المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ ثَبَتَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْفُصُولِ المتقدِّمة آنِفًا أَنَّ الحَرَج مَنْفِيٌّ عَنِ - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ ثَبَتَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْفُصُولِ المتقدِّمة آنِفًا أَنَّ الحَرَج مَنْفِيٌّ عَنِ

‌فَصْلٌ

ثَبَتَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْفُصُولِ المتقدِّمة آنِفًا أَنَّ الحَرَج مَنْفِيٌّ عَنِ الدِّينِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا؛ وإِن كَانَ قَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الأُصول الْفِقْهِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْبُرْهَانِ أَبْلَغَ، فَلْنَبْنِ عليه فنقول:

قد فهم قوم من أحوال (1) السَّلَفِ الصَّالِحِ وأَهل الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ ـ مِمَّنْ ثبتت وِلَايَتُهُمْ ـ أَنَّهُمْ كَانُوا يشدِّدون عَلَى أَنفسهم، ويُلزمون غيرهم الشدَّة أيضاً، فأقرّ هؤلاء الشدَّة (2) وَالْتِزَامَ (3) الحَرَج دَيْدَناً فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وعَدُّوا (4) مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الِالْتِزَامِ (5) مقصِّراً مَطْرُودًا (6) وَمَحْرُومًا وربَّما فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الإِطلاقات الشَّرْعِيَّةِ، فرشَّحوا (7) بِذَلِكَ مَا الْتَزَمُوهُ، فأَفضى الأَمر بِهِمْ إِلى الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ إِلى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَو الإِضافية.

فَمِنْ ذَلِكَ: أَن يَكُونَ للمُكَلَّف طَرِيقَانِ فِي سُلُوكِهِ لِلْآخِرَةِ: أَحدهما: سَهْلٌ، وَالْآخِرُ صَعْبٌ، وَكِلَاهُمَا فِي التوصُّل إِلى الْمَطْلُوبِ عَلَى حدٍّ وَاحِدٍ؛ فيأْخذ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ بِالطَّرِيقِ الأَصعب الَّذِي يشقُّ عَلَى المكلَّف مثلُه، وَيَتْرُكُ الطَّرِيقَ الأَسهل؛ بِنَاءً عَلَى التَّشْدِيدِ على النفس، كالذي يجد للطهارة

(1) في (خ): "أصول"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كلمة "أصول" لا يظهر لها معنى هاهنا. اهـ.

(2)

قوله: "فأقر هؤلاء الشدة" ليس في (خ) و (م).

(3)

في (ر) و (غ): "وإلزام".

(4)

في (خ): "وعدول".

(5)

في (ر) و (غ): "الإلزام".

(6)

في (غ) و (ر): "ومطروداً".

(7)

أي: فَقَوَّوا ودعموا، يقال: ترشح: إذا قوي على المشي مع أمه.

وقال الأصمعي: إذا وضعت الناقة ولدها فهو شليل، فإذا قوي ومشى فهو راشح. "لسان العرب"(2/ 449)

ص: 237

ماءَين: سخن وبارد، فيتحرَّى الباردَ الشاقَّ استعمالُه، ويتركُ الْآخَرَ؛ فَهَذَا لَمْ يُعْطِ النَّفْسَ حقَّها الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ، وَخَالَفَ دَلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى زَائِدٍ، فَالشَّارِعُ لَمْ يَرْضَ بشرعيَّة مِثْلِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (1):{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2)، فَصَارَ متَّبعاً لِهَوَاهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "أَلا أَدلكم عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟: إِسْباغ الوضوءِ عِنْدَ الكَرِيهَات

" (3) الْحَدِيثَ؛ مِنْ حَيْثُ كَانَ الإِسباغ مَعَ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ سَبَبًا لمَحْو الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ للإِنسان أَن يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ هَذَا الأَجر، وذلك (4) بإِكراه النَّفْسِ، وَلَا يَكُونُ إِلا بتَحَرِّي إِدخال الْكَرَاهِيَةِ عَلَيْهَا؛ لأَنا نَقُولُ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قُلْتُمْ، وإِنما فِيهِ أَنَّ الإِسباغ مَعَ وُجُودِ الْكَرَاهِيَةِ، فَفِيهِ أَمر زَائِدٌ؛ كَالرَّجُلِ يَجِدُ مَاءً بَارِدًا فِي زَمَانِ الشتاءِ، وَلَا يَجِدُهُ سُخْنًا، فَلَا يَمْنَعُهُ شدَّةُ بَرْدِه عَنْ كَمَالِ الإِسباغ.

وأَما الْقَصْدُ إِلى الْكَرَاهِيَةِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ فِي الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَلَوْ سُلِّم أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِيهِ؛ لَكَانَتْ أَدِلَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ تَعَارُضُهُ، وَهِيَ قطعيَّة (5)، وخبر الواحد ظَنّي (6)؛

(1) في (م): "قال تعالى".

(2)

سورة النساء: الآية (29).

(3)

أخرجه مُسْلِمٌ (251) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

(4)

قوله: "وذلك" ليس في (خ) و (م).

(5)

من قوله: "بل في الأدلة المتقدمة" إلى هنا مكرر في (خ).

(6)

رحم الله الشاطبي! فقد سرت إليه هذه المقولة التي لا تتناسب مع منهجه الذي دعى إليه؛ منهج الالتزام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. فإطلاق القول بأن خبر الواحد ظني ليس بصحيح؛ لأن خبر الواحد عندهم يعم ما ليس بمتواتر، وإن كان مرويّاً من طرقٍ عدّة لم تبلغ حدّ التواتر عندهم، وهذا يتنافى أولاً مع حكم الله تعالى في الشهادة. قال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ؛ فشهادة الشاهدين تراق بها الدماء، وتستباح الأموال والفروج، فهل يمكن أن يقبل في شرع الله ما هو ظني، والظن أكذب الحديث! ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم إذا استثبتوا يزيدون على شهادة آخر مع الواحد؛ كما في قصة عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في حديث الاستئذان، وشهادة أبي سعيد الخدري لأبي موسى بذلك.

فإن قيل: لعلّ الشاطبي يعني خبر الواحد الفرد، ولا يعني ما اصطلح عليه أهل=

ص: 238

فَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهِمَا؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَطْعِيِّ، وَمِثْلُ الْحَدِيثِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ (1).

وَمِنْ ذَلِكَ: الِاقْتِصَارُ مِنَ المأْكول عَلَى أَخْشَنِه (2) وأَفْظَعهِ لمجرَّد التَّشْدِيدِ، لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، فَهُوَ مِنَ النَّمَطِ الْمَذْكُورِ فَوْقَه؛ لأَن الشَّرْعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلى تَعْذِيبِ النَّفْسِ فِي التَّكْلِيفِ (3)، وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"(4). وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يأْكل الطَّيِّب إِذا وَجَدَهُ (5) وَكَانَ يُحِبُّ الحلواءَ وَالْعَسَلَ (6)، وَيُعْجِبُهُ لَحْمُ الذِّرَاعِ (7)، ويُسْتَعْذَب لَهُ الماءُ (8)، فأَين التَّشْدِيدُ مِنْ هذا؟

=الكلام؛ قلنا: وهذا فيه ما فيه! ولكنه لا يعنيه، ولو عناه لكان أهون.

فخبر الواحد الفرد ليس بصحيح أنه ظني بإطلاق، بل إذا احتفت به قرائن فإنه يفيد العلم؛ كما تجد تفصيله في كثير من الكتب التي تناولت هذا الموضوع بالتفصيل، ومن ذلك:"مختصر الصواعق" لابن القيم، و"حجية خبر الآحاد" للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.

ومع هذا فالشاطبي متابع لأهل الكلام في مصطلحهم هذا.

(1)

إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م).

(2)

سورة التوبة: الآية (120).

(3)

في (ر) و (غ): "خشنه".

(4)

أخرج البخاري (1865)، ومسلم (642) من حديث أنس: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى شيخاً يُهَادى بين ابنيه، فقال:"ما بال هذا؟ " قالوا: نذر أن يمشي. قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"، وأمره أن يركب.

(5)

تقدم تخريجه صفحة (157).

(6)

ومنه أكله اللحم. انظر: "صحيح البخاري"(4712)(5097)، و"صحيح مسلم"(194).

(7)

أخرجه البخاري (5268)، ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(8)

أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(9)

أخرجه أحمد (6/ 108)، وأبو داود (3735)، وابن حبان (5332)، والحاكم (4/ 138) من طريق الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُستعذب له الماء من بيوت السُّقيا.

قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم".

قال الحافظ في "الفتح"(10/ 74): "إسناده جيد".

وقد توبع عليه الدَّرَاوَرْدي من أوجهٍ لا يصح منها شيء؛ فقد تابعه:=

1 ـ عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير:

ص: 239

وَلَا يَدْخُلُ الِاسْتِعْمَالُ الْمُبَاحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (1)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الإِسراف الْخَارِجُ عَنْ حَدّ المباح، بدليل ما تقدم.

=أخرج حديثه ابن عدي في "الكامل"(5/ 83)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم"(3/ 432)، وعامر هذا متروك الحديث كما في "التقريب"(3113).

2 ـ محمد بن المنذر، وأخوه عبيد الله، وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة.

أخرجه أبو الشيخ (3/ 432)، والبغوي في "شرح السنّة"(3050) من طريق محمد بن المنذر.

وأخرجه أبو الشيخ (3/ 432) من طريق عبيد الله بن المنذر وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، ثلاثتهم عن هشام بن عروة، به.

ومحمد بن المنذر يروي الأحاديث الموضوعة عن هشام كما قال الحاكم وأبو نعيم، وقال ابن حبان:"لا يحلّ كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار" انظر "الميزان"(8208) و"لسان الميزان"(1274).

وعبد الله بن محمد متروك الحديث ضعيف الحديث جداً كما قال أبو حاتم في "الجرح والتعديل"(5/ 158 رقم 729). وعبيد الله بن المنذر ذكره ابن حبان في "الثقات"(7/ 152)، والحافظ في "اللسان"(4/ 116)، وأحال فيه إلى ترجمة أخيه محمد (5/ 394)، والعراقي في "ذيل الميزان" صفحة (352)، وذكر له ولأخيه محمد حديثاً عن هشام بن عروة، استغربه الدارقطني وقال:"لم يتابعا عليه"، والله أعلم.

وأخرج مسلم (3013) حديث جابر الطويل وفيه: "وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد".

وأخرج البخاري (5611)، ومسلم (998) من حديث أنس قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبّ مالِهِ إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيه طيب

" الحديث.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(10/ 74 ـ 75): وذكر الواقدي من حديث سلمى امرأة أبي رافع: "كان أبو أيوب حين نزل عنده صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس"، ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس مرة، ومن بيوت السقيا مرة.

قال ابن بطال: استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفُّه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السَّرَف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله الصالحون، وليس في شرب الماء الملح فضيلة. اهـ.

(1)

سورة الأحقاف: الآية (20).

ص: 240

فإِذاً الاقتصار على البشيع في المأْكول مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تنطُّعٌ، وَقَدْ مرَّ مَا في (1) قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (2) الْآيَةَ (3).

وَمِنْ ذَلِكَ: الِاقْتِصَارُ فِي الْمَلْبَسِ عَلَى الخَشْن مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فإِنه مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ والتنطُّع الْمَذْمُومِ، وَفِيهِ أَيضاً مِنْ قَصْد الشُّهْرة مَا فِيهِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْحَارِثِيِّ أَنه قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبي طالب رضي الله عنه: اعْدِني (4) عَلَى أَخي عَاصِمٍ. قَالَ: مَا بَالَهُ؟ قَالَ: لَبِسَ العباءَ يُرِيدُ النُّسُك. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: عليَّ بِهِ. فأُتي بِهِ مُؤْتَزِرًا (5) بعباءَة (6)، مُرْتَدِيًا بالأُخرى (7)، شَعْثَ الرأْس وَاللِّحْيَةِ، فعبَّس فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَما اسْتَحْيَيْتَ مِنْ أَهلك؟ أَما رَحِمْتَ وَلَدَكَ؟ أَترى اللَّهَ أَباح لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَن تَنَالَ مِنْهَا شَيْئًا؟ بَلْ أَنت أَهون عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ (8)! أَما سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ *} إِلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} (9)؟ أَفترى اللَّهُ أَبَاحَ هَذِهِ لِعِبَادِهِ إِلا لِيَبْتَذِلُوهُ (10) ويحمدوا الله عليه؛ فيثيبهم عَلَيْهِ؟ وإِن ابْتِذَالَكَ نِعَمَ اللَّهِ بِالْفِعْلِ خَيْرٌ مِنْهُ بِالْقَوْلِ. قَالَ عَاصِمٌ: فَمَا بَالَكَ فِي خُشُونة مأْكَلِك وَخُشُونَةِ مَلْبسك؟ قَالَ: وَيْحَكَ! إِن اللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَئمة الْحَقِّ أَن يُقَدِّرُوا أَنفسهم بضعفة الناس (11).

(1) في (خ) و (م): "وقد مرّ ما فيه في".

(2)

سورة المائدة: الآية (87).

(3)

قوله: "الآية" من (خ) و (م) فقط.

(4)

كذا في جميع النسخ، وكأن ناسخ (م) استشكلها فوضع عليها ثلاث نقاط (. . .)، وأما رشيد رضا فأثبتها:"اغد بي".

(5)

في (ر) و (غ): "متزرراً".

(6)

في (خ): "العباءة".

(7)

في (غ) و (ر): "بأخرى".

(8)

في (خ): "منها من ذلك".

(9)

سورة الرحمن: الآيات (10 ـ 22).

(10)

علق رشيد رضا هنا بقوله: الابتذال ضد الصون، وما يستعمل يبتذل؛ فالمراد استعمال النعم والطيبات والانتفاع بها، ويستعمل الابتذال في لازمه، وهو الامتحان والاحتقار، وليس بمراد هنا. اهـ.

(11)

رواه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" صفحة (247) من طريق ابن الأنباري، عن أبيه، عن أبي عكرمة الضبي، عن مسعود بن بشر، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى به.

وإسناده معضل؛ فبين أبي عبيدة والربيع مفاوز، ومسعود وأبو عكرمة لم أقف لهما على ترجمة، والله أعلم.

ص: 241

فتأَمّلوا كَيْفَ لَمْ يُطَالِبِ اللَّهُ الْعِبَادَ بِتَرْكِ الْمَلْذُوذَاتِ؛ وإِنما طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا إِذا تَنَاوَلُوهَا. فالمُتَحَرِّي لِلِامْتِنَاعِ مَنْ تَنَاوَلَ مَا أَباحه اللَّهُ من غير مُوجِبٍ شَرْعي مُفْتَئِت عَلَى الشَّارِعِ (1)، وَكُلُّ مَا جاءَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ من الامتناع عن بعض المتناولات ليس (2) مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وإِنما امْتَنَعُوا مِنْهُ لِعَارِضٍ شَرْعِيٍّ يَشْهَدُ الدَّلِيلُ بِاعْتِبَارِهِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنَ التوسُّع لضيق الحلال (3) في يده، أَو لأَن التناول (4) ذَرِيعَةٌ (5) إِلى مَا يُكْرَهُ أَو يُمْنَعُ، أَو لأَن فِي المُتَنَاوَلِ وَجْهُ شُبْهَةٍ تَفَطَّنَ إِليه التَّارِكُ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ إِليه غَيْرُهُ مِمَّنْ عَلِمَ بِامْتِنَاعِهِ. وَقَضَايَا الأَحوال لَا تُعَارِضُ الأَدلة بِمُجَرَّدِهَا؛ لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنفسها. وَهَذِهِ المسأَلة مذكورةٌ عَلَى وجهها في كتاب "الموافقات"(6)، والحمد لله (7).

وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ فِي الأَفعال وَالْأَحْوَالِ (8) عَلَى مَا يُخَالِفُ مَحَبَّةَ النُّفُوسِ، وَحَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ شيءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ. أَلا تَرَى أَن الشَّارِعَ أَباح أَشياءَ مِمَّا فِيهِ قضاءُ نَهْمَةِ النَّفْسِ وتمتُّعها واستلذاذُها؟ فَلَوْ كَانَتْ مخالفتُها بِرًّا لشُرِعَ، ولنُدِبَ النَّاسَ إِلى تَرْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، بَلْ مندوبَ التَّرْكِ، أَو مكروهَ الْفِعْلِ.

وأَيضاً فإِن اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ فِي الأُمور المُتَنَاوَلةِ ـ إِيجاباً أَو نَدْبًا ـ أَشياءَ مِنَ المُسْتَلَذَّات الْحَامِلَةِ عَلَى تَنَاوُلِ تِلْكَ الْأُمُورِ، لِتَكُونَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ كَالْحَادِيَ إِلى الْقِيَامِ بِتِلْكَ الأُمور، كَمَا جَعَلَ فِي الأَوامر إَذا امْتُثلت، وَفِي النَّوَاهِي إِذا اجْتُنبت أُجوراً (9). مُنْتَظَرَةً؛ وَلَوْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وجعل في

(1) علق رشيد رضا هنا بقوله: يقال: افتأت على فلان افتئاتاً، وافتأت افتياتاً: إذا تصرف بشيء من شؤونه بدون إذنه ولا رضاه. اهـ.

(2)

قوله: "ليس" ليس في (خ).

(3)

في (خ): "الحال".

(4)

في (خ) و (م): "المتناول".

(5)

في (ر) و (غ): "خديعة".

(6)

انظر "الموافقات"(4/ 8 و87).

(7)

قوله: "والحمد لله" ليس في (خ) و (م).

(8)

في (غ) و (ر): "والأقوال".

(9)

في (خ): "أجروا".

ص: 242

الأَوامر إِذا تُركت وَالنَّوَاهِي إِذا ارتُكبت جَزَاءً عَلَى خِلَافِ الأَول؛ لِيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُنْهِضًا لِعَزَائِمِ المكلَّفين فِي الِامْتِثَالِ، حَتَّى إِنه وَضَعَ لأَهل الامتثال المثابرين على المتابعة (1) فِي أَنفس التَّكَالِيفِ أَنواعاً مِنَ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، والأَنوار الشَّارِحَةِ لِلصُّدُورِ، مَا لَا يَعْدِلُهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ سَبَبًا لاسْتِلْذاذ الطَّاعَةِ، والفِرَار إِليها، وَتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا، فَيَخِفَّ عَلَى الْعَامِلِ العملُ، حَتَّى يَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا قبلُ عَلَى (2) تحمُّله إِلا بالمشقَّة (3) الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ فإِذا سَقَطَتْ سَقَطَ النَّهْيُ.

بَلْ تأَمّلوا كَيْفَ وَضَعَ للأَطعمة عَلَى اخْتِلَافِهَا (4) لذّاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الأَلوان، وللأَشربة (5) كَذَلِكَ، وَلِلْوِقَاعِ (6) الْمَوْضُوعِ سبباً لاكتساب العيال ـ وهو أَشد تَعَباً (7) على النَّفْسِ ـ لذَّةً أَعْلَى مِنْ لَذَّةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، إِلى غير ذلك من الأُمور الخارجة عَنْ نَفْسِ المُتَنَاوَلِ (8)، كَوَضْعِ الْقَبُولِ فِي الأَرض، وَتَرْفِيعِ الْمَنَازِلِ، والتقدُّم (9) عَلَى سَائِرِ النَّاسِ فِي الأُمور العِظَام (10)، وهي أَيضاً تقتضي لذّاتٍ تُسْتَصْغَرُ في جَنْبَهَا لذّاتُ الدُّنْيَا.

وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فأَين هذا الوَضْع (11) الْكَرِيمُ مِنَ الرَّبِّ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟ فَمَنْ يأْتي مُتَعَبِّدًا ـ بِزَعْمِهِ ـ بِخِلَافِ مَا وَضَعَ الشَّارِعُ لَهُ مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ والأَسباب الْمُوصِلَةِ إِلى مَحَبَّتِهِ، فيأْخذ بالأَشق والأَصعب، ويجعله

(1) في (خ): "الثائرين على المبايعة".

(2)

قوله: "على" ليس في (خ) و (م).

(3)

في (غ) و (ر): "لا بالمشقة".

(4)

في (غ) و (ر): "اختلاف".

(5)

في (ر) و (غ): "والأشربة".

(6)

في (غ) و (ر): "للوقاع".

(7)

في (ر) و (غ): "نصباً".

(8)

في (غ) و (ر): "التناول".

(9)

في (غ) و (ر): "والتقديم".

(10)

في (خ) و (م): "العظائم".

(11)

في (خ): "الموضع".

ص: 243

هُوَ السُّلَّمَ الْمُوصِلَ وَالطَّرِيقَ الأَخص؛ هَلْ هَذَا كُلُّهُ إِلا غَايَةٌ فِي الْجَهَالَةِ وتَلَفٌ فِي تِيهِ (1) الضَّلَالَةِ؟ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.

فإِذا سَمِعْتُمْ بِحِكَايَةٍ تَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، أَو (2) يَظْهَرُ مِنْهَا تنطُّع أَو تكلُّف، فإِما أَن يَكُونَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ يُعتبر كَالسَّلَفِ الصالح رضي الله عنهم، أَو مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُعرف وَلَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أَهل الحَلّ والعَقْد مِنَ العلماءِ، فإِن كَانَ الأَول فَلَا بُدَّ أَن يَكُونَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرأْي ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا حُجّة فِيهِ، وإِنما الحُجَّة فِي الْمُقْتَدِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فهذه أمثلة (3) خمسة في التشديد على النفس (4) فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سواها.

(1) في (غ) و (ر): "من تيه".

(2)

قوله: "أو" ليس في (غ) و (ر).

(3)

قوله: "أمثلة" ليس في (خ) و (م).

(4)

قوله: "على النفس" ليس في (خ) و (م).

ص: 244