المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ إِذا ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَ وَرَدَ الإِشكال الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْتِزَامَ - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ إِذا ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَ وَرَدَ الإِشكال الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْتِزَامَ

‌فَصْلٌ

إِذا ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَ وَرَدَ الإِشكال الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ، وإِذا خَالَفَتْ فَالْمُتَعَبِّدُ بِهَا على ذلك التَّقْدِيرِ مُتَعَبِّدٌ بِمَا لَمْ يُشْرَعْ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ. فإِما أَن تَنْتَظِمَهَا أَدلة ذَمِّ الْبِدْعَةِ، أَو لَا؟ فإِن انْتَظَمَتْهَا أَدلة الذَّمِّ، فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لأَمرين:

أَحدهما: أَن رَسُولَ اللَّهِ (ص) لَمَّا كَرِهَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (1) مَا كره فقال (2) لَهُ (3): إِني أُطيق أَفضل مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ (4) صلى الله عليه وسلم:"لَا أَفضل مِنْ ذَلِكَ"، تَرَكَهُ بَعْدُ عَلَى الْتِزَامِهِ. وَلَوْلَا أَن عبد الله بن عمرو (5) فَهِمَ مِنْهُ بَعْدَ نَهْيِهِ الإِقرار عَلَيْهِ لَمَا الْتَزَمَهُ وَدَاوَمَ (6) عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فَلَوْ قُلْنَا: إِنها (7) بِدْعَةٌ ـ وَقَدْ ذُمَّ كُلُّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ ـ، لَكَانَ مُقِرّاً لَهُ عَلَى خطإٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يُعْتَقَدَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنه خَالَفَ أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قَصْدًا لِلتَّعَبُّدِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ. فَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَتقى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ (8) مِنْ وِصَالِ الصِّيَامِ وأَشباهه. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَن يقال: إِنها بدعة.

والثاني (9): أَن الْعَامِلَ بِهَا دَائِمًا بِشَرْطِ الوفاءِ إِن الْتَزَمَ الشرط فأَداها

(1) في (م): "عمر". وحديث عبد الله بن عمرو هذا تقدم (ص 157 ـ 158).

(2)

في (خ): "وقال".

(3)

قوله: "له" ليس في (غ) و (ر).

(4)

في (خ): "فقال له".

(5)

قوله: "بن عمرو" ليس في (خ) و (م).

(6)

في (غ) و (ر): "ودام".

(7)

في (ر) و (غ): "إنه".

(8)

يعني: عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وتقدم تخريج حديثيهما (ص179 ـ 180).

(9)

في (خ) و (م): "الثاني".

ص: 198

عَلَى وَجْهِهَا فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَارْتَفَعَ النَّهْيُ إِذاً، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلدَّلِيلِ، فَلَا ابْتِدَاعَ. وإِن لم يلتزم أَداءَها، فإِن كان باختياره (1) فَلَا إِشكال فِي الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ كالنَّاذِرِ (2) يَتْرُكُ المنذور (3) من غير (4) عُذْرٍ، وَمَعَ (5) ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى تَرْكُهُ بِدْعَةً، ولا عمله في وقت العمل بدعة، فلا (6) يُسَمَّى بِالْمَجْمُوعِ (7) مُبْتَدِعًا. وإِن كَانَ لعارضٍ (8) ـ مرضٍ أَو غَيْرِهِ مِنَ الأَعذار ـ، فَلَا نُسَلِّم (9) أَنه مُخَالِفٌ، كَمَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا فِي الْوَاجِبِ إِذا عَارَضَهُ فِيهِ عَارِضٌ؛ كَالصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ، وَالْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، فَلَا ابْتِدَاعَ إِذاً.

وأَما إِن لَمْ تَنْتَظِمْهَا (10) أَدلة الذَّمِّ، فَقَدْ ثَبَتَ أَن مِنْ أَقسام الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ (11)، بَلْ هُوَ مِمَّا يُتَعَبَّد بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ أَصل عَلَى الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ يَشْمَلُ هَذَا الأَصل كُلَّ مُلْتَزَمٍ تعبُّديٍّ، كَانَ لَهُ أَصل أَم لا؟ لكن بحيث (12) يَكُونُ لَهُ أَصل عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ كَتَخْصِيصِ لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقِيَامِ فِيهَا، وَيَوْمِهِ بِالصِّيَامِ، أَو بِرَكَعَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيَامِ ليلةِ أَول جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْتِزَامِ الدعاءِ جهراً بآثار الصلوات مع انتصاب الإِمام لذلك (13)، وما أَشبه ذلك مما له أَصل جُمليّ (14)، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَرِمُ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ تأْصيله.

والجواب عن الأَول ـ أَي (15) الإِقرار (16) ـ: صَحِيحٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَن يَجْتَمِعَ (17) مَعَ نهي (18) الْإِرْشَادُ لأَمر خَارِجِيٍّ؛ فإِن النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لأَجل

(1) في (خ) و (م): "باختيار".

(2)

في (م): "فالناذر"، وأشار بهامش (خ) إلى أنه كذلك في نسخة.

(3)

في (خ) و (م): "المندوب".

(4)

في (خ): "بغير".

(5)

في (ر) و (غ): "وقع" بدل "ومع".

(6)

في (خ): "ولا".

(7)

في (خ): "بالجموع".

(8)

في (غ) و (ر): "العارض".

(9)

في (ر) و (غ): "فلا يسلم".

(10)

في (غ) و (ر): "ينتظمها".

(11)

قوله: "عنه" ليس في (خ).

(12)

في (خ): "فحيث".

(13)

قوله: "لذلك" ليس في (خ) و (م).

(14)

في (خ): "جلي".

(15)

في (م): "أن" بدل "أي".

(16)

قوله: "أي الإقرار" ليس في (غ) و (ر).

(17)

أي: الإقرار.

(18)

في (خ): "النهي".

ص: 199

خَلَلٍ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي رُكْنٍ مِنْ أَركانها، وإِنما كَانَ لأَجل الْخَوْفِ مِنْ أَمر متوقَّع؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِن النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ إِنما كان رحمة بالأُمّة، وَقَدْ وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ تَبِعَهُ فِي الْوِصَالِ (1) كالمنكِّل (2) بِهِمْ (3)، وَلَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِليهم لَمَا فعل (4).

فانظروا (5) كَيْفَ اجْتَمَعَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَوْنُهُ عِبَادَةً وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِيَّاتِ: مَا يَقُولُهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ نداءِ الْجُمُعَةِ، فإِنه نُهِيَ عَنْهُ (6)، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَيْعًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، فَيُجِيزُونَ الْبَيْعَ بعد الوقوع، ولا يجعلونه (7) فَاسِدًا، وإِن وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ فِيهِ، لِلْعِلْمِ بأَن النَّهْيَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلى نَفْسِ الْبَيْعِ، بل إِلى أَمر يجاوره، ولذلك يعلل جماعة ممن قال (8) بفسخ البيع بأَنه (9) زَجْرٌ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، لَا لأَجل النَّهْيِ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ أَيضاً، وَلَا النَّهْيُ رَاجِعٌ إِلى نَفْسِ الْبَيْعِ.

فالأَمر بِالْعِبَادَةِ شيءٌ، وَكَوْنُ المكلَّف يُوفِي بِهَا أَوْ لَا شيءٌ آخَرُ. فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو (10) رضي الله عنهما عَلَى مَا الْتَزَمَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا الْتَزَمَ (11)، وَنَهْيُهُ إِيّاه ابْتِدَاءً لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وإِلا لَزِمَ التَّدَافُعُ، وَهُوَ مُحَالٌ. إِلا أَن هَاهُنَا نَظَرًا (12) آخَرَ، وَهُوَ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَارَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَالْمُرْشِدِ للمكلَّف، وكالمتبرِّع (13) بِالنَّصِيحَةِ عِنْدَ

(1) من قوله: "إنما كان رحمة" إلى هنا سقط من (خ).

(2)

في (خ): "كالتنكيل".

(3)

تقدم تخريجه (ص193).

(4)

في (ر) و (غ): "فصل".

(5)

في (خ): "فانظر".

(6)

قوله: "عنه" ليس في (غ) و (م) و (ر).

(7)

في (خ) و (م): "ويجعلونه".

(8)

في (خ): "يقول".

(9)

في (غ): "فإنه"، وأثبتها رشيد رضا في طبعته:"لأنه"، ثم استشكل العبارة، فعلق على قوله:"للمتبايعين" فقال: "هذا نص نسختنا فليتأمل! ".اهـ، مع أن الذي في نسخة (خ) ـ التي اعتمدها رشيد رضا ـ:"بأنه" كما هنا!.

(10)

في (خ) و (م): "فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عمر".

(11)

قوله: "دليل على صحة ما التزم" سقط من (خ).

(12)

في (خ): "نظر".

(13)

في (خ): "وكالمبتدع".

ص: 200

وُجُودِ مَظِنَّة الِاسْتِنْصَاحِ، فَلَمَّا اتَّكل (1) المكلَّف عَلَى اجْتِهَادِهِ دُونَ نَصِيحَةِ النَّاصِحِ الأَعرف بِعَوَارِضِ النُّفُوسِ، صَارَ كَالْمُتَّبِعِ لرأْيه مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وإِن كَانَ (2) بتأْويل، فإِن سُمِّيَ فِي اللَّفْظِ بِدْعَةً فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وإِلا فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ الْمَنْصُوصِ مِنْ صَاحِبِ النَّصِيحَةِ، وَهُوَ الدَّال عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ.

وَمِنْ هُنَا قِيلَ فِيهَا: إِنها بِدْعَةٌ إِضافية لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضافية: أَن الدَّلِيلَ فِيهَا مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلى من (3) يَشُقُّ عَلَيْهِ الدَّوَامُ (4) عَلَيْهَا، وَرَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلى مَنْ وفَّى (5) بِشَرْطِهَا، وَلِذَلِكَ وفَّى (5) بِهَا عَبْدُ الله بن عمرو (6) رضي الله عنهما بعد ما ضَعُفَ، وإِن دَخَلَ عَلَيْهِ فِيهَا بَعْضُ الْحَرَجِ، حَتَّى تَمَنّى قَبُولَ الرُّخْصَةِ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فإِن الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مَفْقُودٌ حَقِيقَةً، فَضْلًا عَنْ أَن يَكُونَ مَرْجُوحًا. فَهَذِهِ المسأَلة تُشْبِهُ مسأَلة خطإِ الْمُجْتَهِدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا (7) مُتَقَارِبٌ، وسيأْتي الْكَلَامُ فيها إِن شاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وأَما قَوْلُ السَّائِلِ فِي الْإِشْكَالِ: إِنِ الْتَزَمَ الشَّرْطَ فأَدَّى الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا

، إِلى آخِرِهِ، فَصَحِيحٌ، إِلا (8) قَوْلَهُ (9):"إِن (10) تَرَكَهَا لِعَارِضٍ فَلَا حَرَجَ كَالْمَرِيضِ"، فإِن مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ثمَّ قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَن يَتْرُكَهَا بسببٍ تسبَّبَ هُوَ فيه، وإِن ظهر أَنه ليس من سببه. فإِن تارك الْجِهَادِ ـ مَثَلًا ـ بِاخْتِيَارِهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ، وتَرْكَه لِمَرَضٍ ونَحْوِهِ (11) لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ. فإِن عَمِلَ فِي سبب يُلْحِقُهُ عادة بالمرضى، حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْجِهَادِ، فَهَذِهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَمِنْ حَيْثُ تَسَبُّبُهُ فِي الْمَانِعِ لا يكون

(1) في (خ): "تكلف".

(2)

في (غ) و (ر): "كانت".

(3)

في (خ): "بالنسبة لمن".

(4)

في (غ): "الدليل".

(5)

في (ر) و (غ): "أوفى"، وكانت هكذا في (م) ثم صوّبت.

(6)

في (خ) و (م): "عمر".

(7)

في (غ) و (ر): "فيها".

(8)

في (ر) و (غ): "إلى" بدل" "إلا".

(9)

يعني في الإشكال المتقدم (ص198).

(10)

في (خ): "فإن".

(11)

في (خ): "أو نحوه".

ص: 201

مَحْمُودًا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي كَرَاهِيَةِ الْعَمَلِ، أَو في (1) التقصير عن (2) الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمُكَلَّفُ قَدْ خَالَفَ النَّهْيَ. وَمِنْ حيث وقع له الحرج المانع في العادة (3) من أَداء العبادة (4) عَلَى وَجْهِهَا قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا. فَصَارَ هُنَا نَظَرٌ بَيْنَ نَظَرَيْنِ لَا يتخلَّص مَعَهُ الْعَمَلُ إِلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وأَما قَوْلُهُ: ثَبَتَ أَن مِنْ أَقسام الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ (5) عَنْهُ، فليس كما قال؛ وذلك أَن المندوب مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ يُشْبِهُ الْوَاجِبَ مِنْ جِهَةِ مُطْلَقِ الأَمر، وَيُشْبِهُ الْمُبَاحَ مِنْ جِهَةِ رفع الحرج عن (6) التارك، فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلَّص (7) إِلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلا أَن قَوَاعِدَ الشَّرْعِ شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ الْعَمَلِ شَرْطًا، كَمَا شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ تَرْكِهِ شَرْطًا، فَشَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ أَن لَا يَدْخُلَ فِيهِ مُدْخَلًا يُؤَدِّيهِ إِلى الْحَرَجِ المؤَدّي إِلى انْخِرَامِ النَّدْبِ فِيهِ رأْساً، أَو انْخِرَامِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَمَا وراءَ هَذَا مَوْكُولٌ إِلى خِيَرَةِ المكلَّف، فإِذا دَخَلَ فِيهِ فَلَا يَخْلُو أَن يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى قَصْدِ انْخِرَامِ الشَّرْطِ أَوْ لَا، فإِن كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي يأْتي إِن شاءَ الله، وحاصله أَن الشارع طلبه (8) بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهُوَ يُطَالِبُ نَفْسَهُ بِوَضْعِهِ، وإِدخاله عَلَى نَفْسِهِ، وَتَكْلِيفِهَا مَا لَا يُسْتَطَاعُ، مَعَ زِيَادَةِ الإِخلال بِكَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الَّتِي هِيَ أَولى مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ أَن هَذِهِ (9) بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ.

وإِن دَخَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ، فَلَا يَخْلُو أَن يَجْرِيَ الْمَنْدُوبُ عَلَى مَجْرَاهُ أَوْ لَا، فإِن أَجراه كَذَلِكَ بأَن يَفْعَلَ مِنْهُ (10) مَا اسْتَطَاعَ إِذا وَجَدَ نَشَاطًا، وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَولى مِمَّا دخل فيه (11)، فهذا هو (12) محض

(1) قوله: "في" ليس في (خ).

(2)

في (خ): "على" بدل "عن".

(3)

في (خ) و (م): "العبادة".

(4)

في (خ): "من أدائها".

(5)

في (غ): "منهي".

(6)

في (خ): "على" بدل "عن".

(7)

في (خ): "لا يتخلى".

(8)

علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعله: "طالبه".اهـ.

(9)

في (ر) و (غ): "هذا".

(10)

في (م): "منهما".

(11)

قوله: "مما دخل فيه" من (خ) فقط.

(12)

في (خ) و (م): "فهو" بدل "فهذا هو".

ص: 202

السُّنَّةِ الَّتِي لَا مَقَالَ فِيهَا؛ لِاجْتِمَاعِ الأَدلة عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، إِذ قَدْ أُمر، فَهُوَ غَيْرُ تَارِكٍ، وَنُهِيَ عَنِ الْإِيغَالِ وإِدخال الْحَرَجِ، فَهُوَ مُتَحَرِّز، فَلَا إِشكال فِي صِحَّتِهِ، وهو كان (1) شأْنَ القرن (2) الأَول وما بعده (3)، وإِن لَمْ يُجْرِهِ عَلَى مَجْراه، وَلَكِنَّهُ أَدخل فِيهِ رأْي الِالْتِزَامِ وَالدَّوَامِ، فَذَلِكَ الرأْي مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً.

لَكِنْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَن الوفاءَ ـ إِن حَصَلَ ـ فَهُوَ ـ إِن شاءَ اللَّهُ ـ كَفَّارَةُ النَّهْيِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ معنى البدعة؛ لأَن الله تعالى مَدَحَ الْمُوفِينَ بِالنَّذْرِ (4) وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عَاهَدُوا (5)، وإِن لَمْ يَحْصُلِ الوفاءُ تَمَحَّضَ وَجْهُ النَّهْيِ، وربما أَثِمَ في الالتزام النَّذْرِيّ (6)، ولأَجل احْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَطلق عَلَيْهِ لَفْظُ الْبِدْعَةِ، لَا لأَجل أَنه عَمَلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَائِمٌ.

وَلِذَلِكَ إِذا الْتَزَمَ الإِنسان بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ أَو يَظُنُّ أَن الدَّوَامَ فِيهَا لَا يُوقِعُ فِي حَرَجٍ أَصلاً ـ وَهُوَ (7) الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الأَوجه الثَّلَاثَةِ المنبَّه عَلَيْهَا ـ لَمْ يَقَعْ فِي نهي، بل في محض المندوب (8)؛ كَالنَّوَافِلِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ في آثارها، وذكر اللسان (9) المُلْتَزَمِ بالعَشِيّ والإِبكار، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ أَولى، وَلَا يُدْخِلُ حَرَجًا بِنَفْسِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ.

(1) في (غ): "كون".

(2)

قوله: "القرن" سقط من (م)، وفي (خ):"السلف" بدل "القرن".

(3)

في (خ): "ومن بعدهم".

(4)

في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *} سورة الدهر: الآية (7).

(5)

في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

} إلى أن قال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} سورة البقرة: الآية (177).

(6)

في (خ): "غير النذري".

(7)

في (ر): "وهذا"، والظاهر أنها هكذا أيضاً في (غ)، إلا أنها لم تتضح في مصورتها.

(8)

في (خ): "المندوبات".

(9)

في (خ): "والذكر اللساني".

ص: 203

وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جاءَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدَّوَامِ صَرِيحًا، وَمِنْهُ كَانَ جَمْعُ عُمَرَ رضي الله عنه النَّاسَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ (1)، وَمَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ؛ لأَنه كَانَ أَولاً سُنَّةً ثَابِتَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (2)، ثُمَّ إِنه أَقام لِلنَّاسِ بِمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ وَمُحِبِّينَ فِيهِ، وَفِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ لَا دَائِمًا، وَمَوْكُولًا إِلى اخْتِيَارِهِمْ؛ لأَنه قَالَ: وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفضل.

وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَن الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفضل، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ (3) يَنْصَرِفُونَ فَيَقُومُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ:"نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فأَطلق عَلَيْهَا لَفْظَ الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَرَى ـ نَظَرًا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِلى اعْتِبَارِ الدَّوَامِ، وإِن كَانَ شهراً في السنة، أَو أَنه (4) لَمْ يَقَعْ فِيمَنْ قَبْلَهُ عَمَلًا دَائِمًا، أَو أَنه أَظهره فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وإِن كَانَ ذَلِكَ فِي أَصله وَاقِعًا (5) كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاضِحًا قَالَ:"نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فَحَسَّنَهَا بِصِيغَةِ "نِعْم" الَّتِي تَقْتَضِي مِنَ الْمَدْحِ مَا تَقْتَضِيهِ (6) صِيغَةُ التَّعَجُّبِ؛ لَوْ قَالَ: مَا أَحسنها مِنْ بِدْعَةٍ! وَذَلِكَ يُخْرِجُهَا قَطْعًا عَنْ كَوْنِهَا بِدْعَةً.

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى كَلَامُ أَبي أُمامة رضي الله عنه (7) مستشهداً

(1) أخرجه البخاري (2010) من حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ قال: خرجت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أُبَيّ بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد: آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله. اهـ.

(2)

يشير إلى حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (729)، ومسلم (761) في قيامه صلى الله عليه وسلم في رمضان، وقيام أناس معه لما رأوه، فصنع ذلك ليلتين أو ثلاثاً، ثم لم يخرج لهم بعد ذلك، وقال:"إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل".

(3)

في (ر) و (غ): "منهم كثير".

(4)

في (خ): "وأنه".

(5)

في (خ): "واقعاً في أصله".

(6)

في (ر) و (غ): "يقتضيه".

(7)

الذي تقدم تخريجه (ص149).

ص: 204

بِالْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: أَحدثتم قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنما مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، ولأَجله قَالَ: فَدُومُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لنَهى عَنْهُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَجْرَيْنَا الكلام على ما نهى صلى الله عليه وسلم عَنْهُ مِنَ التعبُّد المخوِّفِ الحَرَجَ فِي الْمَآلِ؛ وَاسْتَسْهَلْنَا وَضْعَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِهَا وَوَضْعِهَا فِي الشَّرْعِ مَوَاضِعَهَا، حَتَّى لَا يغترَّ بِهَا مُغْتَرٌّ فيأْخذها عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا، وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وإِنما تجشَّمنا إِطلاق اللَّفْظِ هُنَا؛ وكان ينبغي أَن لا نفعل (1) لولا الضرورة؛ وبالله التوفيق.

(1) في (خ) و (م): "لا يفعل".

ص: 205