المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ وَمِنْهَا: انْحِرَافُهُمْ عَنِ الأُصول الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ وَمِنْهَا: انْحِرَافُهُمْ عَنِ الأُصول الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ

‌فَصْلٌ

وَمِنْهَا: انْحِرَافُهُمْ عَنِ الأُصول الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَوَاقِفُ، وَطَلَبُ الأَخذ بِهَا تأْويلاً كَمَا أَخبر اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ إِشَارَةً إِلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ بِالثَّالُوثِيِّ؛ بِقَوْلِهِ (1):{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (2). وَقَدْ عَلِمَ العلماءُ أَن كُلَّ دَلِيلٍ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وإِشكال لَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي الْحَقِيقَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَعْنَاهُ وَيَظْهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ. وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَن لَا يُعَارِضَهُ أَصل قَطْعِيٌّ. فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَعْنَاهُ لإِجمال أَو اشْتِرَاكٍ، أَو عَارَضَهُ قَطْعِيٌّ؛ كَظُهُورِ تَشْبِيهٍ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ؛ لأنَّ حَقِيقَةَ الدَّلِيلِ أَن يَكُونَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِهِ، وَدَالًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا احْتِيجَ إِلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ (3)، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فأَحْرَى أَن لَا يَكُونَ دَلِيلًا (4).

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تعارِض الفروعُ الجزئيةُ الأُصولَ الكليةَ؛ لأنَّ الْفُرُوعَ الْجُزْئِيَّةَ إِنْ لَمْ تَقْتَضِ عَمَلًا، فَهِيَ فِي مَحَلِّ التوقُّف، وَإِنِ اقْتَضَتْ عَمَلًا فَالرُّجُوعُ إلى الأُصول هو الصراط المستقيم، وتُتَأوَّلُ (5) الجزئيّات حتى

(1) في (غ) و (ر): "فقوله.

(2)

سورة آل عمران: الآية (7).

(3)

قوله: "عليه" ليس في (خ).

(4)

من المعلوم أن لنفاة الصفات مسلكين في النفي، وهما: 1 ـ التأويل. 2 ـ التفويض.

وكلام الشاطبي رحمه الله هنا، وفي مواضع عدّة من كتبه يدل على أنه ممن سلك مسلك المفوِّضة الذين يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعقل معناه، وقد جمع الشيخ ناصر الفهد ـ وفقه الله ـ شتات كلام الشاطبي في هذا، ورد على شبهته في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام"(ص30 ـ 39)، فانظره إن شئت.

(5)

في (م): "ويتأول"، وفي (خ):"ويتناول".

ص: 53

تَرْجِعَ (1) إِلَى الكلِّيَّات، فَمَنْ عَكْسَ الأَمر حَاوَلَ شَطَطًا، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الذَّمِّ؛ لأَن مُتَّبِعَ المتشابهات (2) مَذْمُومٌ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالْمُتَشَابِهَاتِ دَلِيلًا؟ أَوْ يُبْنَى (3) عَلَيْهَا حُكْمٌ مِنَ الأَحكام؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلِيلًا فِي نَفْسِ الأَمر، فَجَعْلُهَا دَلِيلًا (4) بِدْعَةٌ محدثة (5).

وَمِثَالُهُ فِي مِلَّة الْإِسْلَامِ: مَذَاهِبُ (6) الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثبات الْجَوَارِحِ (7) لِلرَّبِّ ـ المنزَّه عَنِ النَّقَائِصِ ـ؛ مِنَ العين واليد والرجل والوجه المحسوسات، وَالْجِهَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّابِتِ لِلْمُحْدَثَاتِ (8).

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا: أَن جَمَاعَةً زَعَمُوا أَن الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ تعلُّقاً بِالْمُتَشَابِهِ (9)، وَالْمُتَشَابُهُ الَّذِي تعلَّقوا بِهِ على وجهين: عقلي ـ في زعمهم ـ، وسمعي.

(1) قوله: "ترجع" ليس في (خ).

(2)

في (خ): "الشبهات".

(3)

في (غ) و (ر): "ويبنى".

(4)

قوله: "دليلاً" ليس في (خ).

(5)

في (خ): "فجعلها بدعة محدثة هو الحق".

(6)

في (خ): "مذهب".

(7)

في (غ): "الجوار"؛ سقطت الحاء.

(8)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "إن كان يريد بالظاهرية: المجسِّمة المشبِّهة الذين زعموا أن لله تعالى جوارح كأعضاء البشر، فهو مصيب، وإن أراد بهم أهل الأثر الذين أثبتوا له تعالى ما أثبته لنفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من العلو والصفات المعبَّر عنها بأسماء الجوارح، مع تنزيهه عن مشابهة الخلق فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء هم أهل السنة، ومن عداهم المبتدعة؛ لمخالفتهم للسلف. ولا فرق بين أسماء الجوارح وأسماء المعاني؛ كالعلم والكلام، فإن علم الله ليس كعلم البشر، ويده التي أثبتها لنفسه ليست كيد الإنسان أيضاً، وعقيدة التنزيه هي التي تنفي التشبيه".اهـ.

ومن الواضح من تتبع كلام الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه هذا وفي "الموافقات" أن مراده هم أهل الأثر الذين أثبتوا صفات الله عز وجل كما يليق بجلاله؛ حيث مشى رحمه الله في هذا الباب على طريقة الأشاعرة.

وقد تتبع هذه المواضع الأخ ناصر بن حمد الفهد في رسالة "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام"، وناقشها ببيان الحق الذي أخطأه المؤلف فيها.

أما تعليق سليم الهلالي على هذا الموضع بأن مراد الشاطبي هم المشبهة، ثم قوله:"فمن تتبع عقيدة المصنف من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره"، فهو كلام من لم يتتبع عقيدة المصنف في سياق كتابه!!

(9)

في (غ) و (ر): "بالمتشابهات".

ص: 54

فَالْعَقْلِيُّ: أَن صِفَةَ الْكَلَامِ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ، وذات الله تعالى عندهم بريئة من التركيب جملة، وإثبات صفات للذات (1) قَوْلٌ بِتَرْكِيبِ الذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لأَنه وَاحِدٌ عَلَى الإِطلاق، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِهِ، كَمَا لَا يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، أَو عَالِمًا بِعِلْمٍ قَائِمٍ بِهِ، إِلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ.

وأَيضاً فَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بأَصوات وَحُرُوفٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْبَارِي مُنَزَّه عَنْهَا.

وَبَعْدَ هَذَا الأَصل يَرْجِعُونَ إِلَى تأْويل قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) وأَشباهه.

وأَما السَّمْعي (3): فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4)، وَالْقُرْآنُ إِما (5) أَن يَكُونَ شَيْئًا، أَو لَا شَيْءَ، وَلَا شَيْءٌ عَدَمٌ، وَالْقُرْآنُ ثَابِتٌ، هَذَا خِلْفٌ. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَقَدْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ، فَهُوَ إِذًا مَخْلُوقٌ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمَرِيسِيُّ عَلَى عبد العزيز المكِّي رحمه الله تعالى (6).

وَهَاتَانِ الشُّبْهَتَانِ أَخذٌ فِي التعلُّق بِالْمُتَشَابِهَاتِ، فإِنهم قَاسُوا (7) الْبَارِي عَلَى البريَّة، وَلَمْ يَعْقِلُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَتَرَكُوا مَعَانِيَ الْخِطَابِ، وَقَاعِدَةَ الْعُقُولِ.

أَما تَرْكُهُمْ لِلْقَاعِدَةِ: فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي قَوْلِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (8)، وهذه الآية نقلية عَقْلِيَّةٌ؛ لأَن الْمُشَابِهَ (9) لِلْمَخْلُوقِ فِي وَجْهٍ مَا مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ؛ إِذْ مَا وَجَبَ للشيءِ وَجَبَ لمثله، فكما تكون الآية دليلاً على

(1) في (م) و (خ): "الذات".

(2)

سورة النساء: الآية (164).

(3)

في (غ) و (ر): "وإما سمعي".

(4)

سورة الزمر: آية (62).

(5)

في (م): "إما شيء"، وكأنه ضرب على قوله:"شيء".

(6)

انظر: الإشارة إلى هذه المناظرة والكلام حول هذا الاستدلال ورد أهل العلم عليه في "فتح الباري"(13/ 532).

(7)

في (غ) و (ر): "قالوا".

(8)

سورة الشورى: آية (11).

(9)

في (خ): "المتشابه".

ص: 55

المشبِّهة (1)، تكون دليلاً على هؤلاء (2)؛ لأَنهم عَامَلُوهُ فِي التَّنْزِيهِ مُعَامَلَةَ الْمَخْلُوقِ؛ حَيْثُ توهَّموا أَن اتِّصاف ذَاتِهِ بِالصِّفَاتِ يَقْتَضِي التَّرْكِيبَ فِي الذَّات (3).

وأَما تَرْكُهُمْ لِمَعَانِي الْخِطَابِ (4): فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: "السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، أو "السميع (5) الْعَلِيمُ"، أَو "الْقَدِيرُ" ـ وَمَا أَشبه ذَلِكَ ـ إِلا مَنْ لَهُ سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ اتَّصف بِهَا، فإِخراجها عَنْ (6) حَقَائِقِ مَعَانِيهَا الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا خُرُوجٌ عَنْ أُم الْكِتَابِ إِلى اتِّبَاعِ مَا تَشَابَهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ؛ حيث (7) رَدُّوا هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلى الأَحوال الَّتِي هِيَ الْعَالِمِيَّةُ وَالْقَادِرِيَّةُ، فَمَا أَلزموه فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ؛ لأَنها إِما مَوْجُودَةٌ، فَيَلْزَمُ التَّرْكِيبُ، أَو مَعْدُومَةٌ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ.

وَأَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ هُوَ الأَصوات وَالْحُرُوفُ، فبناءً على النظر في كلام النفس (8)، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الأُصول (9).

وأَما الشُّبْهَةُ السَّمْعِيَّةُ: فكأَنها عِنْدَهُمْ بالتَّبَعِ؛ لأَن الْعُقُولَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمُعْتَمِدَةُ (10)، وَلَكِنَّهُمْ يُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ الدَّلِيلُ مِثْلُ مَا فرّوا منه؛ لأَن قوله

(1) في (غ) و (ر): "على الشبهة"، وفي (خ):"على نفي الشبه".

(2)

في (خ) و (م): "دليلاً لهؤلاء".

(3)

قوله: "في الذات" ليس في (خ).

(4)

في (غ) و (ر) و (م): "وأما معاني الخطاب".

(5)

في (خ): "والسميع".

(6)

في (غ) و (ر): "على" بدل "عن".

(7)

في (خ): "وحيث".

(8)

في (خ): "على عدم النظر في الكلام النفسي".

(9)

مشى المؤلف رحمه الله هنا على طريقة الأشاعرة في القول بأن كلام الله عز وجل معنى نفسي لا تعدد فيه، وليس بحرف ولا صوت. وذلك منهم فرار من إثبات الحرف والصوت في كلام الله عز وجل لما توهّموه في ذلك من التشبيه.

ومعتقد أهل السنة: أن كلام الله عز وجل قديم النوع حادث الآحاد، وأنه يتكلم بصوت، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء.

انظر تفصيل ذلك في: "الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي"، و"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"(5/ 463، 533، 553)، (6/ 632 ـ 639)، و"مختصر الصواعق" لابن القيم (ص500).

(10)

في (خ): "هي العمدة المعتمدة".

ص: 56

تعالى: {اللَّهِ (1) خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} إِما أَن يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ شيءٌ، أَو لَا؟ فَإِنْ كَانَ عَلَى عمومه لزمهم في ذاته وأحوالها التي أثبتوها عوضاً من الصفات، وإن لم يكن عَلَى عُمُومِهِ (2)، فَتَخْصِيصُهُ إِمَّا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ـ وَهُوَ التحكُّم ـ، وَإِمَّا بِدَلِيلٍ، فأَبرزوه حَتَّى نَنْظُرَ (3) فِيهِ، وَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الإِرادة إِن رَدُّوا الْكَلَامَ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ إِنْ أَقرُّوا بِهَا، أَوِ الأَحوال إِن أَنْكَرُوهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ معهم بحسب الوقت.

والذي يليق بموضوع المسألة (4) أَنواع أُخر مِنَ الأَدلة الَّتِي تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْمَذْهَبِ بِدْعَةً لَا يُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ (5).

ومن أغرب (6) ما يوضع ههنا: مَا حَكَاهُ الْمَسْعُودِيُّ (7) ـ وَذَكَرَهُ الآجُرِّي فِي كِتَابِ "الشريعة"(8)

(1) لفظ الجلالة: "الله" ليس في (غ) و (ر).

(2)

من قوله: "لزمهم في ذاته" إلى هنا سقط من (خ) و (م).

(3)

في (خ) و (ر) و (غ): "تنظر".

(4)

في (خ): "يليق بالمسألة".

(5)

في (خ): "الشريعة".

(6)

في (غ) و (ر): "ومن أقرب".

(7)

في "مروج الذهب"(4/ 216 ـ 220) بلا إسناد.

(8)

(1/ 239 ـ 244 رقم 216) عن شيخه أبي عبد الله جعفر بن إدريس القزويني، عن أحمد بن الممتنع بن عبد الله القرشي التيمي، عن صالح بن علي، به.

وشيخ الآجري جعفر بن إدريس القزويني ضعفه الدارقطني كما في "لسان الميزان"(2/ 312 رقم 1991).

ولكنه لم ينفرد بها، بل تابعه أحمد بن سندي الحداد؛ قال: قرئ على أحمد بن الممتنع ـ وأنا أسمع ـ؛ قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي

، فذكرها.

أخرج هذه الرواية الخطيب في "تاريخه"(10/ 75 ـ 78)، ومن طريقه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد"(ص432 ـ 436).

وأحمد بن الممتنع الذي عليه مدار هذا الطريق قال عنه الدارقطني: "صالح" كما في "تاريخ بغداد"(5/ 170).

وصالح بن علي الهاشمي لم يتبين من حاله سوى ما جاء في رواية الآجري: "وكان من وجوه بني هاشم وأهل الجلالة والشأن منهم".

ولما أخرج الخطيب الرواية السابقة قال: "أخبرنا أبو بكر عبد الله بن حمويه بن أبزك=

ص: 57

بِأَبْسَطِ (1) مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْمَسْعُودِيِّ مَعَ إِصْلَاحِ بَعْضِ الأَلفاظ ـ؛ قَالَ: ذَكَرَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: حَضَرْتُ يَوْمًا مِنَ الأَيام جُلُوسَ الْمُهْتَدِي لِلْمَظَالِمِ، فرأَيت مِنْ سُهُولَةِ الوصول [إليه](2)، وَنُفُوذِ الْكُتُبِ عَنْهُ إِلَى النَّوَاحِي فِيمَا يُتَظَلَّمُ بِهِ إِلَيْهِ مَا اسْتَحْسَنْتُهُ، فأَقبلت أَرمقه بِبَصَرِي، إِذَا نَظَرَ فِي الْقَصَصِ، فإِذا رَفَعَ طَرْفَهُ إليَّ أَطرقت، فكأَنه عَلِمَ مَا فِي نَفْسِي.

فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَحسب أَن فِي نَفْسِكِ شَيْئًا تُحِبُّ أَن تَذْكُرَهُ ـ قَالَ ـ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! فأَمسك. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جُلُوسِهِ أَمر أَن لَا أَبرح، وَنَهَضَ، فجلست جلوساً طويلاً، ثم دعاني (3)، فَقُمْتُ إِليه وَهُوَ عَلَى حَصِيرِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَتحدثني بِمَا فِي نَفْسِكَ؟ أَم أُحدثك؟ فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ مِنْ أَمير المؤمنين أحسن.

=الهمذاني ـ بها ـ؛ قال: سمعت أبا بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ ـ وحدثنا بحديث الشيخ الأَذَني ومناظرته مع ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق ـ، فقال: الشيخ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرَمي".

وأخرج الخطيب أيضاً (4/ 151 ـ 152) هذه القصة من طريق طاهر بن خلف؛ قال: سمعت محمد بن الواثق ـ الذي يقال له: المهتدي بالله ـ يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأُتي بشيخ مخضوب مقيد

، فذكر القصة، ومن طريقه أخرجها ابن الجوزي أيضاً (ص431).

وذكر الذهبي في "السير"(10/ 307 ـ 309) القصة من هذا الطريق وطريق عبيد الله بن يحيى، عن إبراهيم بن أسباط، قال: حمل رجل مقيد

، فذكرها، ثم قال الذهبي:"في إسنادها مجاهيل، فالله أعلم بصحتها".

وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرمي من "التهذيب"(2/ 420): "القصة مشهورة حكاها المسعودي وغيره، ورواها الشيرازي في "الألقاب" بإسناد له قال فيه: إن الشيخ المناظر هو الأذرمي هذا. ورواها ابن النجار في ترجمة محمد بن الجهم السامي، فذكر أن الرجل من أهل أذنة، وأنه كان مؤدِّباً بها".

(1)

في (غ) و (ر): "أبسط".

(2)

ما بين المعقوفين زيادة من "مروج الذهب".

(3)

قوله: "ثم دعاني" ليس في (خ) و (م).

ص: 58

فقال: كأني (1) بك وقد استحسنت ما رأيت (2) مِنْ مَجْلِسِنَا، فَقُلْتُ: أَيّ خَلِيفَةٍ خَلِيفَتُنَا! إِنْ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ (3) بِقَوْلِ أَبِيهِ مِنَ الْقَوْلِ بخلق القرآن. [فقلت: نعم](4). فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، حتى أُقْدِمَ (5) عَلَى الْوَاثِقِ (6) شَيْخٌ (7) مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ من "أَذَنَة"(8)؛ من الثَّغْر الشامي، مُقَيَّدٌ طوَالٌ (9)، حَسَنَ الشَّيْبة، فسلَّم غيرَ هَائِبٍ، وَدَعَا فأَوجز، فرأَيت الْحَيَاءَ مِنْهُ فِي حَمَالِيق عَيْنَيِ الْوَاثِقِ وَالرَّحْمَةَ عَلَيْهِ.

فَقَالَ: يَا شَيْخُ (10)! أَجِبْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحمد بْنَ أَبي دُؤَاد (11) عَمَّا يسأَلك عَنْهُ. فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! أَحمد يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ. فَرَأَيْتُ الْوَاثِقَ وقد (12) صار مكان الرحمة عليه والرِّقَّة له غَضَبًا (13)، فَقَالَ: أَبو عَبْدِ اللَّهِ يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ (14) عِنْدَ مُنَاظَرَتِكَ؟ فَقَالَ: هوِّن عَلَيْكَ يَا أَمير المؤمنين! أَتأْذن (15) فِي كَلَامِهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: قَدْ أَذنت (16) لك.

فأَقبل الشَّيْخُ عَلَى أَحْمَدَ، فَقَالَ: يَا أَحمد! إِلامَ دَعَوْتَ النَّاسَ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ (17) لَهُ الشَّيْخُ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ القرآن، أَداخلة في الدين فلا يكون

(1) في (خ): "كأنني".

(2)

قوله: "ما رأيت" ليس في (خ) و (م).

(3)

في (خ): "يقل".

(4)

ما بين المعقوفين زيادة من "مروج الذهب".

(5)

في (م): "قدم".

(6)

قوله: "على الواثق" ليس في (غ) و (ر).

(7)

في (خ): "شيخاً".

(8)

قوله: "من أذنة" ليس في (غ) و (ر).

وأذنة: بلد من الثغور قرب المصِّيصة بنيت سنة (190هـ) في وقت هارون الرشيد. انظر: "معجم البلدان"(1/ 133).

(9)

في (خ): "مقيداً طوالاً".

(10)

في (غ) و (ر): "أيا شيخ".

(11)

في (غ) و (ر) و (م): "داود".

(12)

في (غ) و (ر): "قد".

(13)

في (خ): "الرحمة غضباً عليه".

(14)

في (خ): "يقلل".

(15)

في (خ): "أتأذن لي".

(16)

قوله: "قد أذنت" ليس في (غ).

(17)

في (غ) و (ر): "قال".

ص: 59

الدِّينُ تَامًّا إِلَّا بِالْقَوْلِ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الشَّيْخُ: فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا أَم تَرَكَهُمْ؟ قَالَ: تركهم (1). قال له: فَعَلِمَها (2) أَم لَمْ يَعْلَمْهَا؟ قَالَ: عَلِمَهَا. قَالَ: فَلِمَ دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَى مَا لَمْ يَدْعُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ (3) وَتَرَكَهُمْ مِنْهُ؟ فأَمْسَكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! هَذِهِ وَاحِدَةٌ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَخبرني يَا أَحمد! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (4) الآية؛ فقلت أنت: إن (5) الدِّينُ لَا يَكُونُ تَامًّا إِلَّا بِمَقَالَتِكَ بِخَلْقِ القرآن، فالله عز وجل أَصْدَقُ (6) فِي تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ أَمْ أَنت فِي نُقْصَانِكَ (7)؟ فأَمسك. فَقَالَ الشَّيْخُ (8): يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ ثَانِيَةٌ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخبرني يَا أَحْمَدُ! قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن ربِّكَ وَإِن لَّم تَفْعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَاتِهِ} (9)، فَمَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا فِيمَا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْأُمَّةِ أَمْ لَا؟ فأمْسَكَ. فَقَالَ (10) الشَّيْخُ (11): يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ ثَالِثَةٌ.

ثُمَّ قَالَ له (12) بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخبرني يَا أَحمد! لمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَكَ هذه التي دعوت الناس إلى القول بها (13): اتَّسع له أَنْ (14) أَمسك عَنْهُمْ أَم لَا؟ قَالَ أَحْمَدُ: بَلِ اتَّسَع لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ: وَكَذَلِكَ لأَبي بَكْرٍ؟ وَكَذَلِكَ لِعُمَرَ؟ وَكَذَلِكَ لِعُثْمَانَ؟ وَكَذَلِكَ لَعَلِّيٍّ ـ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ـ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَرَفَ وَجْهَهُ إِلَى الْوَاثِقِ وَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِذَا لَمْ (15) يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسع لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ولأَصحابه فلا وسَّع الله علينا. فقال الْوَاثِقُ: نَعَمْ! لَا وسَّع اللَّهُ عَلَيْنَا إِذَا لم

(1) في (خ) و (م)"لا" بدل "تركهم".

(2)

في (خ): "يعلمها".

(3)

قوله: "إليه" ليس في (غ) و (ر) و (م).

(4)

سورة المائدة: الآية (3).

(5)

قوله: "إن" ليس في (خ).

(6)

في (خ): "فالله تعالى عز وجل صدق".

(7)

في (غ) و (ر): "نقصانه".

(8)

قوله: "الشيخ" ليس في (غ) و (ر).

(9)

سورة المائدة: الآية (67). وهكذا جاء في سائر النسخ: "رسالاته"، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر كما في "حجة القراءات" (ص232). وقرأ الباقون:"رسالته".

(10)

في (غ): "وقال".

(11)

قوله: "الشيخ" ليس في (غ) و (م) و (ر).

(12)

قوله: "له" ليس في (خ) و (م).

(13)

في (خ): "دعوت الناس إليها".

(14)

في (خ): "عن أن".

(15)

قوله: "لم" ليس في (غ) و (ر).

ص: 60

يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولأَصحابه (1). ثُمَّ قَالَ الْوَاثِقُ: اقْطَعُوا قُيُودَهُ. فَلَمَّا فُكَّت جَاذَبَ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْوَاثِقُ: دَعُوهُ! ثُمَّ قَالَ: يَا شَيْخُ! لِمَ جَاذَبْتَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: لأَني عَقَدْتُ فِي نيَّتي أَنْ أُجاذب عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخَذْتُهَا أَوصيت أَن تُجعل بين بدني وكفني حتى (2) أقول: يا رب! سل عبدك: لم قيَّدني ظلماً وأراع (3) فيَّ أَهلي؟ فبكى الواثق، وبكى (4) الشيخ، وبكى (4) كل مَنْ حَضَرَ (5). ثُمَّ قَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: يَا شَيْخُ! اجْعَلْنِي فِي حلٍّ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! مَا خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى جَعَلْتُكَ فِي حلٍّ إِعْظَامًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِقَرَابَتِكَ مِنْهُ. فتهلَّل وَجْهُ الْوَاثِقِ وسُرّ، ثُمَّ قَالَ لَهُ (6): أَقم عندِي آنَسُ بِكَ (7)، فَقَالَ لَهُ: مَكَانِي فِي ذَلِكَ الثَّغر أَنفع، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَلِي حَاجَةٌ، قَالَ: سَلْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: يأْذن أَمِيرُ المؤمنين في الرجوع (8) إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْهُ هَذَا الظَّالِمُ (9). قَالَ: قَدْ أَذنت لَكَ، وأَمر لَهُ بِجَائِزَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَرَجَعْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ (10) تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَأَحْسَبُ أَيضاً أنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْهَا.

فتأَمَّلوا هَذِهِ الْحِكَايَةَ فَفِيهَا عِبْرَةٌ لأُولي الأَلباب، وَانْظُرُوا كَيْفَ مأْخذ (11) الْخُصُومِ فِي إِفْحَامِهِمْ (12) لِخُصُومِهِمْ، بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَمَدَارُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْفَصْلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ؛ إنما هو (13)

(1) في (خ) زيادة "فلا وسع الله علينا".

(2)

في (خ): "ثم" بدل "حتى".

(3)

في (خ) و (م): "وارتاع".

(4)

قوله: "بكى" ليس في (خ) في كلا الموضعين.

(5)

في (ر) و (غ): "حضره".

(6)

قوله: "له" ليس في (غ) و (ر).

(7)

في (غ): "أبك".

(8)

في (خ): "رجوعي".

(9)

في (خ) فوق كلمة "الظالم": "هو ابن أبي دؤاد".

(10)

في (خ) و (م): "على".

(11)

في (م): "يأخذ".

(12)

في (خ): "إحجامهم".

(13)

في (خ): "حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ".

ص: 61

الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَعَدَمِ ضَمِّ أَطرافه بَعْضِهَا إلى بعض (1)؛ فإِن مأْخذ الأَدلة عِنْدَ الأَئمة الرَّاسِخِينَ إِنما هي (2) عَلَى أَن تُؤْخَذَ الشَّرِيعَةُ كَالصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسْبِ مَا ثَبَتَ مِنْ كلِّيَّاتها وجزئيَّاتها المرتَّبة عَلَيْهَا، وَعَامِّهَا الْمُرَتَّبِ عَلَى خَاصِّهَا؛ وَمُطْلَقِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى مقيدها، ومجملها المفسَّر بمبيَّنها (3)، إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَنَاحِيهَا (4). فإِذا حَصَلَ لِلنَّاظِرِ مِنْ جُمْلَتِهَا حُكْمٌ مِنَ الأَحكام فذلك هو الذي نطقت (5) به حين استُنطقت (6).

وَمَا مِثْلُهَا إِلَّا مَثَلُ الإِنسان الصَّحِيحِ السَّويّ، فكما أَن الإِنسان لا يكون إِنساناً يستنطق فينطق (7) بِالْيَدِ وَحْدَهَا، وَلَا بِالرِّجْلِ وَحْدَهَا (8)، وَلَا بالرأْس وَحْدَهُ، وَلَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، بَلْ بِجُمْلَتِهِ الَّتِي سُمّي بِهَا إِنساناً، كَذَلِكَ الشَّرِيعَةُ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا الْحُكْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا بِجُمْلَتِهَا، لَا مِنْ دَلِيلٍ مِنْهَا أَي دَلِيلٍ كَانَ، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِي الرأْي نُطْقُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فإِنما هُوَ توهُّمي لَا حَقِيقِيٌّ؛ كَالْيَدِ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ فإِنما تَنْطِقُ توهُّماً لَا حَقِيقَةً، مِنْ حَيْثُ عَلِمْتَ أَنها يَدُ إِنْسَانٍ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنسان؛ لأَنه مُحَالٌ.

فشأْن الرَّاسِخِينَ تَصَوُّرُ (9) الشَّرِيعَةِ صُورَةً وَاحِدَةً يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ كأَعضاء الإِنسان إِذا صُوِّرَتْ صُورَةً متَّحدة.

وشأْن متَّبعي (10) الْمُتَشَابِهَاتِ أَخذ دَلِيلٍ مَا أَيّ دَلِيلٍ كَانَ، عَفْوًا وأَخذاً أَوَّلياً، وإِن كَانَ ثمَّ ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكما أن (11) الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يُعْطَى فِي مَفْهُومِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ حُكْمًا حَقِيقَيًّا، فمُتَّبعه متَّبعُ متشابهٍ، وَلَا يَتْبَعُهُ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ كَمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (12).

(1) في (خ): "لبعض"، وفي (م):"ببعض".

(2)

في (خ): "هو".

(3)

في (خ): "بينها"، وفي (م):"ببينها".

(4)

في (م): "مناخيها".

(5)

في (خ): "فذلك الذي نظمت".

(6)

في (خ) و (م): "استنبطت".

(7)

في (خ): "إنساناً حتى يستنطق فلا ينطق".

(8)

في (م) و (ر): "وحده".

(9)

في (غ) و (ر): "تصوير".

(10)

في (غ) و (ر): "مبتغي".

(11)

في (خ): "فكان".

(12)

سورة النساء: آية (87)، وفي (خ):"ومن أصدق من الله قيلاً".

ص: 62