المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادسفي أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌الباب السادسفي أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة

‌الْبَابُ السَّادِسُ

فِي أَحكام الْبِدَعِ وأَنها لَيْسَتْ على رتبة واحدة

اعْلَمْ أَنا (1) إِذا بَنَيْنَا عَلَى أَن الْبِدَعَ مُنْقَسِمَةٌ إِلى الأَحكام الْخَمْسَةِ؛ فَلَا إِشكال فِي اختلاف رُتبها (2)؛ لأَن النَّهْيَ مِنْ جِهَةِ انْقِسَامِهِ إِلى نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ وَنَهْيِ التَّحْرِيمِ يَسْتَلْزِمُ (3) أَن أَحدهما أَشد فِي النَّهْيِ مِنَ الْآخَرِ، فإِذا انْضَمَّ إِليهما (4) قِسْمُ الإِباحة؛ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِي الأَقسام، فإِذا اجْتَمَعَ إِليها قِسْمُ النَّدْبِ وَقِسْمُ الْوُجُوبِ؛ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا أَوضح، وَقَدْ مَرَّ مِنْ أَمثلتها أَشياءَ كَثِيرَةٌ؛ لَكِنَّا لَا نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ، وَلَا بَيَانِ رُتَبِهِ بالأَشد والأَضعف؛ لأَنه إِما أَن يكون تقسيماً حقيقياً أَو لا، فإِن لم يكن (5) حقيقياً فالكلام فيه عناءٌ، وإِن كان حقيقياً (6) فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنه غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ، وإِن عَرَضَ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ أَو تَفْرِيعٌ فإِنما يذكرُ بِحُكْمِ التَّبَعِ بِحَوْلِ اللَّهِ (7).

فإِذا خَرَجَ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ ثَلَاثَةُ أَقسام: قِسْمُ الْوُجُوبِ، وَقِسْمُ النَّدْبِ، وَقِسْمُ الإِباحة؛ انْحَصَرَ النَّظَرُ فِيمَا بقي، وهو الذي يثبت (8) مِنَ التَّقْسِيمِ، غَيْرَ أَنه وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا على وجه واحد، وَنِسْبَةٍ (9) إِلَى الضَّلَالَةِ وَاحِدَةٌ؛ فِي قَوْلِهِ: "إِياكم وَمُحْدَثَاتِ الأُمور؛ فإِن كل محدثة بدعة،

(1) في (م): "أن".

(2)

في (خ) و (ت) و (م): "رتبتها".

(3)

في (م) و (خ): "يستلزم من".

(4)

في (خ) و (م): "إليها".

(5)

من قوله: "تقسيماً حقيقياً" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).

(6)

في (ت) و (خ): "وإن كان غير حقيقي".

(7)

لفظ الجلالة: "الله" سقط من (خ) و (م)، واستشكله ناسخ (خ)، فوضع ثلاث نقاط (. . .) فوق قوله:"بحول"، وفي (ت):"فنقول" بدل "بحول الله".

(8)

في (خ): "ثبت".

(9)

في (خ) و (م): "ونسبته".

ص: 353

وكل (1) بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ (2) " (3). وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ.

فَيَقَعُ السُّؤَالُ: هَلْ لَهَا حكمٌ وَاحِدٌ أَم لَا (4)؟

فَنَقُولُ: ثَبَتَ في الأُصول أَن الأَحكام الشرعية خمسة، يخرج عَنْهَا الثَّلَاثَةُ، فَيَبْقَى حُكْمُ الْكَرَاهِيَةِ وَحُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ انْقِسَامَ الْبِدَعِ إِلى الْقِسْمَيْنِ؛ فَمِنْهَا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَمِنْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَذَلِكَ أَنها داخلة تحت جنس المنهيَّات؛ والمنهيات (5) لا تعدو الكراهة أَو التحريم، فَالْبِدَعُ كَذَلِكَ. هَذَا وَجْهٌ.

وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَن (6) البدع إِذا تُؤُمِّل معقولُها وجدت رتبها مُتَفَاوِتَةً.

فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ؛ كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّه عَلَيْهَا الْقُرْآنُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (7) الآية، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (8) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (9)، وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ (10)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لا يُشَكّ أَنه كُفْرٌ صُرَاحٌ.

وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ، أَو يُخْتَلَفُ (11): هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَم لَا! كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ (12) أَشبههم مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.

(1) قوله "محدثة بدعة وكل" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(2)

قوله: "وكل ضلالة في النار" سقط من (غ) و (ر).

(3)

سبق تخريجه (ص108) من المجلد الأول، و (ص318) من هذا المجلد.

(4)

في (ت): "أو لا".

(5)

قوله: "والمنهيات" سقط من (خ) و (م) و (ت)، ولذا أشكلت العبارة على رشيد رضا فعلّق على هذا الموضع بقوله: لعله سقط من هنا كلمة: "وهي". اهـ.

(6)

في (ت): "وهو أن".

(7)

سورة الأنعام: الآية (136).

(8)

سورة الأنعام: الآية (139).

(9)

سورة المائدة: الآية (103).

(10)

كما في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الآية: (2) من سورة المنافقون].

(11)

في (ت): "أو يختلف فيها".

(12)

في (ر) و (غ): "وما".

ص: 354

ومنها ما هو معصية ويُتَّفَقُ على أَنها (1) ليست بِكُفْرٍ؛ كَبِدْعَةِ التَّبَتُّل (2)، وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ (3)، والخِصَاءِ (4) بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ (5).

وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي إِتباع رَمَضَانَ بسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ (6)، وقراءَة الْقُرْآنِ بالإِدارة (7)، وَالِاجْتِمَاعِ للدعاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ (8)، وَذِكْرُ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةَ ـ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ (9) ـ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ (10).

فَمَعْلُومٌ أَن هذه البدع ليست في رتبة واحدة، ولا على نسبة واحدة (11)، فلا يصح على (12) هَذَا أَن يُقَالَ: إِنها عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، هُوَ (13) الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَو التَّحْرِيمُ (14) فَقَطْ.

وَوَجْهٌ (15) ثَالِثٌ: أَن الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ، وَمِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضَّرُورِيَّاتِ، أَوِ الْحَاجِيَّاتِ، أَو التَّكْمِيلِيَّاتِ (16)، فإِن كَانَتْ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فهي أَعظم الكبائر، وإِن وقعت في التحسينّيات فَهِيَ أَدنى رُتْبَةٍ بِلَا إِشكال، وإِن وَقَعَتْ في الحاجيّات فمتوسطة بين الرتبتين.

(1) في (خ) و (م): "عليها" بدل: "على أنها"، وفي (ت):"عليها أنها". وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل، "على أنها ليست بكفر".اهـ.

(2)

تقدم (ص206 ـ 209) تخريج حديث ردّ النبي صلى الله عليه وسلم التبتُّل عَلَى عُثْمَانَ بن مظعون.

(3)

تقدم (ص28) تخريج حديث ابن عباس في قصة نذر أبي إسرائيل أن يصوم ولا يستظلّ.

(4)

تقدم (ص28) حديث ابن مسعود في النهي عن الخصاء خشية العنت.

(5)

في (ر) و (غ): "النكاح".

(6)

انظر: (ص347).

(7)

راجع صفحة (337).

(8)

انظر: ما تقدم (ص275 و278 و316).

(9)

قال العز بن عبد السلام في "فتاويه"(ص393 ـ 395، تحقيق محمد جمعة): "ذكر الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم والسلاطين بدعة غير محبوبة، ولا يذكر في الخطبة إلا ما يوافق مقاصدها .. " إلخ ما قال.

(10)

قوله: "ذلك" سقط من (ر).

(11)

قوله: "ولا على نسبة واحدة" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(12)

في (ت) و (م) و (خ): "مع" بدل "على".

(13)

في (غ): "وهو".

(14)

في (خ) و (م): "والتحريم".

(15)

في (م) و (خ): "وجه"، ولذا علق عليها رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: "ووجه ثالث".اهـ.

(16)

قوله: "أو التكميليات" سقط من (ت).

ص: 355

ثُمَّ إِن كُلَّ رُتْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّتَب لَهَا مُكَمِّل، وَلَا يُمْكِنُ فِي المُكَمِّل أَن يَكُونَ فِي رُتْبَةِ المكمَّل؛ فإِن المُكَمِّل (1) مَعَ المُكَمَّل (2) فِي نِسْبَةِ الْوَسِيلَةِ مَعَ الْمَقْصِدِ، وَلَا تَبْلُغُ الْوَسِيلَةُ رُتْبَةَ الْمَقْصِدِ، فَقَدْ ظَهَرَ تَفَاوُتُ رُتَب المعاصي والمخالفات.

وأَيضاً فإِن الضَّرُورِيَّاتِ إِذا تُؤُمِّلَتْ وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التأْكيد وَعَدَمِهِ، فَلَيْسَتْ مَرْتَبَةُ النَّفْسِ كَمَرْتَبَةِ الدِّينِ، ولذلك (3) تُسْتَصْغَرُ حُرْمَةُ النَّفْسِ فِي جَنْبِ حُرْمَةِ الدِّينِ، فَيُبِيحُ الكفرُ الدمَ (4)، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ مُبِيحٌ لِتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ والإِتلاف (5)؛ فِي الأَمر بِمُجَاهَدَةِ (6) الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنِ الدِّين (7).

وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ (8) لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ، أَلا تَرَى أَن قَتْلَ النفس يُبيح القصاص (9) بالقتل، بِخِلَافِ الْعَقْلِ (10) وَالْمَالِ (11)؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ (12).

وإِذا نُظِر فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ (13) تَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَلَيْسَ قَطْعُ الْعُضْوِ كَالذَّبْحِ، وَلَا الْخَدْشُ كَقَطْعِ الْعُضْوِ، وَهَذَا كلُّه محلُّ بيانه الأُصول.

(1) في (غ) و (ر) و (م): "فإن التكميل".

(2)

قوله: "المكمل" سقط من (م).

(3)

في (خ) و (ت): "وليس" بدل "ولذلك".

لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً

} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1776).

(4)

في (ر) و (غ): "ولإتلاف".

(5)

في (ر) و (غ): "بجهاد" وفي (م): "مجاهد".

(6)

لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية.

(7)

في (ر) و (غ): "أو المال".

(8)

في (خ) و (ت): "مبيح للقصاص".

(9)

قوله: "بخلاف العقل" سقط من (ر)، وفي موضعه بياض في (غ).

(10)

لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .. } الآية.

(11)

قوله: "سائر ما بقي" سقط من (ر)، وفي موضعه بياض في (غ).

(12)

قوله: "مرتبة النفس" سقط من (ر) وفي موضعه بياض في (غ).

ص: 356