ الزَّمَانِ، وَالِاسْمُ الِاسْمُ، والنَّسَبُ النَّسَبُ، وَالْفِعْلُ الْفِعْلُ، يُشِيرُ إِلى مَا جاءَ فِي أَحاديث الفاطمي.

فلما فرغ من كلامه (5) بَادَرَ (6) إِليه مِنْ أَصحابه عَشَرَةٌ، فَقَالُوا: هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُوجَدُ إِلا فِيكَ، فأَنت الْمَهْدِيُّ، فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ أَحْدَاثًا كَثِيرَةً زِيَادَةً إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ المعلوم، والتخصيص

=وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 558)، وصححه على شرط مسلم.

وأخرجه (4/ 557) هو وأبو داود (4284) من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد.

وانظر تخريجه بتوسُّع في تعليقي على "مختصر المستدرك"(1150 و1151) إن شئت.

وأما حديث أم سلمة: فأخرجه أبو داود (4283) من طريق زياد بن بيان، عن

علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة".

وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 346) وقال: "في إسناده نظر".

وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(3/ 196) وقال: "والبخاري إنما أنكر من حديث زياد بن بيان هذا الحديث، وهو معروف به".

وأخرجه العقيلي في "الضعفاء"(2/ 75) و (3/ 254) وقال: "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به".

وأعله ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1446).

(1)

في (غ) و (ر): "غير" بدل "بلا".

(2)

قوله: "الذي" ليس في (خ).

(3)

في (خ): "بالمغرب".

(4)

في (خ): "الأزمان".

(5)

قوله: "من كلامه" ليس في (خ) و (م).

(6)

في (خ): "نادر".

ص: 86

بِالْعِصْمَةِ، ثُمَّ وُضِعَ ذَلِكَ فِي الْخُطَبِ، وضُرِبَ فِي السِّكَك، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ ثالثة الشهادتين (1)، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا، أَو شَكَّ فِيهَا، فَهُوَ كَافِرٌ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ. وَشَرَعَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ فِيهَا، وَهِيَ نَحْوٌ مَنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ كَتَرْكِ امْتِثَالِ أَمر مَنْ يَستمع أَمره، وَتَرْكِ حُضُورِ مَوَاعِظِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْمُدَاهَنَةُ إِذا ظَهَرَتْ فِي أَحد قُتِل، وأَشياءُ كثيرة.

وكان مذهبه الظَّاهِرِيَّةَ (2)، وَمَعَ ذَلِكَ فَابْتَدَعَ أَشياءَ؛ كوجوهٍ مِنَ التثويب؛ إِذ كانوا ينادون عند الصلاة بـ"تاصاليت (3) الإِسلام" و"بتقام (4) تاصاليت"(2) و"سودرتن"(5) و"باردي"(6) و"أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ"(7) وَغَيْرِهِ (8)، فَجَرَى الْعَمَلُ بِجَمِيعِهَا فِي زَمَانِ الموحِّدين، وَبَقِيَ أَكثرها بَعْدَمَا انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ، حَتَّى إِني أَدركت بِنَفْسِي فِي جَامِعِ غَرْنَاطَةَ الأَعظم الرضا عَنِ الإِمام الْمَعْصُومِ، الْمَهْدِيِّ الْمَعْلُومِ، إِلى أَن أُزيلت وبقيت أَشياءُ كثيرة غُفل عَنْهَا أَو أُغفلت (9).

وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَبو العُلَى (10) إِدريس بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْهُمْ، ظَهَرَ لَهُ قُبْحُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْابْتِدَاعَاتِ، فأَمر ـ حين استقرّ بمرَّاكش خليفة (11) ـ بإِزالة جميع ما ابتُدع

(1) في (خ) و (م): "الشهادة".

(2)

في (خ): "البدعة الظاهرية".

(3)

في (غ) و (ر): "تاصليت".

(4)

في (غ) و (ر): "وتقام"، وفي (م) يشبه أن تكون:"وبيقام".

(5)

في (خ): "وسوردين"، وفي (م):"وسودرين".

(6)

في (ر) و (غ): "وتاردي"، وسيأتي غير هذا الضبط.

(7)

ذكر أبو العباس الناصري في "الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى"(1/ 96) في ترجمة محمد بن تومرت: أنه أول من أحدث "أصبح ولله الحمد" في أذان الصبح. وانظر "معجم المناهي اللفظية" للشيخ بكر أبو زيد، لفظة "أصبح ولله الحمد"، وما سيأتي (ص259).

(8)

في (ر) و (غ): "وغير ذلك".

(9)

في (ر) و (غ): "وأغفلت".

(10)

في (خ): "العلاء"، وهو خطأ، انظر: ترجمته في "سير أعلام النبلاء"(22/ 342).

(11)

في (خ): "خليفته".

ص: 87

مِنْ قَبْلِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ رِسَالَةً إِلى الأَقطار يأَمر (1) فيها بتغيير تلك السِّيَر (2)، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وأَنه قَدْ نَبَذَ الْبَاطِلَ وأَظهر الْحَقَّ، وأَن لا مهدي إلَاّ عيسى (3)، وأَن ما ادعوا من أَنه (4) الْمَهْدِيُّ بِدْعَةٌ أَزالها، وأَسقط اسْمَ مَنْ لَا تُثْبِتُ عِصْمَتُهُ.

وَذَكَرَ أَن أَباه الْمَنْصُورَ هَمَّ بأَن (5) يَصْدَعَ بِمَا بِهِ صَدْعَ، وأَن يرقع الخرق الَّذِي رَقَعَ، فَلَمْ يُسَاعِدْهُ الأَجل لِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ وَاسْتُخْلِفَ ابْنُهُ أَبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ، وَفَدَ إِليه جَمَاعَةٌ (6) مِنْ أَهل ذلك المذهب الْمُتَسَمِّين بالموحِّدين، فَفَتَلُوا مِنْهُ فِي الذِّرْوة وَالْغَارِبِ، وَضَمِنُوا عَلَى (7) أَنفسهم الدُّخُولَ تَحْتَ طَاعَتِهِ، وَالْوُقُوفَ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُدَافَعَةَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ عَلَى شَرْطِ ذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِصْمَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالْمُخَاطَبَاتِ، وَنَقْشِ اسْمِهِ الْخَاصِّ فِي السِّكَكِ، وإِعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها بـ"تاصاليت (8) الإِسلام" عند كمال الأَذان، و"بتقام (9) تاصاليت"(8)، وَهِيَ إِقامة الصَّلَاةِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ من

(1) في (غ) و (ر): "فأمر".

(2)

في (خ): "السنن".

(3)

وهذا خطأ آخر أيضاً، ومعالجة للبدعة ببدعة أخرى؛ وهي إنكار المهدي الذي من أهل البيت، وقد صح في ذكره أحاديث، منها ما تقدم (ص85 ـ 86).

والقول بأنه لا مهدي إلا عيسى اعتُمد فيه على حديث أخرجه ابن ماجه (4039) وغيره من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري، عن أنس، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا مهدي إلا عيسى".

وهو ضعيف جداً.

فمحمد بن خالد الجندي مجهول كما في "التقريب"(5886).

والمتن منكر.

وانظر: التفصيل في تخريجه والكلام عليه في تعليقي على "مختصر المستدرك"(1095) إن شئت.

(4)

في (خ): "وأن ما ادعوه أنه".

(5)

في (غ) و (ر): "أن".

(6)

في (غ) و (ر): "جملة" بدل "جماعة".

(7)

في (غ) و (ر) و (م): "عن" بدل "على".

(8)

في (غ) و (ر) و (م): "تاصليت"، وتقدم اللفظ قبل بضعة أسطر.

(9)

في (غ) و (ر): "وتقام"، وفي (م) يشبه أن تكون:"وتيقام".

ص: 88

"سودرتن"(1)، و"قادري"(2)، وَ"أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ"، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ اسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا رَسَمَ أَبوه مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمَّا انْتَدَبَ الموحدون إِلى الطاعة اشترطوا إِعادة مَا تَرَكَ، فأَسعفوا فِيهِ، فَلَمَّا احْتَلُّوا مَنَازِلَهُمْ أَياماً وَلَمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ، وَتَوَقَّعُوا انْقِطَاعَ مَا هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ، فَجَدَّدَ تأَنيسهم بإِعادتها.

قال المؤرِّخ: فيالله! مَاذَا (3) بَلَغَ مِنْ سُرُورِهِمْ (4)! وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الِارْتِيَاحِ لِسَمَاعِ تِلْكَ الأُمور، وَانْطَلَقَتْ أَلسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد، وشملت الأَفراح الكبير منهم وَالصَّغِيرَ (5)، وَهَذَا (6) شأَن صَاحِبِ الْبِدْعَةِ أَبداً (7)، فَلَنْ يُسَرَّ بأَعظم (8) مِنَ انْتِشَارِ بِدَعَتِهِ وإِظهارها، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (9)، وَهَذَا كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بالإِمامة وَالْعِصْمَةِ الذي هو رأْي الشيعة.

(1) في (خ) و (م): "سودرين".

(2)

في (ر) و (غ): "وما ردي"، وتقدم غير هذا الضبط.

(3)

في (غ) و (ر): "إذا".

(4)

في (م): "شرورهم".

(5)

في (خ): "الأفراح منهم الكبير والصغير".

(6)

في (غ) و (ر): "هذا".

(7)

قوله: "أبداً" ليس في (خ).

(8)

في (خ) و (م): "يسرنا عظم".

(9)

سورة المائدة: الآية (41).

ص: 89