الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
فأَما إِن الْتَزَمَ أَحد ذَلِكَ (1) الْتِزَامًا، فعلى أحد (2) وَجْهَيْنِ: إِما عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً. أَلا تَرَى إِلى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا (3) يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ؛ يَقُولُ: "إِنه لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وإِنما يُسْتَخرج بِهِ مِنَ الشَّحيح"(4). وَفِي رِوَايَةٍ (5): "النَّذْرُ لَا يُقَدِّم شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّره، وإِنما يُسْتَخْرَجُ به من البخيل". وفي رواية (6) أخرى: أنه عليه السلام نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وَإِنَّمَا يُسْتَخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ"(7)؟
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (8): "لَا تَنْذُرُوا، فإِن النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وإِنما يُستخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ"(9).
وإِنما وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ تَنْبِيهًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي أَنها كَانَتْ تَنْذُرُ: إِن شَفَى الله مريضي فعليَّ صوم كذا، أو إن (10) قَدِمَ غَائِبِي، أَو إِن أَغناني اللَّهُ (11) فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا، فَيَقُولُ: لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ الله
(1) في (غ) و (ر): "ذلك أحد".
(2)
قوله: "أحد"، ليس في (خ) و (م).
(3)
قوله: "يوماً" ليس في (ر) و (غ).
(4)
أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639/ 2)، واللفظ لمسلم.
(5)
عند مسلم (1639/ 3).
(6)
عند مسلم أيضاً (1639/ 4).
(7)
من قوله: "وفي رواية أخرى" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(8)
قوله: "قال" سقط من (ر).
(9)
أخرجه البخاري (6609 و6694)، ومسلم (1640)، واللفظ له.
(10)
في (غ) و (ر): "وإن".
(11)
لفظ الجلالة: "الله" من (خ) فقط.
شيئاً، بل من قدر الله له المرض أو الصحة (1)، أَوِ الْغِنَى أَوِ الْفَقْرَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فالنذر لا يوضع (2) سبباً لغير ذلك (3)؛ كَمَا وُضِعَت صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبًا فِي الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ مَثَلًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ (4) الْعُلَمَاءُ، بَلِ النَّذْرُ وَعَدَمُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ (5) يَسْتخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ؛ بِشَرْعِيَّة الْوَفَاءِ بِهِ (6)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ} (7)، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ"(8)، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ العلماءِ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (9).
وَوَجْهُ النَّهْيِ: أَنه مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي تقدَّم الاستشهاد على كراهيته.
وأَما (10) عَلَى جِهَةِ الِالْتِزَامِ غَيْرِ النَّذْرِيِّ (11)؛ فكأَنه نَوْعٌ مِنَ الْوَعْدِ، والوفاءُ بِالْعَهْدِ (12) مَطْلُوبٌ، فكأَنه أَوجب عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ أَيضاً، وَعَلَيْهِ يأْتي مَا تقدم في (13) حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَتوا يسأَلون عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِقَوْلِهِمْ (14): أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟
…
إِلَخْ، وَقَالَ أَحدهم (15): أَما أَنا (16) فأَفعل كَذَا
…
إلى آخره (17).
وَنَحْوُهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُخبر أَن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ ولأَصومنّ النَّهَارَ مَا عِشْت (18).
(1) في (خ): "الصحة أو المرض".
(2)
في (خ): "لم يوضع".
(3)
في (خ): "لذلك" بدل "لغير ذلك".
(4)
في (غ) و (ر): "فسره" وفي (م): "ذكر".
(5)
في (ر) و (غ): "ولكن أنه".
(6)
قوله: "به" ليس في (ر) و (غ).
(7)
سورة النحل: الآية (91).
(8)
أخرجه البخاري (6696 و6700).
(9)
انظر "فتح الباري"(11/ 575).
(10)
هذا هو الوجه الثاني.
(11)
في (غ) و (ر): "النذر".
(12)
في (ر): "بالوعد".
(13)
في (خ): "من".
(14)
في (خ): "وقولهم".
(15)
من قوله: "أين نحن" إلى هنا سقط من (غ) و (م) و (ر).
(16)
في (م): "أما نحن".
(17)
تقدم تخريجه (ص147)، وانظر (ص159).
(18)
تقدم تخريج حديث عبد الله بن عمرو (ص157).
وَلَيْسَ بِمَعْنَى النَّذْرِ؛ إِذ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: "صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيام"، صم كذا، صُمْ كَذَا (1)، وَلَقَالَ لَهُ: أَوف بِنَذْرِكَ؛ لأَنه صلى الله عليه وسلم يقول (2): "مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ"(3).
فأَما الِالْتِزَامُ بِالْمَعْنَى النَّذْرِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الوفاءِ بِهِ وُجُوبًا لَا نَدْبًا ـ عَلَى مَا قَالَهُ العلماءُ ـ، وجاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَلَا نُطَوِّل (4) به.
وأَما بالمعنى الثَّانِي: فالأَدلة تَقْتَضِي الوفاءَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، ولكن لا تبلغ مبلغ الإيجاب وإن بلغت (5) مَبْلَغَ الْعِتَابِ عَلَى التَّرْكِ (6)، حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآية (7) فِي مأْخذ أَبي أُمامة (8) رضي الله عنه، فإنه لما نظر إلى ترتيب عمر رضي الله عنه (9) لِلْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً؛ كَانَ ذَلِكَ بِصُورَةِ النَّوَافِلِ (10) الرَّاتِبَةِ (11) الْمُقْتَضِيَةِ لِلدَّوَامِ فِي الْقَصْدِ الأَول، فأَمرهم بِالدَّوَامِ (12) حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَنْ عَاهَدَ ثُمَّ لَمْ يُوفِ بِعَهْدِهِ فَيَصِيرَ مُعَاتَبًا، لَكِنَّ هَذَا الْقَسَمَ عَلَى وَجْهَيْنِ (13):
الْوَجْهُ (14) الأَول: أَن يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لا يطاق، أَو مما فيه حرج ومَشَقَّة (15) فادِحَة، أَو يؤدِّي (16) إِلى تَضْيِيعِ مَا هُوَ أَولى، فهذه هي الرهبانية
(1) في (خ): "صم كذا" مرة واحدة.
(2)
في (خ): "قال".
(3)
تقدم تخريجه قبل بضعة أسطر.
(4)
في (خ): "نطيل".
(5)
قوله: "مبلغ الإيجاب وإن بلغت" ليس في (خ).
(6)
ومن هذا النوع ـ وهو العتاب على الترك وإن لم يبلغ مبلغ الإيجاب ـ: قوله صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: "يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ". أخرجه البخاري (1152)، ومسلم (1159/ 185).
(7)
في (خ): "الأدلة".
(8)
تقدم تخريج حديث أبي أمامة هذا (ص149).
(9)
من قوله: "فإنه لما نظر" إلى هنا ليس في (خ) و (م).
(10)
قوله:: "النوافل" مكرر في (ر).
(11)
في (غ): "المراتبة".
(12)
في (م): "في الدوام".
(13)
في (غ) و (ر): "أوجه".
(14)
قوله: "الوجه" ليس في (غ) و (ر).
(15)
في (خ): "أو مشقة".
(16)
قوله: "أو يؤدي" سقط من (ر) و (غ).
الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(1)، وسيأْتي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِن شاءَ اللَّهُ.
وَالْوَجْهُ (2) الثَّانِي (3): أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ تَلْحَقُ بِسَبَبِهِ الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ، أَوْ تَضْيِيعُ مَا هُوَ آكَدُ (4)، فَهَاهُنَا أَيضاً يَقَعُ النَّهْيُ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ دَلَّتِ الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةُ، وجاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ (5) تَفْسِيرُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: فشدَّدت فَشُدِّد عليَّ، وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنك لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ".
فتأَمَّلوا كَيْفَ اعْتُبِرَ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يُلْزَمُ ابْتِدَاءً: أَنْ يَكُونَ بحيث لا يشقّ عليه الدوام (6) إِلى الْمَوْتِ! قَالَ: فَصِرْتُ إِلى الَّذِي قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي (7) كُنْتُ (8) قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَعَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى (9) يَنْبَغِي أَن يُحْمَلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبي قَتَادَةَ (10) رضي الله عنه: كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يوماً؟ قال: "ويطيق ذلك أحد"؟ ثم قال في صيام (11) يوم (12) وإفطار يومين: "وَدِدْتُ أَني طُوِّقت ذَلِكَ". فَمَعْنَاهُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ: "وَدِدْتُ أَني طُوِّقت الدَّوَامَ عَلَيْهِ"، وإِلا فَقَدْ كَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَقُولُ:"إِني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِني أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي"(13).
وَفِي الصَّحِيحِ: "كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، ويفطر حتى نقول: لا يصوم"(14).
(1) تقدم تخريجه (ص147).
(2)
قوله: "والوجه" من (خ) فقط.
(3)
في (غ) و (م) و (ر): "والثاني".
(4)
في (خ): "أوكد".
(5)
تقدم تخريجه (ص158).
(6)
في (خ): "الدوام عليه".
(7)
في (خ): "أنّني".
(8)
قوله: "كنت" ليس في (خ).
(9)
قوله: "المعنى" ليس في (غ) و (ر).
(10)
أخرجه مسلم (1162).
(11)
قوله: "صيام" سقط من (م).
(12)
في (خ): "في يوم صوم".
(13)
تقدم تخريجه (ص 155).
(14)
أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156/ 175).